عبدالله بن حذافة: التوازن بين المبادئ والمصالح

بقلم د: صالح محمد المبارك

 

عبدالله بن حذافة السهمي صحابي جليل من المهاجرين السابقين، حمّله الرسول الأكرم بكتابه إلى كسرى، وذلك عندما أرسل الكتب إلى ملوك الدّول العظمى آنذاك ليدعوهم إلى الإسلام. وقد شهد عبدالله فتح مصر، وتوفّي فيها أيّام الخليفة عثمان بن عفّان سنة 33 للهجرة.
 
بعد أن استقرت دولة الإسلام في الشام وتولى أمرها معاوية بن أبي سفيان من قبل سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه، كتب إليه يأمره بغزو الروم، وبأن يولي على الجيش عبدالله بن حذافة السهمي ففعل. خرج الجيش لغزو الروم، فغزاهم وأوقع بهم، ولكن عبدالله وثلة قليلة كانت معه وقعوا في كمين من الروم فأخذوهم أسرى.
 
كان هرقل رجلا ذكيا حصيفا والذكاء يتطلب معرفة العدو النفسية والعقدية وكان مما يحيّر هرقل ذلك التغير المفاجئ الذي طرأ على نفسية العرب فانقلبوا من قبائل متناحرة يغير بعضها على بعض لأسباب تافهة ويباع ولاؤها ويشترى بأثمان بخسة، إلى أمة ذات عقيدة ولاؤها لله لا يباع ولا يشترى ولاتقيم لمتاع الدنيا وزخرفها وزنا في أهدافها أو وسائلها. لم يكن هرقل متأكدا من صلابة تلك العقيدة ومن حقيقة ذلك التغيير الذي طرأ على أولئك الأعراب البعيدين عن الحضارة المتمثلة آنئذ بالدولتين العظميين المتنافستين: الفرس والروم. لم يكن العرب وقتها إلا مجموعات لا وزن لها تدور في فلك إحدى الدولتين العظميين وتقبل بالفتات يلقى لها لتقدم فروض الطاعة لأسيادها. كيف ينقلب العبد الذليل الضعيف الذي يقبل الفتات ويقبّل يد سيده إلى سيد عزيز ينظر إلى سيده السابق نظرة الندّ الذي لايهابه بل إنه يدعوه إلى اتباع دينه ويأمره بالعدل وينهاه عن الظلم ويهدده إذا لم يقبل بذلك؟ كيف؟ ما الذي حدث في هذه السنوات القليلة وما الذي غير نفوسهم وعقولهم؟
والرجل الحصيف يحلل الموقف ولابد للتحليل من وجود عيّنة أوشريحة من أولئك الأعراب يخضعها هرقل للتحليل الجسمي والنفسي ويعرضها لفتنته حتى يعرف حقيقة التغيير ومدى صلابته لكي يصل إلى معرفة طرق التفوق عليه وهزيمته. اختبار عبدالله بدأ بأمر هرقل له بالتنصر فيأبى عبدالله فيأمر هرقل بإعدامه ويوصي رماته سرا أن يرموا سهامهم قرب عبدالله وألا يصيبوه. فلم يأبه عبدالله بالموت يحيط به! فانتقل الامتحان إلى التهديد بالموت البطيء بتعريضه لألم الجوع والعطش فكان سجّانه يجوّعه ولا يعطيه إلا لحم خنزير ثم يعطّشه ولا يوفر له من الشراب إلا خمرا وعبدالله يأبى هذا وذاك حتى أشرف على الهلاك. فأمر هرقل عندئذ بإعطائه كل أنواع الأطعمة والأشربة الشهية، كما وفروا له الألبسة الفاخرة ولكن عبدالله كان أذكى منهم فلم يبلع الطعم! فكان لا يأكل إلا قوتاً ولا يشرب إلا كفافاً ولا يبدّل ثوبه إلا إذا اتسخ. وكان بود هرقل أن ينغمس عبدالله في النعيم فيستطيبه فيتعود عليه ويتعلق به ثم يُحرم منه فيبيع مبدأه لاسترجاعه. ففشلت خطة هرقل! ولكن فتنته لعبدالله انتقلت إلى مرحلة أكثر ترغيبا وأشد ترهيبا فحاول هرقل فتنته بالنساء – وما أدراك ما نساء بني الأصفر في قصور هرقل- فأبى عبدالله واستعصم وفضّل ما عند الله.
وكان كلما اجتاز عبدالله امتحانا لهرقل كلما ازداد إعجاب هرقل به – وبمبدئه بالطبع- وازداد في نفس الوقت إصراره على كسب معركة الإرادة مع عبدالله. كان هرقل يريد من عبدالله أن يتراجع عن دينه بالقول أو الفعل وذلك بأن يتنصّر أو أن يأكل لحم الخنزير ويشرب الخمر ويعاشر النساء سفاحا... لم يكن الشكل مهما إنما المهم أن يتراجع عبدالله عن دينه ومبدئه ولكنه أبى أن يقول أو يفعل حتى ما يوحي بالتخلي عن مبدئه أو التنازل قيد أنملة عن تعاليم دينه.
زاد هرقل في الإغراءات المقدمة إلى عبدالله من مأكل ومشرب ونساء فاتنات وذهب وأموال حتى وصل معه إلى شطر ملكه. نعم عرض عليه أن يكون شريكه في الملك إن تنصر! فقطع عبدالله عليه طريق المفاوضات والإغراءات وقال له: والله لو عرضت عليّ كل مملكتك ما تركت ديني. يئس هرقل من إغراء عبدالله ولكنه لم يسلم بالهزيمة بعد فعاد إلى أسلوب الترهيب، ولكن بشكل أكثرعنفا وأشد إيلاما، فأمر باثنين من أسرى المسلمين فأمرا أن يتنصرا فأبيا، فألقيا في زيت يغلي فاستشهدا وانفصلت عظامهما عن لحمهما بشكل يخلع القلوب، فبكى عبدالله! فظن رجال هرقل أنه انهار وضعف فأخبروا سيدهم أن عبدالله قد "نضج" الآن! فأحضر عبدالله إلى هرقل وطلب منه أن يتنصر فأبى. فسأله هرقل: إذن لم بكيت؟ فقال عبدالله: والله وددت أن لي ألف نفس فتزهق كلها في سبيل الله. كانت تلك الإجابة النهاية العملية لتجربة هرقل، وكان استنتاجه واضحا لا لبس فيه: إن هذا الأعرابي المسلم من معدن  جديد غريب لا ينصهر ولا ينثني ولا ينكسر.
 
 
ما الحل الآن لهرقل؟ لقد هزمه عبدالله في معركة الإرادة. ولو كان هرقل أحمق ككسرى لقتل عبدالله وشفى غليله من دمه ولكن هرقل بذكائه وحكمته علم أن قتل عبدالله انتصار لعبدالله وهزيمة مجلجلة لهرقل. فلابد من خطة إذن يخرج بها هرقل بانتصار رمزي لينقذ ما تبقى من ماء وجهه، ولكن ماذا عساه يطلب من عبدالله؟ إن عبدالله سيرفض التنازل عن أي من مبادئ دينه وعقيدته فلا بد من طلب معقول يرضي هرقل ولا يُمثل تنازلا عن المبادئ لعبدالله. فكر الملك ثم أرسل إلى عبدالله وقال له: هل لك أن تقبّل رأسي وأطلق سراحك؟ وتقبيل الرأس عند العرب تكريم للمقبَّل من غير إهانة للمقبِّل. عند هذه المرحلة كان هرقل قد وصل إلى آخر مراحل التنازل في المطالب وكانت قبلة رأسه أدنى ما يرضى به ولاشك أن بين التنصر وقبلة الرأس بوناً شاسعاً لكن هرقل كان يدرك مدى صلابة عبدالله في مبدئه فكما يقول المثل "إذا أردت أن تُطاع فاطلب ما يُستطاع" وأراد أن يعطي لنفسه ثقة أكبر في احتمال "تعاون" عبدالله معه وانقاذ ماء وجهه فخفض سقف الطلبات تخفيفا كبيرا.
 
 
لاشك أن هرقل كان ذكيا ولكن عبدالله فاقه ذكاء وبراعة في المفاوضات رغم التفوق الهائل لهرقل في ميزان القوى المادية. عبدالله أدرك تماما ما يريده هرقل وأدرك أن مطلب هرقل الجديد لايشكل تنازلا عن مبدأ من طرفه ولاتهاونا في دينه، كما أنه أدرك استماتة هرقل في إحراز هذا النصر المعنوي ولذلك فإنه في موقع قوة. نعم، هو الأسير الضعيف أمام الملك القوي ذي الجيوش والأموال ولكن عنده ما يتوق ذلك الملك إليه ولايستطيع جيشه أو أمواله توفيرها له. قرر عبدالله لعب تلك الورقة الوحيد في يده بذكاء وأن يحصل على أعلى قيمة ممكنة له. ماذا يمكن أن يطلب: أموالا ونساء؟ هذا ممكن ولكن تفكير عبدالله كان أسمى وأنبل من ذلك، فقد كان عبدالله يفكر في إخوانه الأسرى في سجون هرقل، فجاء جوابه: أقبل رأسك وتطلق سراحي وسراح كل أسرى المسلمين. جواب كان فيه مغامرة محسوبة: ماذا لو قال له هرقل: لا بل أعفو عنك أنت فقط ، فهل يتراجع عبدالله عندئذ ويقبل؟ لعل عبدالله - بنظره الثاقب وإحساسه باستماتة هرقل من أجل هذا النصر الرمزي - رجح أن يقبل هرقل بشرطه ولكنه كان مستعدا للاحتمال الآخر: الرفض، ولم يكن التراجع ممكنا في قاموس عبدالله فالرفض يعني الموت. أما هرقل فكان متوتر الأعصاب، هذا هو المطلب النهائي والأخير: هل أنقذ ما تبقى من ماء وجهي أم ينتصر عليّ هذا الأعرابي الجلف؟ فما إن سمع هرقل جواب عبدالله حتى رقص قلبه فرحا: لقد قبل هذا الأعرابي المسلم العنيد أن يقبل رأسي، فلم يتردد ولم يضيّع وقتا وصاح على الفور: قبلت... تقبل رأسي وأعفو عنك وعن كل أسرى المسلمين. لقد سارع هرقل إلى إبرام الصفقة مع عبدالله قبل أن يتراجع الأخير عن قبوله ولو طلب عبدالله طنا من الذهب مع الأسرى لوافق هرقل، ولكن عبدالله أراد أن يُفهم هرقل أننا أمة تحترم مبادئها وتحرص على حرية أبنائها ولا تعرف الأنانية أو المادية أو الانبطاح على أقدام الملوك.
 
 
تمت الصفقة برضى الطرفين ووفى كل طرف بالتزاماته في الصفقة ولكن بالتأكيد خرج عبدالله منتصرا رافع الرأس ونجح في إنقاذ إخوانه من سجن هرقل، وقنع هرقل بنصره الصغيرالكبير: لقد قبل الأعرابي المسلم رأسه...
عاد عبدالله وإخوانه إلى المدينة المنورة أحرارا رافعي رؤوسهم: لقد ذهبوا مسلمين وعادوا مسلمين ولم يأبهوا لترغيب هرقل أو ترهيبه. سرّ أمير المؤمنين عمر بن الخطاب سرورا عظيما بمقدمهم فقد كان الفاروق رضي الله عنه يستشعر بمسؤوليته أمام الله عن كل فرد في رعيته بل عن كل مخلوق من بشر أو حيوان، فلما علم بقصة عبدالله مع هرقل قام في المسجد فقبل رأسه وقال: حريّ بكل مسلم أن يقبّل رأس عبدالله.
 
 
انتهت القصة نهاية سعيدة ولكن سؤالا واحدا دار في خلد الفاروق: يرحمك الله، ما منعك إذ بلغ بك الجهد ما بلغ أن تأكل لحم الخنزير، وأن تشرب الخمر، فقال: والله يا أمير المؤمنين، لقد علمت أن ذلك موسع لي فيه، ولكنني كرهت أن يشمت الروم وهرقل بالإسلام وأهله. لقد استشعر عبدالله – رضي الله عنه وأرضاه- أنه في موقع يمثل الإسلام أمام هرقل وجمعه وأن تراجعه أمامهم يمثل هزيمة معنوية للإسلام والمسلمين وليس لشخص عبدالله ابن حذافة فأبى عندئذ عبدالله أن يؤتى الإسلام من قبله وقرر ألا يأخذ بالرخصة التي كان عمار بن ياسر رضي الله عنها قد أخذ بها فذكر رسول الله بسوء بعدما تعرض للعذاب الشديد فأقرّه الرسول صلى الله عليه وسلم بل قال له "ولو عادوا عد" أي إذا عادوا إلى تعذيبك فقل لهم ما يحبون حتى يتركوك. ولسنا هنا نفاضل بين صحابيين جليلين فتصرف كليهما كان صحيحا ولكن الموقفين مختلفان.
 
 
رضي الله عن الصحابي الجليل عبدالله ابن حذافة السهمي فقد كان مثالا للمفاوض الحكيم الذي وقف صلبا عندما كان المطلب تنازلا عن مبادئ ورفض أن يضعف أمام الأعداء الذين كانوا ينتظرون كلمة يقولها أو فعلة يفعلها حتى يشمتوا بالإسلام والمسلمين، ولكنه قايض بأمور غير جوهرية واستطاع أن يأخذ مقابلها مصالح مهمة لأمته، وكان مثالا لمحبة إخوانه والحرص عليهم والبعد عن الأنانية وحب الدنيا. بالتأكيد لم يكن عبدالله جبانا ولم يرهب التهديد ولكنه لم يكن أحمق متهورا ولم يقل "لن أقبل رأس هذا العلج ولو قطعوا رأسي" ولو قالها لخسر حياته وحرية رفاقه وربما حياتهم دونما مبرر، فطلب الموت مرفوض إسلاميا لأي سبب كان ولكن المسلم لايهاب الموت في سبيل مبدئه، والفرق بين الحالين كبير، وقد أدرك عبدالله هذا الفرق فتصرف بشجاعة وحكمة.
 
 
هؤلاء الذين قال فيهم الله عز وجل: (من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه). جعلنا الله من المقتدين بهم وحشرنا معهم في عليين.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين