معا نتدبر القرآن (1)

((مقدمة))

إنَّ من حكمة الله عز وجل أنه لم يرتب القرآن بحسب نزوله ولا بحسب موضوعاته، بل رتبه حسب سور تضم مجموعة من الآيات، فيها المكي والمدني، وتضم السورة عددا من الموضوعات التي لا رابط بينها في ظاهرها، وهذا الترتيب للآيات داخل السورة الواحدة له سر عظيم وترتيب معجز، عكف على معرفته واكتشافه العلماء والمفسرون والمتدبرون قديما وحديثا، وتوصَّلوا فيه لاجتهادات كبيرة ونوعية، حتى اتفقوا على مقاصد كثير من السور. 

إن السورة مهما بدا من تعدد محاورها ومقاصدها وموضوعاتها لكنها ترتبط في النهاية بمقصد رئيس تدور عليه، وتلتف حوله في تناسق بديع وعجيب، لكن علينا أن نتبه إلى أن تحديد المقاصد هو تحديد اجتهادي قابل للتعديل والإضافة، لكنه تحديد يعين بصورة كبيرة على تدبر القرآن ومعرفة أسراره، بشرط أن يكون تحديد مقصد السورة خاليا من التكلف.

ونعني بمقصد السورة: المحور والهدف والمعنى الذي تعود إليه موضوعاتها وتدور عليه آياتها، وتريد بيانه السورة وتركز عليه.

وعلى بركة الله نبدأ بسورة الفاتحة.

((سورة الفاتحة))

((بيان طريق العبودية))

سورة الفاتحة سورة مكيَّة، وهي أعظم سورة في القرآن، وقد سماها رسول الله صلى الله عليه وسلم أم القرآن لأنها اشتملت على كل معاني القرآن، فكليات معاني ومقاصد القرآن فيها، وسماها فاتحة الكتاب لأنها الأصل، وبقية السور ما هي إلا تفريع وتفصيل وشرح للفاتحة ومعانيها ومقاصدها، فقد لخصت الفاتحة أصول الإسلام الثلاثة الكبرى: التوحيد لله، والمتابعة لنبيه صلى الله عليه وسلم، والتزكية، وبينت العقيدة، والعبادة، ومنهج الحياة، ولعظمها جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاتنا ناقصة وخداجا بدونها، وأمرنا أن نكررها في كل ركعة من ركعات صلوات الفريضة وصلوات النافلة. 

إن مقصد السورة العام هو ((بيان طريق العبودية))، فكل آيات السورة وموضوعاتها ومقاصدها تدور حول هذا المقصد، فقد اشتملت على توحيد الله والثناء عليه بأسمائه وصفاته، وعن اليوم الآخر، وإخلاص العبادة لله، وإفراد الاستعانة به، والاستقامة على الصراط المستقيم، لأنه صراط المنعم عليهم بالهداية وليس صراط أصحاب الزلل، فنصفها الأول ثناء، ونصفها الآخر دعاء، وكل هذه المقاصد الثانوية تدور على مقصد عام رئيس وهو "بيان طريق العبودية".

فقد تحدثت السورة عن مقاصد عدة نذكر منها:

• التعريف بالله تعالى وأن الله مستحق للحمد، وأول نعم يحمد عليها هي نعمة الوجود، ونعمة الهداية، ونعمة الرعاية والتربية: بِسْمِ اللَّـهِ الرَّحْمَـٰنِ الرَّحِيمِ ﴿١﴾ الْحَمْدُ لِلَّـهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴿٢﴾

• وأن الله رب لكل العالمين، وأنه مختص بذلك فلا رب لهم سواه: الْحَمْدُ لِلَّـهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴿٢﴾. 

• وأن أبرز صفاته هي الرحمة، وأبرز أفعاله هي الرحمة، فهو رحمن في نفسه رحيم بعباده: الرَّحْمَـٰنِ الرَّحِيمِ ﴿٣﴾

• وأنه المالك الوحيد لليوم الآخر فلا مالك سواه: مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ ﴿٤﴾

• وأننا سنلقى الجزاء والحساب، فلا شيء عبثي في هذا العالم: مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ ﴿٤﴾ 

• وأن نفرد الله بالعبادة وحده، والعبادة هنا معنى شامل للصلاة والصيام وبقية العبادات، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والطاعة في التشريعات، فليست هي الشعائر وحدها: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ﴿٥﴾ 

• وأن نستعين به وحده في كل شؤون حياتنا: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ﴿٥﴾

• وأن نطلب منه الهداية للصراط المستقيم، فالهداية توفيق من الله تعالى لمن أناب إليه واستحق الهداية: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ﴿٦﴾

• وأن نكون ضمن ركب وقافلة الصالحين والمصلحين: صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ ... ﴿٧﴾

• وأن لا نكون من المنحرفين ممن عرف الحق وأنكره وهم المغضوب عليهم، أو ممن لم يعرفوا الحق أصلا وهم الضالون: ... غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ ﴿٧﴾

والخلاصة، إن السورة كلها تعلمنا وتريد منا: 

أن نتعرف على الله، وأن نحمده، ونثني عليه، وأن نستعد ليوم الدين، وأن لا نعبد ولا نستعين إلا به، وأن ندعو بالهداية للطريق القويم فهو طريق الأنبياء والصالحين، وأن يجنبنا طريق المنحرفين والغاوين، فلنقرأ سورة الفاتحة على نية معرفة طريق العبودية ...

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين