لن يضروك .. ولن ينفعوك

المحاور:

كلنا يحفظ حديث النبي صلى الله عليه وسلم في بيان امتناع قدرة المخلوق أمام قدرة الخالق، وفيه يقول النبي صلى الله عليه وسلم: "يَا غُلَامُ إِنِّي أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ: احْفَظْ اللَّهَ يَحْفَظْكَ، احْفَظْ اللَّهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ، إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلْ اللَّهَ، وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ، وَاعْلَمْ أَنَّ الْأُمَّةَ لَوْ اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ لَكَ، وَلَوْ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَضُرُّوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيْكَ، رُفِعَتْ الْأَقْلَامُ وَجَفَّتْ الصُّحُفُ» رواه الترمذي.

ولكن ما مدى يقيننا وإيماننا بهذا الحديث وما ثمرة هذا الإيمان في حياتنا ومواقفنا المختلفة؟!

إن ما نراه من حجم الكيد والمكر والخبث البشري يجعلنا نضعف ونحن الضعاف (وخُلق الإنسان ضعيفاً) لدرجة أننا ننسى هذا الحديث وغيره من الآيات والأحاديث التي تبين قدرة الله وعظمته، وانعدام قوى الكون كله أمام قوته وسطوته وجبروته سبحانه. 

‏كيف لا وهو خالق القوى ومانحها صفة القوة، وهو القادر على سلب ما منح من الصفات، وصدق الله في قصة نار ابراهيم عليه السلام "قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ(68) قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ (69)وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ" (الأنبياء: 70).

إننا بحاجة إلى دفقة روحية وجدانية متقدمة حتى نرى أثر الإيمان بالغيب، في مقابل ما نلمس من إغواء وإغراء أو تهديد وتخويف مادي، ولا يمكن أن يمنحنا هذه القوة إلا صاحبها، فلا أجد لنفسي وإخواني سوى تمكين قيمة الاستعانة بالله واللجوء إليه في كل حين، وما قصة سحرة فرعون عنا ببعيد، قال تعالى: "قَالُوا لَن نُّؤْثِرَكَ عَلَىٰ مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا ۖ فَاقْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ ۖ إِنَّمَا تَقْضِي هَٰذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا" (طه: 72).

ماذا يترتب على إيمانك بأن الحاسدين والحاقدين لن يضروك؟

١. الطمأنينة المطلقة والرضا بما قسم الله وبما كتبه علينا من بلاء.

٢. عدم الخوف منهم وعدم إعطائهم أكبر من حجمهم، فهم ينفذون القدر المكتوب ولا يتجاوزونه قدر أنملة.

ماذا يترتب على إيمانك بأنهم لن ينفعوك؟

١. سعيك الدءوب لتحصيل رزقك بالحلال وعدم قبول عروض الحرام المنكرة.

٢. هدوء النفس وعدم قبول المساومات التي تجعلك تنحرف وتنجرف وراء سرابهم الخادع.

٤. الانحياز المطلق لله ورسوله والمؤمنين، وعدم الخوف من فوات رزق أو نقصان أجل.

لقد سمى الله تعالى نفسه النافع الضار، لتمكين قيمة الإيمان بأن أصل النفع والضر هو من عند الله تعالى وأنه: "قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا ۚ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ" (التوبة: 51).

لقد مر النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه بمواقف ثقيلة ثقيلة، لكنهم في كل مرة كانوا يستشعرون هذه المعاني، فكانوا يخرجون بأحسن حال، ومن تلك المواقف:

١. قال تعالى:"إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا ۖ فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَىٰ ۗ وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا ۗ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ" (التوبة: 40).

٢. وقال تعالى:"الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (١٧٣) فَانقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ" (آل عمران: 174).

حتى الضرر المقرر عليك والمكتوب لك، لا يزيد على كونه مجرد أذى، وإن كنت تراه أكبر من ذلك، قال تعالى:" لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ" (آل عمران: 111).

إذا أدرك المسلم أن صبره واحتسابه ويقينه وثباته عند كل ضرر وبلاء يزيد من درجاته ويرفع من قدره عند ربه فإن البلاء يتحول في عينه إلى عطاء، وصدق رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم:"عَجَباً لأمْرِ الْمُؤْمِنِ إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ لَهُ خَيْرٌ، وَلَيْسَ ذَلِكَ لأِحَدٍ إِلاَّ للْمُؤْمِن؛ إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْراً لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خيْراً لَهُ" رواه مسلم.

إن أعداء الحق والطهر والعدالة أحقر من أن ينفعوا أنفسهم فكيف ينفعوك، وهم أضعف من كشف الضر عن أنفسهم فكيف يضروك، فهذا فرعون لا يستطع إنقاذ نفسه أو منعها من الغرق في لحظة ضعف بلا نصير، قال تعالى: "وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لَا يُرْجَعُونَ (39) فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ ۖ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ" (القصص: 40). 

حاولتُ مراراً أن أعرف ما السبب الذي يجعل الإنسان يتعرض لإيذاء الإنسان، لكنني لم أجد سوى الحسد، ذاك الذي يتحول إلى حقد في لحظة تجعل المرء يظن بأن في إضراره بالآخرين جلبٌ للنفع له، وهذا تماماً هو الذي حصل لابن آدم الأول مع أخيه، ولإخوة يوسف عليه السلام مع أخيهم، قال تعالى: "اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِن بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ" (يوسف: 9)، وفي المحصلة؛ لم يخسر يوسف عليه السلام ولم يربح إخوانه، بل ربح يوسف عليه السلام وخسر إخوانه. 

حاشا لرب العزة أن يتخلى عن أحبابه وأوليائه وهم بأمسِّ حاجتهم إليه، بل إنه تعهد بحفظهم، وتهدد وتوعد أعداءهم، ففي الحديث القدسي عن رب العزة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ً"مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالْحَرْبِ، وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ، وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ؛ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا، وَإِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ وَلَئِنْ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ، وَمَا تَرَدَّدْتُ عَنْ شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي عَنْ نَفْسِ الْمُؤْمِنِ يَكْرَهُ الْمَوْتَ، وَأَنَا أَكْرَهُ مَسَاءَتَهُ" رواه البخاري. 

إن ما يؤديه المسلم من صلاة وصيام وذكر وصدقة وغيرها من العبادات إنما لتؤدي دورها الفاعل في تذكير المسلم بربه كي يستمد قوته وشجاعة روحه من هذه العبادات، فالله تعالى يطلب منا أن نتذكره في كل الظروف كي تصغر في عيوننا كل القوى، قال تعالى:"يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ" (الأنفال: 45).

وختاماً

مثلما يحتاج المؤمن لأن يملأ قلبه ثقة بقدرة الله وقوته، فإنه يحتاج لأن يبحث عن أسباب القوة كلها (قوة الإيمان، والعلم، والمال، والعلاقات، والنفوذ "قال لو أن لي بكم قوة أو آوي إلى ركن شديد"). 

وأن يأخذ بما يستطيعه منها، ليكون قادراً على رد أسباب المخاوف من جهة، والتمنع عن قبول الإغراءات التي يقصد بها أصحابها صرفه وحرفه عن طريق الحق من جهة أخرى.. بل ويطلب أسباب القوة لأجل هدف نبيل آخر وهو: 

حماية الضعفاء من هزات الحياة واختبارات الزمان المشككة لهم بقدرة الله وقوته.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين