أسرار القسم في القرآن الكريم (2)

من أسرار القَسَم في القرآن الكريم أنَّه لابدَّ أن تكون هناك مطابقة بين القسم والمقسم عليه، وانسجام فني بين صورة القسم وجوابه، وهذا مَلْحظ من ملاحظ البلاغة الاعجازية في القرآن الكريم، لأنَّ الكلمة لا تفسر بالعقل وحده، بل تفسر كذلك بالقلب والخيال، فينبغي لمن يُريد أن يتذوق بلاغتها أن يستخرج من أجوافها كل الصور التي ترتبط بمعانيها، وكلما ازداد القارئ معرفة بالحياة والعالم، ازداد قدرة على التعمق في الألفاظ، واستخراج ما في أحشائها من معنى مدَّخر، ومن مرامٍ فنية كمينة.

فلأمر ما أقسم الله تعالى بالضحى والليل إذا سجى في هذا المقام، وللوقوف على سر ذلك ينبغي أن نبحث أولاً عن الأحداث التي كانت سبباً في نزول هذه السورة، ثم عن الظروف التي اكتنفتها، ثم عن نفسية الرسول صلى الله عليه وسلم حينذاك.

ورد في الصحيحين: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم اشتكى فلم يقم للتهجد ليلتين أو ثلاثاً فجاءت امرأة – هي أخت أبي سفيان – فقالت متهكمة: يا محمد إني لأرجو أن يكون شيطانك قد تركك، لم أره قِرَبك منذ ليلتين أو ثلاثاً، فأنزل الله عزَّ وجل: {وَالضُّحَى(1) وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى(2) مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى(3) وَلَلْآَخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الأُولَى(4) وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى(5) }. [الضُّحى]. 

فأحزنه صلى الله عليه وسلم تعبيرها، وعدم رؤيته جبريل عليه السلام مع مزيد حبه إياه، فنزلت السورة لإيناسه وإزالة وحشته ونفي ما زعموه على أبلغ وجه.

فأقسم الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم على أنَّ تلك الفترة لم تكن عن ترك، ولا عن قلى، وأشار سبحانه في القَسَم إلى أنَّ ما كان من إشراق الوحي على قلبه أول مرة هو بمنزلة الضحى – وهو ضوء الشمس في غباب النهار – يقوي به الحياة وتنمو به الناميات، وما عرض بعد ذلك من فترة، فهو بمنزلة الليل إذا سكن لتستريح فيه القوى، وتستعد فيه النفوس لما يستقبلها من العمل.

وتخصيصه تعالى للوقتين بالإقسام ليسير سبحانه بحالهما إلى حال ما وقع له عليه السلام ويؤيد عزَّ وجل نفي ما توهم فيه.

فكأنه تعالى يقول: الزمان ساعة فساعة، ساعة ليل وساعة نهار، ثم تارة تزداد ساعات الليل وتنقص ساعات النهار، وأخرى العكس، فلا الزيادة لهوى، ولا النقصان لقلى، بل كلٌ لحكمة وكذا أمر الوحي: مرة إنزال وأخرى حبس، فلا كان الانزال عن هوى، ولا الحبس عن قلى بل كل لحكمة.

وفي ذلك تسلية منه تعالى لرسول صلوات الله عليه فكأنه سبحانه يقول: انظر يا محمد إلى هذين المتجاورين لا يسلم أحدهما من الآخر، بل الليل يغلب تارة، والنهار أخرى، فكيف تطمع أنت أن تسلم من الخلق ومن تنغيصهم.

ثم في استعمال الفعل (ودع) وهو مأخوذ من التوديع، والتوديع أصل مأخذه من الدعة، وهو أن تدعو للمسافر بأن يدفع الله تعالى عنه كآبة السفر، وأن يبلغه الدعة وخفض العيش كما أن التسليم دعاء له بالسلامة.

ففي استعمال (ودع) هنا من اللطف والتسلية والتعظيم والتجبيل ما لا يخفى فإن التوديع إنما يكون بين الأحباب ومن تعز مفارقتهم.

ومن أعجب الأقسام في ذلك، القسم بالخيل، وهي أعز شيء لديهم، لأنهم أمّة قتال وإغارة، فحياتهم قائمة عليها، وأكثروا في شعرهم من أوصافها، فقال تعالى: {وَالعَادِيَاتِ ضَبْحًا(1) فَالمُورِيَاتِ قَدْحًا(2) فَالمُغِيرَاتِ صُبْحًا(3) فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا(4) فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا(5) إِنَّ الإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ(6) وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ(7) وَإِنَّهُ لِحُبِّ الخَيْرِ لَشَدِيدٌ(8) }. [العاديات]. 

فأقسم الله تعالى بالخيل وهي مغيرة، ووصف النقع الذي تثيره بحوافرها ليذكرهم بنعمته سبحانه عليهم، ويطالبهم بالشكر عليها، والاعتراف بوحدانيته سبحانه وعظيم آلائه.

ليس هذا فقط هو سر القسم بالعاديات وهي الخيل تضبح في عدوها (والضبح: صوت أنفاس الخيل عند جريها) فيسمع صوت أنفاسها في أجوالها والشرر يتطاير من حوافرها عند جريها وبالمغيرات على العدو وقت الصباح فتفائجه بهجومها فتثير غباراً وتتوسط جمعاً.

بل أقسم سبحانه بالخيل متَّصفة بهذه الصفات لينوّه من شأنها ويعلي من قدرها في نفوس المؤمنين.

ثم ليطابق بين القسم والمقسم عليه، فإن المقسم عليه هو كنود الإنسان لنعمة ربه تعالى، وجحوده لآلائه وكفرانه بنعمائه، وفي ذلك جموح من القلب وعنف في الطبع، وشراسة في الخلق، وغرور من النفس وافتتان بالقوة وهذه كلها من أوصاف الخيل حين عدوها وإغارتها.

ثم ختم السورة بما يلائم إثارة النقع، وقدح النار من الصخر وإخراج النفس بشدة وسرعة فقال تعالى:{أَفَلَا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي القُبُورِ * وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ} [العاديات:9-10].

فألفاظ السورة كلها ألفاظ حيَّة متحركة، وفي صورها نشاط وثورة وأخذ ورد وكرّ وفرّ وهجوم ودفع وإثارة لما كان مستوراً وبعثرة لما كان مجموعاً وجمع لما كان مبعثراً.

والذي يدعونا إلى كل هذه التلميحات والاشارات هو اعتقادنا أنه لابدَّ أن تكون هناك مطابقة بين القسم والمقسم عليه كما صرح بذلك مراراً ابن القيم.

وهنا إشكال في أسلوب القرآن قد يبلبل أفكاراً كثيرة ويدخل عليها حيرة واضطراباً وذلك هو دخول (لا) على فعل القسم في مثل قوله تعالى:{لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ القِيَامَةِ} [القيامة:1] وقوله سبحانه:{لَا أُقْسِمُ بِهَذَا البَلَدِ * وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا البَلَدِ}[البلد:1-2].

فالجواب عن هذا أن دخول (لا) على فعل القسم مستفيض في كلامهم وفي أسلوبهم وأشعارهم، وهو صورة من صور التأكيد، فإنهم يزيدون حروفاً في الكلام يقصد بها التأكيد وزيادة التثبيت.

يقول شاعرهم: وهو امرؤ القيس:

فلا وأبيك ابنة العامري=لا يدعي القوم أني أفر

(فلا) زيدت لمجرد التوكيد وتقوية الكلام.

وقد قرئ (لأقسم بيوم القيامة) على أنَّ اللام للابتداء والتوكيد، وأقسم خبر لمبتدأ محذوف معناه لأنا أقسم.

وعند الزمخشري أن يكون الكلام إخباراً لا إنشاء، والمعنى في ذلك: أنه لا يقسم بالشيء إلا إعظاماً له فيكون المعنى في الآية، لا أعظم يوم القيامة بالقسم بل بأكثر من ذلك، كما قال تعالى:{فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ * وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ} [الواقعة: 75 -76] فعلى هذا تكون (لا) للنفي ويكون منفيها الفعل (أقسم).

وقال أبو حيان في تفسيره:

والأولى عندي أنها (لام) أشبعت فتحتها فتولدت منها ألف كقوله: أعوذ بالله من العقراب، وهذا وإن كان قليلاً فقد جاء نضيره في قوله تعالى: {فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ} [إبراهيم:37] بياء بعد الهمزة وذلك في قراءة هشام، فالمعنى: فلأقسم.

ولنختم هذا البحث بمثال جلي يبين مبلغ صلة القسم بالمقسم عليه وهو: إقسامه سبحانه وتعالى بالعصر في قوله سبحانه:{وَالعَصْرِ(1) إِنَّ الإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ(2) إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ(3) } [العصر]. 

في سورة التكاثر بيَّن الله تعالى انشغال الناس بأمور دنياهم ومعاشهم وإنهماكهم في أموالهم وأولادهم، وقرر أنهم مسؤلون عن النعيم ورغد العيش الذي هم فيه مقيمون.

وأقسم على أثر ذلك بالعصر وهو الدهر في رأي الجمهور، أقسم به على أن هذا الإنسان خاسر، واستثنى من ذلك الخسران فريقاً، والمستثنى هنا هو الأصل والهدف، ولكن أسلوب الكلام دعا إلى تأخير الأهم والأصل ليشوق الأسماع إليه فاستثنى سبحانه من الخسران:{الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ } [البقرة:277] وهم الذين أحسنوا علاقاتهم مع الله تعالى:{إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر:3] والحق هو الخير المطلق، والصبر هو المثابرة على طلبه، والتواصي هو تفسير لعلاقة الإنسان بأخيه الإنسان هذه العلاقة التي بناها سبحانه على التعاون، وهو آخر نظام تصلح عليه حال الإنسانية وتستقر، وفي سبيله تقوم المبادئ وتتوطد.

فتحقيق التعاون بين طبقات الإنسانية وأفرادها هو ما عبَّر عنه القرآن الكريم بالتواصي بالحق وبالصبر.

وإنما أقسم الله تعالى في هذا المقام بالعصر لأنه مسرح هذا التعاون في أدواره المختلفة، وعد الإنسان الفردي الأناني خاسراً، لأنه عضو أشل في المجموع الإنساني.

وفي القسم بالعصر إشارة إلى أنه أعم من القسم بالعمر، وأنه إن كان الإنسان يحلف بالعمر وهو جزء بسيط من العصر، فما أحرى أن يكون العصر قطعياً دافعاً.

هذا إلى أن العصر من الأوقات التي كانت لها أهمية في حياة العرب التجارية وله في قلوبهم مكانة حيث يستريحون فيه بعد تعب النهار في الكد والسعي، فهو سبحانه قد أقسم إذن بوقت له في نفوسهم أثر واضح وفي أذهانهم التجارية مركز يانع.

وبعد: فعجائب القرآن الكريم لا تنتهي، وأسرار بلاغته لا تنقضي...

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم 

المصدر: مجلة الأزهر، المجلد الثلاثون، شوال 1378 - الجزء 10

الحلقة الأولى هنا

 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين