وقفات مع مقال: فقه التيسير في برنامج الشريعة والحياة

د.مسعود صبري


قرأت ما كتبه الأستاذ الدكتور رفيق المصري – حفظه الله- عن شيخنا الدكتور يوسف القرضاوي – حفظه الله-، وذلك في مقاله الموسوم بـ ( فقه التيسير في برنامج الشريعة والحياة)، وقبل مناقشتي لما كتبه الدكتور رفيق المصري أحب أن أقرر بعض الأمور، أهمها:

1- أننا نقدر ونشكر للدكتور رفيق غيرته على الإسلام، ومبتغاه من الحفاظ على طبيعة الاجتهاد الفقهي كما كان عليه علماء السلف.

2-  أنه لا قداسة لرأي أحد في الإسلام غير كلام الله، وما صح من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم.

3- أنه من الواجب تقدير العلماء، وأن ننظر إليهم نظرة احترام وتقدير، دون تقديس أو تبخيس.

4- أننا نحسن الظن بالدكتور رفيق المصري فيما كتبه، وأنه ما أراد إلا الإصلاح.

أما فيما يخص ما كتبه، فأقرر بدءا بعض الأمور مقسما إياها بين الموافقة والمخالفة.

أما الموافقة، فإننا نسلم للدكتور رفيق المصري أن التجديد في طرح موضوعات الشريعة والحياة مطلوب، وربما لا يخالفني في هذا العاملون في قناة الجزيرة، إلا أنني أريد أن ألفت الانتباه إلى أن البرنامج ولد من سنوات عدة، وأن المطالع لعناوين الحلقات ليجد أنها غطت مساحة عظمى فيما يخص القصايا المعاصرة، وربما من يعمل في مثل هذا الحقل ليدرك مدى صعوبة اختيار موضوعات، كمثل الخطيب مع خطبة الجمعة.
 

الأمر الآخر: أن عددا من المؤسسات الإسلامية المالية ليست على الوضع الذي كنا نأمل أن تكون عليه، وأن هناك شيئا من الانحراف يدركه كل من يتعامل معها من أهل الاختصاص، ولكن غير مسلم أن يكون الشيخ القرضاوي هو في ذلك السبب! إذ هذا القول نوع من الإجحاف والافتيات على الرجل.

أحب أن أؤكد على أن هناك تكرارا في الحلقات التي يكون ضيفها الدكتور يوسف القرضاوي، وهذا التكرار ليس موجودا في الحلقات الفضائية فحسب، بل في بعض الكتب والمقالات أيضا، ولكن هل التكرار في حد ذاته عيب؟ ومن من العلماء لا يكرر ما يقول؟ وهل الدكتور رفيق المصري لا يكرر كثيرا مما يقول في المسائل الاقتصادية، وخاصة في الندوات والمؤتمرات؟؟؟

إن التكرار طبيعة بشرية، وإن رجلا مكث يفتي الناس ويخطب ويعظ لعقود من  الزمن لزاما عليه أن يكرر ما يقول، مع ما يفتح الله تعالى له من أمور.

كما أنه لا بأس من مخالفة الشيخ في بعض الفتاوى، ومن أهمها: ما أفتى به من جواز مشاركة المسلم الأمريكي في حرب أمريكا على أفغانستان، وقد ندم شيخنا على هذه الفتوى، وأخبر أنه سيق إليه من قبل بعض العلماء، وأنه ما كتب الفتوى، وإنما وافق عليها تحت ضغوط، هو غير معذور فيهاا، ومراجعة المفتي فيما يفتي من المحامد التي نص عليها العلماء، على أنه من الواجب على شيخنا أن يحرر فتوى يبين فيها تراجعه بشكل واضح وصريح.

المآخذ على المقال:
هناك عدد من المآخذ على مقال الدكتور رفيق، منها ما يتعلق بمنهجية الكتابة و الأسلوب، ومنها ما يتعلق ببعض المسائل العلمية التي ذكرها.

أما فيما يخص المنهجية والأسلوب، فليست الطريقة التي كتب بها المقال مما عرف عن أدب العلماء وطريقة نصحهم، والحق أني لا أجد عذرا للدكتور رفيق المصري أن يكتب هذا المقال بهذه الطريقة، إذ ليس من شيم العلماء أن يكتبوا بهذه الطريقة، ولا أن يوردوا بعض الألفاظ التي ينبغي شرعا ألا ينطق بها، وأذكر الدكتور رفيق بقوله تعالى: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ)، وبقوله تعالى: (وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ). ويبدو أن هناك شحنة نفسية ينطلق منها الدكتور رفيق لم يتمالك نفسه حين الكتابة، ولسنا ننبئ عما هو مخبوء في داخله، ولسنا مكلفين بهذا.

أنه يحرم شرعا  اتهام بعض العلماء بالجهل، وأن مرادهم من الفتوى التكسب، فإن هذا شق عما في داخل الناس، ولو عوملت بمثل ما عاملت به الغير، لقيل فيك ما لا تحمد، ولكن الأولى أن نحسن الظن بالناس، وأذكرك قول الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ)، نعم، ليست هناك مشكلة في أن ننوه عن الأخطاء التي يقع فيها الناس، أو الإشارة إلى نقص في جانب من الجوانب أو نحو هذا، ولكنه يكون من باب النصيحة، وليس شن حملة على بعض الناس، وسبر أغوارهم، وكما ورد عن عمر رضي الله عنه:" أمرنا أن نحكم بالظاهر، والله يتولى السرائر".

أربأ بالدكتور رفيق المصري أن يوافق على ما كتبه بالوصف من " الخبص" و" البعبصة"، واعتبار مايقوله الناس " صرف صحي"، فمثل هذه الكلمات ينبغي لعلمائنا الذين ننهل من معين علمهم أن ينزهوا أنفسهم عنها، وألا يتهم بعضهم بعضا بما ما لا ينبغي أن يكون.

أن الحكم على شخص لا يكون من خلال عدد من المسائل، فمن المعلوم عند أهل العلم أننا إذا نصبنا أنفسنا حكاما على شخص معين، فعلينا أن ندرس فكره واجتهاده، وأن نخرج بنتيجة تشمل إنتاج الرجل، ولا بأس مع هذا في أن نخالف الشيخ، فليس الشيخ مقدسا، وليس كل ما يقوله صوابا، فهو كغيره يخطئ ويصيب.

ومن الأمانة أن أقول – وأنا واحد من تلامذة الشيخ- إن الشيخ قد طلب منا ألا نوافقه على كل ما يقول، وأن يكون عند تلامذته استقلالية في الشخصية،ولو حضر الدكتور رفيق المصري حلقات ( الملتقى العلمي الأول لتلامذة القرضاوي)، واستمع إلى مخالفة التلامذة لشيخهم؛ لكان له موقف آخر.

إن ما قاله الدكتور رفيق المصري لا يعدو إلا أن يكون آحاد مسائل، وهي ليست من الأمور القطعية التي لا يجوز فيها الخلاف، بل هي محل اجتهاد، ولو رأى الدكتور المصري أن الشيخ أخطأ فيها، ولكن من الأمانة العلمية أن نذكر للشيخ اجتهاده الفقهي، وكثرة صوابه فيه؛ لما نحسب أنه رزق من توفيق الله تعالى، وإن جاد الشيخ في بعض المسائل، وقد كتبت كتابا بعنوان ( الإفتاء عند الشيخ القرضاوي..قراءة في المنهج والتطبيق)، وختمته بفصل أسميته ( المسائل التي يظن أن الشيخ خالف فيها منهجه)، فليس من الحكمة أن نسلط الضوء على آحاد فتاوى من آلافها، ومن المعلوم لدى الجميع أن الأئمة الكبار كانت لهم اجتهادات خولفوا فيها الجميع حتى عدها البعض من الشواذ، وهو أمر مشتهر بين أهل العلم، غير أن هذا لم ينقص من قدرهم، ولم يكن داعيا لشن حملة عليهم.

أما عدم رد الشيخ على المعترضين، رغم أنه يكرر الكلام ( خمسين مرة)، فهذا منهجه، وليست هناك ملازمة بين الأمرين، فأنا لا أرد على المخالفين، لكني أكرر ما فيه الصالح للناس، إذ الرد بما لا يكون فيه خير، بينما تكرار الكلام الصالح فيه خير، وفرق بين الأمرين.

أما ما يقوله الدكتور رفيق من أن الشيخ أضحى ما يقوله في ( الشريعة والحياة) كلام إنشاء وتكرار ممل، فمن المعلوم أن هذا البرنامج إنما هو لعوام الناس، وليس لأمثال الدكتور رفيق والدكاترة والشيوخ المتخصصين، فمن السهل ألا يشاهد الدكتور رفيق البرنامج، فليس البرنامج موجها له ولا لمن هو في مستواه، ولا لمن هو أقل منه من المتخصصين.

أما إن كان الشيخ يشغلك بحفظه عن فقهه، فبوسعك ألا تسمع للشيخ، ولا أن تقرأ له إن أحببت، فالشيخ لم يجبر الناس على سماعه ولا متابعته، وإنما هو اختيار الناس، وعند الناس آلاف المشايخ، وعشرات البرامج، فليتخير كل امرئ لنفسه ما يحب.

وهناك من الأمور التي انتقد فيها الدكتور رفيق المصري، وأحسبها من باب الافتيات على الشيخ، وذلك من أنه يسكت عن بعض من وصفهم الدكتور رفيق بالتكسب بالفتوى وغيرها من الصفات ، أو أنه يرى أن الشيخ القرضاوي يتهم مخالفيه بالتشدد من باب الحيل ولإرضاء الحكام وغيرهم، فأحسب أن هذا من سوء الظن المنهي عنه شرعا، وما ينبغي للعلماء أن يقعوا فيما حذر الله منه (وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا ).

وقد اتسمت بعض الأفكار في المقال بالعمومية، فالقول بأن الشيخ يتشدد أحيانا ويتساهل أحيانا، فليس هذا بتناقض، لأن مقياس التشدد والتساهل قد لا يتفق عليه، بل في ذلك رد على ما اتهم به الشيخ من التساهل، فلو كان متساهلا؛ لكان متساهلا على طول الخط، وإنما يبني فتواه على ما يظهر له من الدليل، فيوصف بالشدة أحيانا، وبالتساهل أحيانا.
أما تفريق الشيخ القرضاوي بين الأخذ بالرخص وتتبع الرخص، فأجاز الأولى ولم يجز الأخرى، وأن الأولى تجر على الأخرى فغير مسلم به من عدة وجوه:

الوجه الأول: أن هناك فرقا حقيقيا بين الأخذ بالرخص وتتبعها، وهو فرق واضح، فمن أخذ برخصة مرة أو مرتين أو آحاد المرات فليس بمتتبع، أما المتتبع فهو الذي يفتش عن الرخص ليأخذها، ولعل مراجعة معنى ( الأخذ والتتبع) في اللغة يغني عن بيان الفرق.

وغالب الناس يأخذ بالرخص، وعلم من السلف الإفتاء في كثير من المسائل بالرخص دون تتبعها، وليس بمستنكر، كيف وقد رخص الرسول صلى الله عليه وسلم في كثير من الأمور، بل إن هناك أحكاما مبنية على الترخص في أصلها، منها بيع السلم وغيره، والدكتور رفيق متخصص في الاقتصاد ويعلم هذا، والمتتبع لما رخص فيه الرسول صلى الله عليه وسلم والسلف من بعده ليجدها مسائل كثيرة جدا.

ورغم أن الشيخ القرضاوي لا يرى تتبع الرخص، فإن المسألة محل خلاف بين الأصوليين، وأوردوا فيها سبعة آراء، هي على النحو التالي:
 
1. قال أكثر أصحاب الشافعي وصححه الشيرازي والخطيب البغدادي وابن الصباغ والباقلاني والآمدي:  يخير الإنسان بأخذ ماشاء من الأقوال، لإجماع الصحابة على عدم إنكار العمل بقول المفضول مع وجود الأفضل.

2. أهل الظاهر والحنابلة: يأخذ بالأشد الأغلظ.

3.  يبحث عن الأعم من المجتهدين، فيأخذ بقوله.

4. يأخذ بقول الأول، حكاه الرُّوياني.

5.  يأخذ بقول من يعمل على الرواية دون الرأي، حكاه الرافعي.
6. يجب عليه أن يجتهد فيما يأخذ مما اختلفوا فيه، حكاه ابن السَّمعاني، ومشى عليه الشاطبي في الموافقات. ،وهذا القول قريب من رأي الكعبي.
7. إن كان الأمر في حق الله أخذ بالأخف، وإن كان في حق العباد أخذ بالأغلظ، حكاه الأستاذ أبو منصور الماتريدي. ا.هـ
ومع هذا، فإننا نوافق شيخنا القرضاوي أنه لا بأس بأخذ الرخص دون تتبعها، لأن الله تعالى قد خلق الناس متباينين، فمنهم من إذا ألزمته بالعزيمة نفر وشذ، ومنهم من أخذ بالرخص دوما انحل وانحرف، بل نعمل بالعزيمة إن كانت أوفق لحال الإنسان، ونعمل بالرخصة إن كانت أوفق لحاله، وربما كانت العزيمة أولى للشخص أحيانا، والرخص أحيانا، وبعض الناس يناسبهم الأخذ بالعزائم في الغالب، والبعض يناسبهم الرخص في الغالب، ولكن الرخص المبنية على الدليل.
وفي النهاية: لا يسعني إلا أن أقول: أقدر علم الدكتور رفيق المصري وغيرته وحرصه، غير أنه ما هكذا يورد الخلاف والنقد من أحد العلماء الذي نجلهم ونحترمهم، وأحب أن أذكر أن وراءكم طلابا من أمثالي يتعلمون منكم، فكونوا لنا قدوة، وعلمونا كيف يكون الاختلاف بين العلماء كما كان عليه السلف الصالح.

ولا تنس أنك بشر تخطئ وتصيب، وربما جاءك يوما من ينتقدك مثل نقدك الشيخ القرضاوي، والأيام دول، ولكن ليكن الخلاف على منهج السلف الصالح، في إسداء النصيحة لله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم،  فالعلم رحم بين أهله، وليس لرأي الناس عصمة ، إنما هو الاجتهاد المقدور بالأجر عند الخطأ، وبالأجرين عند الصواب.

وفقنا الله تعالى لما يحب ويرضى، وجمع شمل علمائنا على ما فيه مصلحة أمتنا.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين