نحو رمضان مختلف (1) لذة الحرمان

وسط عالم مادي يعج بالمتع والشهوات ونيل الحظوظ الدنيوية التي ترهق النفس والجسد معا، قبل وأثناء وبعد تحصيلها، يتراكم السيء من الآثار على العقل والقلب والروح والجسد على مدى شهور طويلة، لتأتي هنا محطة الاستراحة الربانية التي عنوانها الحرمان من خلال الصيام.

نعم، يكون الحرمان تربية وتهذيبا حيث تتزكى النفس بتقوية الإرادة لأخذ قرار الامتناع عن المألوف والمحبوب، وحيث يتزكى الجسد من خلال منح ماكنته قليلا من العطالة، ومنح القلب صفاء وتخففا ورقة مميزة.

في غير رمضان كان النهي النبوي عن أن نصوم الدهر بالتتابع، على عكس رمضان حيث نصومه كل يوم بالتتابع فهو هزة عنيفة تخرجك من مألوف العادات إلى شعائر جديدة ليلية ونهارية، تنقلك من حالة التراخي إلى حالة التحفز والسعي لتنال أعظم العطاء الروحي والنفسي والجسدي بالحرمان!!!

لقد ألفنا التعبد في العطاء بأن نصلي ونزكي ونحج ونذكر ونتحرك للعمل الصالح، لكن ان يكون التعبد هنا بالحرمان فهو أمر على عكس المألوف. 

إنه حرمان لا يعلم صدقه وحقيته ودرجته الا الله، لذلك جعل ثوابه عنده.

إنه حرمان شامل عنوانه الحرمان من الطعام والشراب ومضمونه الحرمان من كل قول أوفعل مستنكر والا فلا حاجة لحرمان الجسد من حاجته، ما دامت النفس تقضى حاجتها بأن تنال ما تريد من محرم القول والفعل.

إنه حرمان مكروه لكنه ممزوج بلذة الظفر بنتائجه في تزكية الروح والجسد ليعلن الفرحة وشارة النصر مع أول تمرة تذهب الظمأ وتبل العروق.

إنه حرمان مؤقت لا أبدي من فجر الى مغرب ومن بداية شهر لآخره، فالمنع فيه وسيلة لا غاية، وأفضل الوسائل ما حقق الغايات بيسر وكمال، حيث التعسير غير مقصود ولا فضيلة فيه في تعاليم ديننا.

إنه حرمان يصاحبه التأمل في حر الأيام وعطش النهار بباب الريان المنتظر الذي أعلن احتكار دخوله لهم فحسب.

الناس في الحرمان مذاهب،

فهو حرمان إجباري عند قوم يعقبه عطاء مقبول ومرضي عندهم.

لكنه حرمان محبوب عند آخرين يعقبه عطاء جزيل وشكر عميق لهذا التوفيق.

إنه حرمان ليس من اختياراتنا وبطولاتنا فحسب، بل لأن الشياطين قد صدر الأمر بأن تصفد ودوافع الخير بأن تنتشر وتعين.

إنه حرمان كالنار تسري في الجسد تكويه لكنها تحرق كل ذنب مضى وكل كبيرة سلفت لتجعلها رمادا منثورا.

إنه حرمان وفي فهو يشفع لمن اختاره عند مالك الشفاعة والآمر بهذا الحرمان رب العالمين.

إن ذلك من عجائب التعبد أن يكون للحرمان لذة ....

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين