كن ناصحاً 

المحاور:

اختصر النبي صلى الله عليه وسلم الدين كله بكلمة واحدة حين قال: "الدين النصيحة" رواه مسلم. 

النصيحة من الخلوص، ونَصَحَ الشيءُ: خَلَصَ، والناصحُ: الْخَالِصُ مِنَ الْعَسَلِ وَغَيْرِهِ، وَكُلُّ شيءٍ خَلَصَ، فَقَدْ نَصَحَ. 

لما حضرت النصيحة حضر معها كل خير، ولما غابت أو ضعفت؛ ساد الغش وانتعش المفسدون وتسوّد الخبثاء والمستبدون.

النصيحة تكليف وتشريف؛ هي تكليف لأنها من جنس الدعوة والتبليغ التي قال النبي صلى الله عليه وسلم فيها: "بلغوا عني ولو آية"، وهي تشريف لأنها عنوان الخيرية في قوله سبحانه:" كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر".

النصيحة عاصمة من القواصم والمهلكات؛ لأنها عنوان الإصلاح بعد الصلاح، قال تعالى: "وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون".

النصيحة مسؤولية الجميع، فهي لأئمة المسلمين نحو عامتهم، ولعامة المسلمين نحو أئمتهم، و" كلكم راعٍ، وكلكم مسؤول عن رعيته".

النصيحة ليست مجرد كلمات نجريها على ألسنتنا بقصد توجيه من هم حولنا، بقدر ما هي سلوك طيب وقدوة حسنة ومواقف كريمة تثبت إيماننا بتلك الكلمات والخطب والمواعظ والدروس اللسانية والكتابية، وإلا فالويل لمن يأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم.

النصيحة تحقق قيمة التعاون على البر والتقوى وتمنع الشيطان من اختراق بيوتنا ومجتمعاتنا، فالمرء مرآة أخيه، ولا يرضى بعيوب يراها فيه.

النصيحة على الملأ فضيحة، وفي غير زمانها ومكانها مزعجة وليست مريحة.

النصيحة تكرم صاحبها بأجر المنصوح إن استجاب، وتسقط عنه وزر رؤية المنكر دون تنبيهه وتوجيهه إن رفض.

النصيحة كالدواء الثقيل لمريض استعصى مرضه، فيحتاج إلى تخفيف ذلك الدواء أو توزيعه على جرعات، وإلا فمعلوم أن جسد المريض يرفض الدواء الثقيل، قال تعالى مبيناً حالة الرفض للنصيحة حتى من الحكماء: "ولقد نصحتُ لكم ولكن لا تحبون الناصحين".

النصيحة بالترغيب أو الترهيب وبالشدة أو اللين يقدرها الداعية الناصح المحب، فهو يقدم الترغيب واللين وقد يحتاج إلى الترهيب والشدة كحاجة الملح إلى الطعام، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم: "علموا أولادكم الصلاة لسبع واضربوهم عليها لعشر". 

كن ذكياً في نصيحتك للناس، مراعياً الفروق الفردية بينهم، مجدداً في أسلوبك معهم، قريباً من عقولهم وقلوبهم، مخففاً عليهم، مبشراً لهم، صاحب نكتة صادقاً تفرحهم، كريماً سخياً عند تأليف قلوبهم. 

تأكد من عدالة الناصح وكونه ثقة يريد لك الخير، وإلا فكم أوقع شياطين الإنس والجن في حبائلهم من باب النصيحة من كان مهتدياً فغوى، ومن كان تائهاً فازداد تيهاً حتى سقط وهوى، ولعل أسوأ نصيحة في التاريخ هي نصيحة الشيطان لأبينا آدم عليه السلام ولأمنا حواء، حين أقسم لهما أنه لهما ناصح، قال تعالى: "وقاسمهما إني لكما لمن الناصحين".

النصيحة تُطلب، ولا ترفض؛ فإن رأيت ثقة عدلاً فاطلب منه أن ينصحك، وإن نصحك الطيبون فاقبل نصيحتهم واشكر لهم، فإن من حق المسلم على أخيه "وإن استنصحك فانصح له"

تعظيم الله؛ هي أعظم قيمة ينبغي تقديمها للناس على يد المصلح الناصح المشفق الغيور الأمين.

يستنصحك الناس في بيعهم وشرائهم وأخذهم وعطائهم ورزقهم ومعاشهم وزواجهم وطلاقهم فاحرص على لزوم ما يأتي:

١. لا تنصح بما لا دراية لك فيه، ولا تهرف بما لا تعرف. 

٢. افهم سؤالاتهم وقدّر احتياجاتهم ثم انصح بما ينبغي، لا بما تبتغي أنت ويبتغون. 

٣. احرص على المبادرة والمسارعة في النصيحة لأنها قد تفقد قيمتها عند تأخيرها. 

٤. كن حذراً محتاطاً تحفظ لنفسك خط الرجوع؛ فإن سألوك مثلاً عن شاب جاء يخطب ابنتهم وأنت تعرفه وتعلم من حاله الصلاح بناء على تجربتك له في الحياة فقل لهم: إن كنت أضمن لكم ما أعرف من تاريخه الطيب، فمستقبله بالنسبة لي مجهول، وسلوا غيري ثم خذوا رأي الأغلبية أو الأكثر دقة وموضوعية في التوصيف. 

٥. احتسب أجرك، فطالب النصيحة تائه وأنت تعرف بعض الطريق، فلا تبخل بما تعرف، "وقل رب زدني علما"

تأكد عند كل نصيحة أنك تبتغي بها مرضات الله؛ فلا تطلب سمعة ولا شهرة ولا رياء ولا أجرة ولا ثناء، قال تعالى: "لا أسألكم عليه أجراً"

كن صبوراً ولا تتعجل في نصيحة عاصٍ قد يزيد أسلوبك من تعقيد معصيته، وتذكّر بأن درء المفاسد أولى من جلب المصالح. 

بقدر حرصك على نصيحة غيرك لا تنس نصيحة نفسك، وأعظم ما تنصح به نفسك التوبة النصوح، قال تعالى: "يا أيها الذين آمنوا توبوا إلى الله توبة نصوحا"

بادر ولا تتردد في نصيحة أقرب الناس إليك "وأنذر عشيرتك الأقربين"، وهم والداك وأولادك، وزوجتك وإخوانك، وكن رفيقاً حليماً محباً شفوقاً، ولا تكن متعالياً عند نصحهم، ولك في منهج لقمان الحكيم عبرة، قال تعالى: "وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ ۖ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (13) ... يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ فَتَكُن فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ ۚ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (16) يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَىٰ مَا أَصَابَكَ ۖ إِنَّ ذَٰلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (17) وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا ۖ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (18) وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ ۚ إِنَّ أَنكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ" (لقمان: 19).

ليس كل من دعاهم النبي صلى الله عليه وسلم أسلموا ولا كل من أسلم منهم كان إسلامه مبكراً، فأعمام النبي صلى الله عليه وسلم يمثلون حالة استجابة الناس للداعية:

١. فمنهم من أسلم وتحمس للدعوة ومات في سبيلها، وهؤلاء يمثلهم أسد الله حمزة رضي الله عنه. 

٢. ومنهم من أسلم سراً أو متأخراً، وهؤلاء يمثلهم العباس رضي الله عنه. 

٣. ومنهم من لم يسلم لكنه دافع عن الداعية وحماه حميّة، وهؤلاء يمثلهم أبو طالب. 

٤. ومنهم من أنكر الدعوة وجحدها وحسد الداعية وحقد عليه وآذاه، وهؤلاء يمثلهم أبو لهب.

كن ناصحاً متفائلاً باستجابة الناس واثقاً بأن الكلمة الطيبة "أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها". 

قل: "يا رب" عند كل نصيحة، ليجعلها لك علام الغيوب ومن بيده مفاتيح القلوب في نفوس الآخرين مستساغة مقبولة مليحة. 

قد تأتيك نصيحة ممن هم دونك في الفهم والعلم والعمر والصلاح .. فلا تنظر إلى ذلك .. وتفقد قيمتها؛ فإن كانت طيبة فاقبلها وإلا فلا تشغل نفسك باللغو من الكلام. 

خذ العبرة حتى من الجماد والنبات والحيوان، وكن صاحب بصر وبصيرة، ولا تغلق قلبك عن آيات الله في الأنفس والآفاق، ففي كل شيء له آية تدل على أنه الواحد.

وختاماً:

تركك للنصيحة يعرضك لإحدى خسارتين؛ خسارة الأجر؛ إن جاء غيرك وقام بواجب النصيحة بدلاً منك، وأنت أولى بالأجر منه .. ووقوعك في الإثم؛ إن مات العصاة على عينك دون أن تذكرهم بالله واليوم الآخر .. فبادر ولا تتردد .. ودع عنك الكسل والخجل والوجل، واحتسب أجرك وثوابك، واسأل ربك الثبات في زمن تحوَّل فيه (بعض) الناصحين إلى أبواق للشياطين.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين