المسلمون في أزمة التطبيق

هذه كلمات كتبت وألقيت مرتجلة قبل سنوات عندما كنت أخطب في جامع الرضا بجدة، وفيها تذكير بموضوعات يمكن أن يستفيد منها الخطيب والداعية، وقد تكرم الأخ الحبيب طارق بصفها ، وشجع على نشرها في الموقع . وأرجو أن تكون فيها فائدة.

لا يعاني المسلمون في هذه الأيام من أزمة جهل بالإسلام قدر ما يعانون من أزمة التطبيق العملي لما يعرفونه من الإسلام.

فعلماء الإسلام كثر ـ بحمد الله ـ والكتب التي تتحدث عنه غزيرة، والدعاة إليه كثيرون، ومراكز تعليمه متعدِّدة ومنتشرة في كثير من أصقاع الأرض، والصحافة ووسائل الإعلام المقروءة والمسموعة والمرئية تتكلم عنه ليل نهار.

ولو أحصينا رصيد كل مسلم مما يحفظ من دينه لوجدنا أنه لا أقلَّ من أن يحفظ آية أو سورة صغيرة من القرآن الكريم، ومن الحديث حديثاً أو حديثين، ومن الأحكام الشرعية حكماً أو حكمين.

وهذا القليل الذي يحفظه لو طبَّقه بحذافيره لكان كفيلاً بفلاحه ونجاحه وخلاصه من كثير من أزمات عيشه واضطراب حياته، ولكنه حيث لم يطبق هذا القليل بقي غارقاً في ظلمات العيش، متخبِّطاً في لُجَّة الصراع الدائر في الحياة، لا يهتدي إلى سبيل الخلاص.

إن الله تعالى أنزل القرآن الكريم ليطبق في واقع الحياة، وليكون منهجاً ضابطاً لتصورات الناس وسلوكهم ومعتقداتهم، فمن عطَّل شرع الله عن التطبيق، وعزله عن دائرة التنفيذ العملي، واكتفى بحفظه والتفكُّه بقراءته، وإثارة الجدل حوله، فإنَّ ما اطَّلع عليه يصبح حُجَّةً عليه يوم القيامة، وهذا ما حذَّرت منه عائشة رضي الله عنها عندما أتاها عطاء بن رباح يسألها عن العلم. فقالت له: يا بني هل عملت بما سمعت؟ فقال: لا والله يا أُمَّه. قالت: يا بني، فيم تستكثر من حجج الله علينا و عليك؟.

وفي الحديث قال عليه الصلاة والسلام: (لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يُسأل عن أربع: عن عُمُره فيمَ أفناه، وعن شبابه فيمَ أبلاه، وعن ماله من أين اكتسبه وفيمَ أنفقه، وعن علمه ماذا عمل به).

وكان الصحابة رضي الله عنهم على غاية الحذر، من أن يعلم أحدهم شيئاً من دونه ولا يطبقه، قال ابن مسعود رضي الله عنه: (ما منكم من أحد إلا وإنَّ ربه سيخلو به، ثم يقول: يا ابن آدم ما غرَّك بي ـ ثلاثاً ـ ماذا أجبت المرسلين؟ كيف عملت فيما علمت؟ ).

وكان أبو الدرداء رضي الله عنه يقول: (إنَّ أخوف ما أخاف إذا وقفت بين يدي الله عزَّ وجل أن يقال: قد علمت فماذا عملت فيما علمت؟ فلا تبقى آية في كتاب الله عزَّ وجل آمرةً أو زاجرةً إلا جاءتني فتسألني الآمرة: هل ائتمرت؟، وتسألني الزاجرة: هل ازدجرت؟ فأعوذ بالله من علم لا ينفع، ومن نفس لا تشبع، ومن دعاء لا يُسمَع).

أيها الإخوة المؤمنون: لقد حذر الله تعالى من مغبة نبذ العمل وتعطيل منهجه عن التنفيذ فذمَّ أولئك الذين لم يكن حظُّهم من دينهم إلا قراءته ودراسته، فقال في حق علماء بني إسرائيل:{مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ القَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِ اللهِ وَاللهُ لَا يَهْدِي القَوْمَ الظَّالِمِينَ} [الجمعة:5]. والتي أثنى الله بها على عباده الصالحين بقوله: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ المَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} [فصِّلت:30].والتي أمر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله لأحد أصحابه: (قل آمنت بالله ثم استقم).

هذه الاستقامة إنما تعني التطبيق العمليَّ والتنفيذ الصحيح لشريعة الله وأحكام دينه القويم، وهذا تفسير مفهوم الإتباع الذي ذكره الله بقوله: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأنعام:153].

فيا معشر المسلمين: ترجموا معنى انتسابكم إلى الإسلام بحُسن تطبيق أحكامه وتنفيذ توجيهاته وآدابه، واحذروا من أن تحملوه بألسنتكم وتنبذوه بأعمالكم.

إن من يقرأ قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التَّحريم:6].ثم يدع نفسه وأهله بلا تأديب، ويرتكس معهم في حَمْأة الملذات والشهوات والمعاصي والمنكرات يكون نابذاً من خلال واقعه معنى هذا الأمر الإلهي.

إن من يقرأ قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [البقرة:278].ثم يقارف أكل الربا، لا يفترق بواقعه عن الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها.

والذي يقرأ قول الله عزَّ وجل: {إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالعَدْلِ إِنَّ اللهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا} [النساء:58].ثم يخون الأمانة، ويجور في حكمه، هو أبعد ما يكون عن الإسلام، ولو قال: إنني من المسلمين.

يا معشر المسلمين.

إن أعداء الإسلام أيقنوا أنه لا سلطان لهم على دين الله الحق، لأن الله تكفَّل بحفظه، ووجدوا أن جميع ما يثيرونه حول الإسلام من شبهات قد تكسَّرت هياكلها، وتحطَّم زيفُها، أمام أصالة هذا الدين وجوهره المتين.

فلم يقولوا: إن الإسلام خرافة، لأنهم علموا أنه دين حارب الخرافة، وخاطب العقل، ودعا إلى العلم ولم يقولوا: إن الإسلام أباطيل ومجموعة أساطير، لأنهم علموا أنه الحق.

ولم يقولوا: إن الإسلام زيغ وتضليل: لأنهم علموا أنه منهج الهوى المبين.

فلم يجدوا أمامهم سبيلاً إلى ضرب الإسلام في صميمه إلا أن يبعدوا أتباعه عنه دون أن يقولوا لهم: اتركوا الإسلام، وذلك عندما صوروا لهم الإسلام أنه مجرد قيم مثالية، ومبادئ عليا، تبقى ماثلة في أذهان المسلمين وقلوبهم، ولا مجال لتطبيقها في واقع سلوكهم.

أبعدوهم عن واقع الإسلام العملي بما يزينوا لهم من عادات ومفاهيم أخلاقيه واجتماعية تُفقد المسلم أصالته الإسلامية، ليصبح الدين مجرَّد فكرة، عارية عن التطبيق.

زينوا لأبناء المسلمين الشهوات والزنا، وقالوا: إنه ذوق عصري لطبيعة العلاقة بين الشاب والفتاة.

زينوا للمرأة السفور والتعري، وقالوا: إنه حرية.

زينوا للرجال والنساء الاختلاط السافر، وقالوا: إنه حضارة ومدنية.

زينوا للتاجر الغش والخيانة، وقالوا: إنه ذكاء وفهلوية..

زينوا للناس مختلف صور الفساد الاجتماعي والضلال الفكري وقالوا: إنه تقدُّم وازدهار وحضارة.

فاحذروا ـ أيها المسلمون ـ أن تتخلوا عن الإسلام، واعلموا أنكم ما تمسكتم بالإسلام، ولزمتم تطبيقه قولاً وعملاً، واتخذتموه منهجاً لحياتكم فلن تضلوا، ولن تخسروا ولن تذلوا، ولن تهزموا، بل سوف تجدون في ظله العزة والكرامة والنصر والسلامة.

قال صلى الله عليه وسلم: تركت فيكم شيئين لن تضلوا بعدهما: كتاب الله وسنتي.

اللهم ألهمنا رشدنا، وثبتنا على ديننا، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه.

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم

نشرت 2013 وأعيد تنسيقها ونشرها 5/8/2020

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين