الأعمال المثمرة عُدَّة الأمم المتحضِّرة

 

عن أبي هريرة قال في رواية قبيصة، وأراه رفعه وقال في رواية وكيع، قال: قال رسول الله: "من طلب الدنيا حلالاً مفاخراً مكاثراً مرائيا لقي الله وهو عليه غضبان، ومن طلب الدنيا حلالا استعفافا عن المسألة، وسعيا على عياله، وتعطفاً على جَاره لقي الله يومَ القيامة ووجهه كالقمر ليلة البدر" [أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه، والبيهقي في الشعب].

في هذا الحديث الشريف يرشدنا الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم إلى فضل الكسب الحلال وشرف العمل المثمر الذي يحفظ للإنسان كرامتَه ويغنيه عن المسألة ويمكنه من مُعاونة المحتاجين من جيرانه والبائسين من بني وطنه وإخوانه.

وهذا العمل الشريف والكسب الطيب هو أحد العناصر القوية الثلاثة التي اتخذت منها نهضتنا المباركة شعارها وهي الاتحاد والنظام والعمل، فهذه هي الأسس القوية والدعائم المكينة في بناء صرح الأمة الوثَّابة المتطلِّعة إلى المجد المتعطِّشة إلى الحريَّة التوَّاقة إلى الكرامة المضحية في سبيل المصلحة العامة بكل ما تتطلبه المصلحة الخاصَّة.

وقد رسخت هذه الدعائم الثلاث في قلب كل مسلم فأصبحت عقيدة له تنبعث منها جميع تصرفاته فهو يصدر في كل أقواله وأعماله عن الروح الصافية لتلك العقيدة التي أشربها في قلبه وأرشده إليها الدين وكلفه بها الإسلام، الذي يحض على العمل وينهى عن الخمول والكسل فإنَّ الكسل يجلب العوز والفقر، والعمل يمحو ذلَّ السؤال ويحصل للعامل حاجته ويسعد عيشته وقد جعل الرسول صلى الله عليه وسلم الكد في طلب العيش وتحصيل القوت جهاداً في سبيل الله.

عَنْ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ: أَنَّ رَجُلًا مَرَّ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ , فَرَأَى أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ مِنْ جَلَدِهِ وَنَشَاطِهِ مَا أَعْجَبَهُمْ , فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ , لَوْ كَانَ هَذَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ , فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: «إِنْ كَانَ يَسْعَى عَلَى وَلَدِهِ صِغَارًا فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ , وَإِنْ كَانَ خَرَجَ يَسْعَى عَلَى أَبَوَيْنِ شَيْخَيْنِ كَبِيرَيْنِ فَفِي سَبِيلِ اللَّهِ , وَإِنْ كَانَ خَرَجَ يَسْعَى عَلَى نَفْسِهِ لِيَعِفَّهَا فَفِي سَبِيلِ اللَّهِ , وَإِنْ كَانَ خَرَجَ يَسْعَى عَلَى أَهْلِهِ فَفِي سَبِيلِ اللَّهِ , وَإِنْ كَانَ خَرَجَ يَسْعَى تَفَاخُرًا وَتَكَاثُرًا فَفِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ» [قال الهيثمي في المجمع: رواه الطبراني في الثلاثة، ورجال الكبير رجال الصحيح]. 

وقد دعا عليه السلام إلى استثمار الأرض وتوفير الأقوات وجعل ذلك من أكبر العبادات وأعظم القربات التي يبتغى بها وجه الله ويكتسب بها رضاه فهو يقول: (مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَغْرِسُ غَرْسًا أَوْ يَزْرَعُ زَرْعًا فَيَأْكُلُ مِنْهُ طَيْرٌ أَوْ إِنْسَانٌ أَوْ بَهِيمَةٌ إِلا كَانَتْ لَهُ صَدَقَةٌ) [أخرجه البخاري ومسلم]. فالزارع الذي يحمل فأسه ويشقُّ أرضَه ويبذر حَبَّه ويحصد زرعه، والعامل الذي يعمل بآلة عمله لتحصيل أرزاق عياله لكل منهما أجر مثل ثواب المجاهدين في سبيل الله.. 

وقد شرَّف الله المجاهدين وفضَّلهم على القاعدين بقوله جلَّ شأنه: [لَا يَسْتَوِي القَاعِدُونَ مِنَ المُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللهُ المُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى القَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللهُ الحُسْنَى وَفَضَّلَ اللهُ المُجَاهِدِينَ عَلَى القَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللهُ غَفُورًا رَحِيمًا] {النساء:95-96}. فالقاعد الكسول بغيض إلى أهله مذموم من الناس وهو العضو الأشل الذي يضرُّ المجتمع ولا ينفعه ويأخذ منه ولا يعطيه ويؤخره ولا يقدمه ويخفضه ولا يرفعه. 

وقد غفل القاعدون الكسالى والمهملون في أعمالهم عن قول أصدق القائلين وأحكم الحاكمين: [هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ] {الملك:15}. وما أجد المسلمين الراغبين في استرداد عزتهم أن يهتدوا بهدي خاتم المرسلين، فقد جاء صلى الله عليه وسلم رجل من الأنصار تبدو عليه الحاجة ويتعرَّض للسؤال فقاله له: أَمَا ببيتك شيء، فأجابه بأنَّ في بيته فراشاً ينام عليه، وإناء يشرب به، فأمره بإحضارهما فأخذهما منه وباعهما بدرهمين، ثم قال له اشتر بأحدهما طعاماً لأهلك، وبالآخر قدوماً، واذهب به فاحتطب وبع ولا أرينك خمسة عشر يوماً، ففعل ثم جاء بعد ذلك وقد اكتسب من عمله عشرة دراهم فاشترى ببعضها ثوباً وببعضها طعاماً، فلما علم الرسول صلى الله عليه وسلم قال له هذا خير لك من أن تجيء المسألة نكتة سوداء في وجهك يوم القيامة. [أخرجه أحمد والترمذي والنسائي].

وها هو ذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه يضرب الكسالى القاعدين عن العمل الراكنين إلى الراحة والكسل ويقول لهم: (لا يقعد أحدكم عن طلب الرزق، وهو يقول اللهم ارزقني وقد علم أن السماء لا تمطر ذهباً ولا فضة).

أيها المسلمون: هذه سبيل المؤمنين الصادقين وتعاليم المصلحين الراشدين فعليكم أن تأخذوا بها وتتبعوا طريقكم حتى تنالوا الكرامة والعزَّة والقوة والسلطان، وعليكم أن تُقبلوا على شؤونكم وتخلصوا في أعمالكم؛ فعلى الزارع في أرضه وعلى الصانع في مصنعه وعلى الموظف في وظيفته وعلى المرأة في بيتها وعلى الخادم لمخدومه وعلى المخدوم لمن تحت يده وعلى الشباب في معاهدهم أن يؤدوا جميعاً واجبهم ويصدقوا في النهوض برسالتهم، فنهوض كل فرد بواجبه بعيداً عن الأهواء والأنانيَّة يسعد البلاد ويزيد في مَواردها ويوفر خيراتها ويضاعف وجوه النشاط والإنتاج في زراعتها وتجارتها وصناعتها، وبذلك يتم التعاون على البر والخير بين الحاكمين والمحكومين، وتتم النعمة على المجاهدين الصادقين والمواطنين المتحابين، وتتحقق أهداف النهضة وتصل إلى غاياتها وتوفر للبلاد حاجاتها في ظل الحرية والكرامة متبوئة المكانة التي تليق بماضيها المجيد وحاضرها السعيد ومستقبلها المشرق الوضَّاء.

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم. 

 

المصدر: (مجلة منبر الإسلام السنة التاسعة، رجب 1372 - العدد 7).

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين