ليلة القدر 

من كتاب «غاية الإحسان في فضل زكاة الفطر وشهر رمضان»

(12/85-97 الموسوعة)

ليلة القدر

سُمِّيت ليلة القَدْرِ لتقدير الله تعالى فيها ما يكون في تلك السَّنَة من الأرزاق والآجال وغير ذلك، والمراد بهذا التقدير إظهار ذلك للملائكة عليهم السلام، وهي المراد بقوله تعالى:[إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ(3) فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ(4) أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا (5) ]. {الدُخان}. .

وذهب الروافض إلى أنَّ ليلة القَدْرِ رُفِعَتْ ولم يعد لها وجودٌ، ولكن الذي أجمع عليه أهل السُّنَّة أنها باقيةٌ مُستمِرَّةٌ إلى يوم القيامة، وإنما رُفع تعيينها لا غير.

وقد روى عبدالرزَّاق عن عبدالله بن يَـخْنَس قال: قلت لأبي هريرة: زعموا أنَّ ليلة القَدْر رُفعت، قال: «كذب مَن قال ذلك». 

ورُوي عن عبدالله بن شريك قال: ذكر الحجَّاج ليلة القَدْر فكأنه أنكرها، فأراد زِرُّ بن حُبَيشٍ أن يَـحْصِبَهُ –أي يرميه بالحَصْباء– فمنعه قومُهُ.

متى تكون ليلة القدر؟

اختلف العلماء في تعيين ليلة القَدْرِ، وفي أي ليلة تكون؟ وذهبوا في ذلك مذاهب شتَّى وَصَلت إلى بضعةٍ وأربعين مذهبًا، كلُّ مذهبٍ استدل صاحبه بما ترجَّح عنده، وأقرب الأقوال فيها أنها في رمضان وفي العشر الأواخر وأنها ليلة سبعٍ وعشرين، وهو مذهب جماعةٍ من الصحابة منهم: أُبيِّ بن كعبٍ وعمر وابنه حذيفة، وهو الجادَّة مِن مذهب أحمد ورواية عن أبي حنيفة، وقول أكثر العلماء. 

علامة ليلة القدر

في "صحيح مسلم" عن زِرِّ بن حُبَيشٍ قال: سمعت أُبيَّ بن كعبٍ يقول -وقيل له إنَّ عبدالله بن مسعودٍ يقول: «مَن قامَ السَّنَةَ أصابَ ليلةَ القَدْرِ»-: «والله الذي لا إله إلَّا هو إنها لفي رمضان –يحلف ما يستثني– ووالله إني لأعلم أي ليلةٍ هي، هي الليلةُ التي أَمَرَنَا رسولُ الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم بقيامها، هي ليلةُ صَبِيحَةِ سبعٍ وعشرين، وأَمَارتُها أن تطلع الشمس في صَبيحَةِ يومها بيضاءَ لا شُعاعَ لها».

وعدم شعاعها: قيل لأن الله سبحانه وتعالى لم يخلق لها يومئذٍ علامة لذلك، وقيل لأن الملائكة -عليهم السلام- حجبته بكثرة اختلافهم في النزول والصعود تلك الليلة بكلِّ أمرٍ حكيمٍ وبالثواب والأُجُور. قاله الأُبِّي.

وفي "صحيح مسلم" أيضًا عن أبي هريرة قال: تذاكرنا ليلة القَدْرِ عند رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم فقال: «أيُّكُمْ يَذْكُرُ حين طَلَعَ القَمَرُ وهو مِثْلُ شِقِّ جَفْنَةٍ؟».

قال أبو الحسن القابسيُّ: أي ليلة سبع وعشرين؛ فإنَّ القمر يطلع فيها بتلك الصِّفَةِ. وأخرج البزَّار عن ابن عبَّاسٍ قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «لَيْلَةُ القَدْرِ طَلْقَةٌ لا حَارَّةٌ ولا بَارِدَةٌ».

وفي "المسند" بإسنادٍ رجاله ثقاتٌ، عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه أن رسول صلَّى الله عليه وآله وسلَّم قال: «لَيْلَةُ القَدْرِ في العَشْرِ البَوَاقِي مَن قامَهنَّ ابتغاء حِسْبَتِهنَّ فإنَّ الله تبارك وتعالى يَغْفِرُ له ما تقدَّم مِن ذَنْبِهِ وما تأخَّر، وهي ليلةُ وِتْرٍ تسعٍ أو سبعٍ أو خامسةٍ أو ثالثةٍ أو آخِر ليلةٍ».

وقال رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «إنَّ أَمَارَةَ لَيْلَةِ القَدْرِ أنها صافيةٌ بَلْجَةٌ، كأن فيها قَمَرًا ساطِعًا، ساكنةٌ لا بَرْدَ فيها ولا حَرَّ، ولا يَحِلُّ لكَوْكَبٍ يُرْمَى بِهِ فيها حتَّى تُصْبِحَ، وأنَّ أمارتها أنَّ الشمسَ صَبيحَتها تَخرُجُ مُستويةً ليس لها شُعاعٌ مثل القَمَرِ ليلةَ البَدْرِ، لا يَحِلُّ للشيطان أن يَخرُجَ معها يومئذٍ». «بَلْجَةٌ»: مُشْرِقَةٌ.

استنباط ابن عبَّاسٍ تعيين ليلة القدر

زَعَمَ ابن قدامة أنَّ ابن عبَّاسٍ استنبط تعيين ليلة القَدْرِ من عدد كلمات السورة، وأنَّ كلمة { هِيَ} من قوله: {سَلَامٌ هِيَ} [القدر: 5] سابع كلمةٍ بعد العشرين من قوله تعالى: [إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ] [القدر: 1] الآية، فتكون ليلة القَدْرِ ليلة سبعٍ وعشرين.

ونقله ابن حزمٍ عن بعض المالكيَّة وبالغ في إنكاره، وقال ابن عطية: «إنَّ هذا مِن مُلَحِ التفاسير وليس من متين العِلْم».

واستنبط بعضهم ذلك من جهةٍ أخرى فقال: «ليلة القَدْرِ تسعة أحرفٍ، وقد أعيدت في السورة ثلاث مرَّاتٍ فذلك سبع وعشرين».اهـ 

وهذه الاستنباطات ليست من العلم في شيءٍ، ولم يصح ما نقل منها عن ابن عبَّاسٍ ولا غيره، والمعروف أن استنباط المعاني من عدد الحروف والكلمات بحساب الجمل الكبير والصغير عادةٌ يهوديةٌ، تلقَّاها أصحاب الطَّوالع وضارِبُو الرَّمل، وبنوا عليها قواعد علمهم الكاسد، ثُمَّ اعتمدها في هذا الزمان طوائف كافرةٌ مثل البهائية لعنهم الله، وجعلوها أُسَّ استدلالاتهم وقطب رحى استنباطهم، وهي في الواقع لا تُسْمِن ولا تُغْنِي من جُوعٍ.

نعم استنبط ابن عبَّاسٍ ليلة القَدْرِ بطريقٍ أُخرى، فروى عبدالرزَّاق والطبرانيُّ وغيرهما عن ابن عبَّاسٍ قال: دعا عمر أصحاب رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم فسألهم عن ليلة القَدْرِ فأجمعوا على أنها في العشر الأواخِر، قال ابن عبَّاسٍ: فقلت لعمر: إني لأعلم أو أظنُّ أيَّ ليلةٍ هي. فقال أيُّ ليلةٍ هي؟ فقلت: سابعةٌ تمضي أو سابعةٌ تبقى من العشر الأواخِر. فقال عمر: من أين علمتَ ذلك؟ قلت: خَلَقَ اللهُ سبع سماواتٍ وسبع أرضين، وسبعة أيامٍ، وإنَّ الشهر يدور على سبعٍ، وخلق الإنسان من سبعٍ، ويأكل من سبعٍ، ويسجد على سبعٍ، والطواف بالبيت سبعٌ، ورَمْيُ الجِمار سبعٌ، وأشياء ذكرها، فقال عمر: لقد فَطِنْتَ لأَمْرٍ ما فَطِنَّا له.

وكان قتادة يزيد عن ابن عبَّاسٍ في قوله ويأكل من سبعٍ قال: هو قول الله تعالى: [فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا(27) وَعِنَبًا ...(28) ] [عبس: ٢٧ - 28] الآية. 

قال الحافظ ابن كثيرٍ: «إسناده جيِّدٌ قويٌّ ولكن المتن غريبٌ جدًّا».اهـ 

قلت: يعني أنَّ في هذه القصة غرابةٌ ونَكَارةٌ، وهو كذلك، فالله أعلم بصحَّة هذا الكلام عن ابن عبَّاسٍ.

تنبيه: قال صاحبا "الكافي" و"المحيط" من الحنفية: من قال لزوجه أنت طالق ليلة القَدْر طلقت ليلة سبع وعشرين؛ لأن العامَّة تعتقد أنها ليلة القَدْرِ.

قصة المتخاصمين التي بسببها رفع تعيين الليلة 

في "الصحيحين" عن عبادة بن الصامت قال: خرج النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ليُخْبِرنا بليلة القَدْرِ، فتلَاحَى رجلان من المسلمين فقال: «خَرَجْتُ لأخُبْركُم بليلة القَدْرِ فتَلَاحَى فلانٌ وفلانٌ فرُفِعَتْ، وعسى أن يكون خَيْرًا لكم، فالتمِسُوها في التاسعة والسابعة والخامسة»

وفي رواية لمسلم: «فجاء رجلان يختصمان، معهما الشيطان».

وفي رواية ابن إسحاق أنه صلَّى الله عليه وآله وسلَّم لقيهما عند سدة المسجد فحجز بينها فكانت المُخاصمة والملاحاة شؤمًا على الأُمَّة، حيث رفع بسببها تعيين الليلة، والله أعلم.

هل علمها النبي بعد نسيانها؟

روى محمد بن نصرٍ، عن واهب المغافريِّ: أنه سأل زينب بنت أُمِّ سلمة: هل كان رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم يعلم ليلة القَدْرِ؟ فقالت: لا، لو علمها لما أقام الناس غيرها.

قال الحافظ: وهذا قالته احتمالًا وليس بلازمٍ، لاحتمال أن يكون التعبُّد وقع بذلك أيضًا فيحصل الاجتهاد في جميع العشر.

قلت: والصحيح أنه صلَّى الله عليه وآله وسلَّم كان يعلمها وذلك لأمرين:

أحدهما: ما نقله البخاريُّ في "الصحيح" في قوله تعالى:[وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ القَدْرِ] [القدر: 2] عن سفيان بن عُيَيْنَة قال: «كلُّ شيءٍ من القرآن «وما أدراك» فقد أخبره به، وكلُّ شيءٍ فيه «وما يُدْريك» فلم يخبره به».

ثانيهما: ما رواه الطبرانيُّ في "الكبير" بإسنادٍ حسنٍ، عن عبدالله بن أنيسٍ قال: يا رسول الله، أخبرني أيُّ ليلةٍ تُبْتَغَى فيها ليلة القَدْرِ؟ فقال: «لولا أن تَتْركَ النَّاسُ الصَّلاةَ إلَّا تلك الليلةَ لأَخْبَرْتُكَ».

وفي "مسند البزَّار" بإسنادٍ رجاله ثقاتٌ، عن مَرْثَد قال: لقيت أبا ذرٍّ عند الجمرة الوسطى فسألته عن ليلة القَدْرِ، فقال: ما كان أحدٌ بأسأل عنها مِنِّي، قال: قلتُ يا رسول الله، أنزلت على الأنبياء بوحي إليهم ثُمَّ ترفع؟ قال: «بل هي يوم القيامةِ».

قلت: يا رسول الله، أيتهنَّ هي؟ قال: «لو أُذِنَ لي لأَنبَأْتُكَ بها ولكن التمِسْهَا في التسعَين والسبعَين –بفتح العين فيهما– ولا تسألني بعدها».

قال: ثُمَّ أقبل رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم فجعل يُحدِّث، قلت: يا رسول الله في أي السبعَين هي؟ فغضب عليَّ غضبةً لم يغضب عليَّ قبلها ولا بعدها مثلها، ثُمَّ قال: ألم أَنْهَكَ عنها لو أُذِنَ لي لأنبأتك بها، ولكن –وذكر كلمة– أن تكون في السبع الأواخِر».

ففي هذا دليلٌ على أنه صلَّى الله عليه وآله وسلَّم أُعلمها بعد أن نُسيِّها، ولم يُؤذَن له في تعيينها لئلا يتَّكِل الناس ويتركوا العبادة طول السَّنَة؛ اعتمادًا على أنَّ ليلة القَدْرِ تُكَفِّر كلَّ الذنوب.

هل يُخبِر بها مَن رآها؟

ذكر تقيُّ الدين السُّبكيُّ في "الحلبيات" استنباطًا من قصة المتخاصمين التي أوردناها آنفًا أنه يؤخَذ منها استحباب كتمان ليلة القَدْرِ لمن رآها، قال: «ووجه الدلالة أنَّ الله قدَّر لنبيه أنه لم يخبر بها والخير كلُّه فيما قَدَّر له، فيستحب اتباعه في ذلك»، قال: «والحِكْمة فيه أنه كرامةٌ، والكرامة ينبغي كتمانها بلا خلافٍ بين أهل الطريق من جهة رؤية النفس فلا يأمن السَّلْب، ومن جهة أن لا يأمن من الرِّياء، ومن جهة الأدب فلا يتشاغل عن الشكر لله بالنظر إليها وذكرها للناس، ومن جهة أنه لا يأمن الحسد فيوقع غيره في المحذور، ويستأنس له بقول يعقوب عليه السَّلام: {لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ} [يوسف: 5] الآية».

كيف يراها الرائي؟

اختلف العلماء هل لها علامةٌ تظهر لمن وفقت له؟، فقيل: يرى كلَّ شيءٍ ساجدًا، وقيل: يرى الأنوار في كلِّ مكانٍ ساطعةً حتى في المواضع المُظلِمة، وقيل: يسمع سلامًا أو خطابًا من الملائكة، وقيل: علامتها استجابة دعاء من وفقت له، واختار الطبرانيُّ: «أن جميع ذلك غير لازمٍ، وأنه لا يشترط لحصولها رؤية شيءٍ ولا سماعه».اهـ ، والله أعلم.

هل كانت ليلة القدر في الأمم من قبلنا؟

اختلف العلماء هل كانت ليلة القَدْرِ في الأُمَمِ السابقة، أو هي من خصائص هذه الأُمَّة؟ ففي "الموطأ" قال مالكٌ أنه سمع من يثق به من أهل العلم يقول: إنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم رأى أعمار الناس قبله أو ما شاء الله من ذلك، فكأنه تقاصَرَ أعمار أُمَّته لا يبلغوا من العمل مثل الذي بلغ غيرهم؛ فأعطاه الله ليلة القَدْرِ خيرًا من ألف شهرٍ. هكذا جاء مرسلًا، وروي مُسندًا من وجهٍ آخَر.

وهذا يقتضي أنها خاصَّةٌ بهذه الأُمَّة، وبه جَزَمَ ابن حبيبٍ وغيره من المالكية، ونقله هو وصاحب "العدة" من الشافعية عن الجمهور، وحكى الخطَّابيُّ الإجماع عليه، لكن الحديث يدل على خلاف ذلك.

ففي "المسند" و"سنن النَّسائي" عن أبي ذَرٍّ: قلت: يا رسول الله، أخبرني عن ليلة القدر، أفي رمضان أم في غيره؟ قال: «بل هي في رمضان». قلت: تكون مع الأنبياء ما كانوا فإذا قبضوا رفعت، أم هي إلى يوم القيامة؟ قال: «بل هي إلى يومِ القيامَةِ». وقد تقدَّم قريبًا، وهو صريحٌ في أنَّ ليلة القَدْرِ كانت موجودةً في الأمم السابقة، وإليه مال الحافظان ابن كثيرٍ وابن حجرٍ العسقلانيُّ، زاد الحافظ ابن حجرٍ: أنَّ ما رواه مالكٌ واعتمده الجمهور يحتمل التأويل فلا يدفع الصريح في حديث أبي ذرٍّ.

والواقع أنه لم يرد حديثٌ صحيحٌ يدل على اختصاصها بهذه الأُمَّة، بل قوله تعالى: {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ(4) أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا (5)} [الدخان: ٤ - 5] يقتضي إنها لو كانت في الأمم السابقة أيضًا وإنما الذي يعد من خصوصيَّات هذه الليلة إنزال القرآن في هذه الليلة، والله أعلم.

قيام ليلة القدر يُكفِّر الذنوب

في "الصحيحين" وغيرهما، عن أبي هريرة، عن النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم قال: «مَنْ قَامَ لَيْلَةَ القَدْرِ إيمانًا واحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ، ومَنْ صَامَ رمضانَ إيمانًا واحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ». زاد في بعض الروايات عند النَّسائيِّ وغيره: «وما تأخَّر». وفي هذه الزيادة كلامٌ استوعبه الحافظ في كتاب "الخِصال المُكَفِّرة للذنوب المُقدَّمَة والمُؤخَّرَة".

هل يعطى ثوابها وإن لم يعلمها؟

اختلف العلماء هل يحصل الثواب المُرتَّب على ليلة القَدْرِ لمن اتفق له أنه قامها وإن لم يظهر له شيءٌ؟ أو يتوقَّف ذلك على كشفها له؟، ذهب الطبريُّ والمهلب وابن العربي وجماعةٌ إلى الأول، وذهب الأكثر إلى الثاني.

قال الحافظ: ويدل له ما وقع عند مسلمٍ من حديث أبي هريرة بلفظ: «مَن يَقُمْ لَيْلَةَ القَدْرِ فيُوافِقها».

وفي حديث عبادة عند أحمد: «مَن قَامَها إيمانًا واحْتِسَابًا ثُمَّ وُفِّقَتْ لَهُ».

قال النوويُّ: «معنى أنه يوافقها أي يعلم أنها ليلة القَدْرِ فيوافقها، ويحتمل أن يكون المراد: يوافقها في نفس الأمر وإن لم يعلم هو ذلك».

وفي حديث زرِّ بن حبيشٍ، عن ابن مسعودٍ قال: «مَنْ يَقُمْ الحَوْلَ يُصِبْ ليلةَ القَدْرِ». وهو محتمل للقولين أيضًا.

وقال النوويٌّ أيضًا في حديث: «مَن قَامَ رمضانَ» وفي حديث «مَن قامَ ليلةَ القَدْرِ»: «معناه: من قامه ولو لم يوافق ليلة القدر، ومن قام ليلة القدر فوافقها حصل له، وهو جارٍ على ما اختاره من تفسير الموافقة بالعلم».

قال الحافظ: «وهو الذي يترجَّح في نظري، ولا أنكر حصول الثواب الجزيل لمن قام لابتغاء ليلة القدر وإن لم يعلمها ولو لم توفق به، وإنما الكلام على حصول الثواب المُعيَّن الموعود به، وفرَّعوا على القول باشتراط العلم جواز أن يعلم بها شخصٌ دون شخصٍ، فيكشف لواحدٍ ولا يكشف لآخَر ولو كانا معًا في بيتٍ واحدٍ».اهـ 

هل تمكن رؤيتها؟

تقدَّم أنَّ لها علامات تُعرف بها ويراها من وفقت له، ولكن ابن جريرٍ الطبريَّ لا يوافق على ذلك بل يرى في إخفاء ليلة القَدْرِ وعدم تعيينها دليلًا على كذب من يزعم أنه يظهر في تلك الليلة للعيون ما لا يظهر في سائر السَّنَة، قال: «إذ لو كان ذلك حقًّا لم يخفَ على كلِّ من قام ليالي السَّنَة فضلًا عن ليالي رمضان».

وتعقَّبه ابن المنير بأنه: «لا ينبغي إطلاق قول بالتكذيب لذلك، بل يجوز أن يكون ذلك على سبيل الكرامة لمن شاء الله، فيختص بها قومٌ دون قومٍ، والنبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم لم يحصر العلامة ولم ينفِ الكرامة».اهـ 

أقل ما يحصل به قيام الليل

قال مالكٌ في "الموطأ": بلغني أنَّ سعيد بن المسيِّب قال: من شهد العشاء ليلة القَدْرِ –يعني في جماعة– فقد أخذ بحظِّه منها.

وقال الشافعيُّ في القديم: من شهد العشاء والصبح ليلة القَدْرِ فقد أخذ بحَظِّه منها.

وأخرج أبو الشيخ الأصبهانيُّ، ومن طريقه أبو موسى المدينيُّ بإسنادٍ ضعيفٍ، عن أبي هريرة مرفوعًا: مِن صلَّى العشاء الآخِرة جماعةً في رمضان فقد أدرك ليلة القَدْرِ.

وروى ابن أبي الدنيا عن أبي جعفر محمد بن عليِّ مُرسلًا أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم قال: «مَن أَتَى عليه رمضانُ صَحِيحًا مُسْلِمًا صامَ نَهارَهُ وصَلَّى وِرْدًا مِن لَيْلِهِ وغَضَّ بَصَرَهُ وحَفِظَ فَرْجَهُ ولِسَانَهُ ويَدَهُ وحافَظَ على صَلاتِهِ في الجماعَةِ وبَكَّر إلى الجُمُعَةِ، فقد صَامَ الشَّهْرَ واسْتَكْمَلَ الأَجْرَ وأَدْرَكَ لَيْلَةَ القَدْرِ وفَازَ بجَائِزَةِ الرَّبِّ». وهو حديثٌ ضعيفٌ أيضًا.

وعلى كلٍّ ففضل الله واسِعٌ، ومَن شَهِد العِشاء والصبح جماعةً طول شهر رمضان فالرجاء ألَّا يُحرَم مِن ليلة القَدْرِ، وبالله التوفيق.

هل يستحب الاغتسال ليلة القدر؟

قال ابن جريرٍ الطبريُّ: كانوا يستحبُّون أن يغتسلوا كلَّ ليلةٍ من ليالي العشر الأواخِر.

وكان إبراهيم النَّخَعيُّ يغتسل ويتطيَّب في الليالي التي تكون أرجى لليلة القَدْرِ، وأمر زرُّ بن حبيش بالاغتسال ليلة سبع وعشرين من رمضان.

وكان أيوب السختيانيُّ التابعيُّ يغتسل ليلة ثلاث وعشرين وأربع وعشرين ويلبس ثوبين جديدين ويستجمر ويقول: ليلة ثلاث وعشرين هي ليلة أهل المدينة، والتي تليها ليلتنا، يعني البصريين.

وقال حمَّاد بن سلمة: كان ثابتٌ البُنانيُّ وحُميدٌ الطويل يلبسان أحسن ثيابهما ويُطيِّبان المسجد بالنضوج والدخنة في الليلة التي ترجى فيها ليلة القدر.

وقال ثابتٌ البُنانيُّ: كان لتميمٍ الداري حُلَّة اشتراها بألف درهم وكان يلبسها في الليلة التي ترجى فيها ليلة القدر.

وروي عن أنس بن مالكٍ أنه إذا كان ليلة أربع وعشرين اغتسل وتطيَّب ولبس حلة إزارًا ورداءًا، فإذا أصبح طواهما فلم يلبسهما إلى مثلها من قابل.

قال الحافظ ابن رجبٍ: «تبيَّن بهذا أنه يستحبُّ في الليالي التي ترجَى فيها ليلة القَدْرِ التنظُّف والتزيُّن والتطيُّب بالغُسْل والطِّيب واللباس الحسن كما يشرع ذلك في الجُمُع والأعياد».

قلت: ورد أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم كان يغتسل في العشر الأواخر من رمضان، ذلك لمكان ليلة القَدْرِ، فأخرج ابن أبي عاصمٍ بإسنادٍ مقاربٍ عن عائشة قالت: كان رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم إذا كان رمضان قام ونام فإذا دخل العشر شدَّ المِئْزَر، واجتنب النِّساء، واغتسل بين الأذانين –بين المغرب والعشاء– وجعل العَشاء سَحُورًا.

وعن عليٍّ عليه السَّلام أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم كان يغتسل بين العشاءين كل ليلةٍ. يعني العشر الأواخر، في إسناده ضعفٌ.

وروى ابن عاصمٍ عن حذيفة: أنه قام مع النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ليلةً من رمضان فاغتسل النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم وستره حذيفة، وبقيت فضلةٌ فاغتسل بها حذيفة وستره النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم.

هل للنفساء والحائض نصيبٌ من ليلة القدر؟

قال جُوَيبِرٌ: قلت للضَّحَّاك: أرأيت النُّـفَساء والحائض والمُسافِر والنائم لهم في ليلة القَدْرِ نصيبٌ؟ قال: نعم، كلُّ مًن تقبَّل الله عمله سيُعطِيه نصيبه مِن ليلة القدر.

ومعنى هذا أنَّ هؤلاء أحسنوا العمل في شهر رمضان فتقبَّل الله منهم، ومَن تقبَّل الله منه لم يحرمه نصيبه من ليلة القدر، والله أعلم.

أي العمل أفضل في هذه الليلة؟

قال سفيان الثوريُّ: «الدعاء في هذه الليلة أحبُّ إليَّ مِن كثرة الصلاة، قال: وإذا كان يقرأ وهو يدعو ويرغب إلى الله في الدعاء والمسألة لعله يوافق».اهـ 

قال الحافظ ابن رجب: ومراده: أنَّ كثرة الدعاء أفضل من الصلاة التي لا يكثر فيها الدعاء وإن قرأ ودعا كان حسنًا.

وقد كان النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم يتهجَّد في ليالي رمضان ويقرأ قراءةً مُرتَّلةً لا يمرُّ بآيةٍ فيها رحمهٌ إلَّا سأل، ولا بآيةٍ فيها عذابٌ إلَّا تعوَّذ، فيجمع بين الصلاة والقراءة والدعاء والتفكُّر.

وقالت عائشة للنبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: أرأيتَ إن وافقت ليلة القَدْرِ ما أقول فيها؟ قال: «قولي: اللهمَّ إنك عَفُوٌّ تحبُّ العَفْوَ فاعْفُ عَنِّي». فالدعاء مُفضَّلٌ في هذه الليلة، والله أعلم.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين