تعريف بكتب علي الطنطاوي: (6) أعلام من التاريخ

أعانني الله بتوفيقه وفضله على إصدار هذا الكتاب قبل أشهر قليلة فحسب، وقد أخذتُ اسمَه من سلسلة رسائل "أعلام التاريخ" التي كتبها جدي رحمه الله عام 1959 وصدرت طبعتُها الأولى في السنة التالية.

هذه الرسائل ظُلمت لأنها لم تُطبَع في كتاب واحد، فأكثر القراء (وأنا منهم) يحبون الكتب ويعزفون عن الكتيّبات، فلم تلقَ من الرواج ما لقيَته سائر الكتب. ثم انقطعَت عن الصدور واختفت من الأسواق من سنوات طويلة، فلما جئت أشتغل بكتب جدي، وأنشر منها ما لم يكن نُشِرَ من قبل، عزمت على جمعها وإصدارها في كتاب واحد، ثم عثرت بين أوراقه على مخطوطات لترجمات لم تجد طريقها لأيّ من كتبه المنشورة، فنويت أن أضمها إليه.

وقد ضممتُ إليه أيضاً عدداً من الأعلام المُحدَثين الذين أضافهم جدي رحمه الله إلى كتاب "رجال من التاريخ" في طبعته السابعة، وهي ترجمات كان يعتزم إصدارها في كتاب عنوانه "رجال عرفتهم" أو "رجال من دمشق"، ولطالما مرَّت بي مُسوَّداته وأنا أساعده في ترتيب أوراقة، ثم عزف عن ذلك لمّا عَلَت سنّه وضعفت همّته وألحقها بكتاب "رجال"، فنزعتها منه وألحقتها بهذا الكتاب في طبعته الجديدة.

ثم أضفت إليه أخيراً بعض التراجم التي لم يكتبها الشيخ لتُنشَر في مقالات مستقلة، إنما كتبها مقدّمات لأصدقاء طلبوا منه التقديم لبعض كتبهم، فجاءت مقدماتُه أقربَ إلى الترجمة لهم والحديث عنهم. ثم استللت بضع ترجمات أخرى من "الذكريات"، مع جهد بذلته فيها في الجمع والاختيار والاقتصار على مقاطع وحذف أخرى حتى جاءت ترجمات تناسب هذا الكتاب، وصنعت شيئاً مشابهاً مع ابن الجوزي الذي جمعت مقالة متكاملة عنه من المقدمة الطويلة التي كتبها علي الطنطاوي لكتاب "صيد الخاطر" في وقت قريب من كتابة سلسلة "أعلام التاريخ".

* * *

وبذلك صار هذا الكتاب كأنه الأخ الشقيق للكتاب الآخر الشهير، "رجال من التاريخ"، ففي الكتاب القديم أربعون فصلاً قصيراً عرض كلٌّ منها لعَلَم من أعلام الإسلام، وفي هذا الكتاب الجديد أربعة وثلاثون فصلاً، منها خمسُ رسائل طويلة وسائرُها أقرب في الطول إلى فصول "رجال".

وسوف يلاحظ قارئ هذا الكتاب أن منهج الشيخ في كتابة رسائل "أعلام التاريخ" الطويلة مختلف عن أسلوبه في كتابة الترجمات القصيرة التي كانت -في أصلها- أحاديثَ أذاعها من إذاعة دمشق في مطلع خمسينيات القرن الميلادي المنصرم ثم ضاع أكثرها، وما بقي منها ضمَّ بعضَه هذا الكتابُ وأكثرَه الكتابُ الآخر، "رجال من التاريخ". فالمقالة القصيرة تدور على صور قليلة مختارة من سيرة العَلَم المترجَم وشخصيته، أما "الأعلام" فقد كُتبت مادتها بتوسع فجاءت أقربَ إلى الاستقصاء. وربما جرَّت المناسبةُ إلى دراسة موجزة في موضوع متصل بصاحب الترجمة، فمع ترجمة أحمد بن عرفان الشهيد نطّلع على طرف من تاريخ الإسلام في الهند، ومع ترجمة القاضي شَريك نقرأ عن القضاء وفنونه وأصوله ومنزلته في الإسلام، ومع ترجمة الإمام النووي نُلمّ ببعض أهم مصادر الفقه الشافعي وكتبه، مثل "المنهاج" و"الروضة" و"المهذّب" وشرحه العظيم "المجموع".

* * *

وبعد، فقد ترجم علي الطنطاوي لرجال وأعلام من التاريخ، ثم جاء وقتٌ صار هو فيه رجلاً من رجال التاريخ وعلماً من أعلامه:

ما زالَ يدأَبُ في التاريخِ يكتُبُه *** حتى غدا اليومَ في التاريخِ مكتوبا

وقد تصوَّر هو نفسُه هذا اليومَ فكتب في ذكرياته: "ربما كُتبَت يومئذ في رثائي فصول ومقالات، وربما أثنَوا عليّ بما لست له بأهل أو هَجَوني بما لا أستحقّ أو أعرضوا عني فأهملوني حتى نسوني... ما الذي ينالني من ذلك كله؟ ماذا ينفع الميتَ من الثناء وماذا يضرّه من الهجاء وماذا يؤثّر فيه الإهمال والنسيان؟ إنّ دعوة صالحة من قلبٍ حاضر من أخ مؤمن بظهر الغيب خيرٌ للميت من ديوان كامل من عبقري الشعر في رثائه، ومن مئة خطبة في تأبينه وعشرة كتب في دراسة أدبه".

اللهمّ إنه قد وفد عليك وصار في ذمتك وأنت أهل الرحمة والمغفرة، فارحمه برحمتك واعفُ عنه بكرمك يا رحيم يا كريم. واغفر لكاتب هذه السطور ولمن قال -من القرّاء الكرام- آمين.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين