العلم والدين

د.احمد محمد كنعان

 

إذا كان القرآن الكريم هو خاتم الرسالات السماوية ومهيمناً عليها ، فإننا من خلال ما ورد في القرآن الكريم من آيات تحض على طلب العلم والتفكر بآيات الله في الآفاق وفي الأنفس ، نستطيع الاستنتاج بأن الأديان السماوية كان لها عبر التاريخ دور أساسي بترسيخ مفهوم العلم في الذهن البشري ، ونستنتج كذلك أن الإنجازات العلمية المتميزة التي أبدعها الإنسان عبر تاريخه الطويل كانت حاضرة في المخيلة البشرية منذ وقت مبكر من وجود الإنسان فوق هذا الكوكب ، وذلك من خلال ما حفلت به الكتب السماوية من آيات تتحدث عن ظواهر الكون ومخلوقاته ، وآيات تحضُّ العقل البشري على السياحة في ملكوت الله وتدفعه دفعاً للتأمل والتفكر والتدبر ، إلى جانب المعجزات الخارقة للعادة التي شاهدها البشر وهي تجري على أيدي الأنبياء عليهم السلام ، فقد لفتت تلك الآيات والمعجزات العقل البشري إلى الكثير من الأسرار المخبوءة في هذا الوجود ، وحسبنا هنا أن نذكر بعضها على سبيل المثال لا الحصر :
• ففي قصة نبي الله سليمان عليه السلام ، الذي سُخِّرت لـه الريح تجري بأمره رخاء حيث أصاب ، غدوها شهر ورواحها شهر ، وفي قصة نقل عرش الملكة بلقيس بلمح البصر من اليمن إلى فلسطين حيث كان سليمان عليه السلام ، يلفت القرآن الكريم العقل البشري إلى إمكانية الطيران في الهواء وإمكانية نقل الأشخاص والأمتعة الثقيلة في برهة خاطفة عبر المسافات الشاسعة التي كان راكب الدابة السريعة يومذاك يستغرق شهراً كاملاً لكي يقطعها !

• ومن خلال قصة تسخير الجن لسليمان عليه السلام ، التفت العقل البشري إلى القوى الخفية المخبوءة في هذا الوجود ، كالطاقة الكهربائية والطاقة الكهرومغناطيسية وغيرها من الطاقات التي بدأنا فعلاً نسخر بعضها في حياتنا اليومية لتحقيق أعمال خارقة بواسطة أجهزة التحكم عن بعد ( Remote Control ) وتحريك الأشياء وتوجيهها بدقة فائقة ولو كانت بعيدة عنا مليارات الأميال ، كما هي الحال في توجيه المركبات الفضائية التي تسبر أعماق الفضاء بين الكواكب !

• وفي قصة الإسراء بالنبي محمد صلى الله عليه وسلم من مكة المكرمة إلى بيت المقدس ثم العروج به إلى السماء السابعة ، في برهة من الليل ، لفت القرآن الكريم عقول البشر إلى إمكانية ارتياد الفضاء ، والوصول إلى الأجرام السماوية البعيدة ، وقد حقق الإنسان الخطوة الأولى في هذه الطريق الطويلة عندما هبط لأول مرة في التاريخ على جرم سماوي غير الأرض ، ووطئت قدماه سطح القمر عام 1969 ، وقد تمكن الإنسان من تحقيق هذا الإنجاز ليس من خلال المعجزات التي لا تكون إلا للأنبياء ، بل من خلال تسخير سنن الله في الطيران وارتياد الفضاء ، ومن المنتظر أن تتبع هذه الخطوة الجبارة خطوات لاحقة عما قريب للهبوط على كواكب أخرى في مجموعتنا الشمسية ، ومن بعدها الكواكب الأخرى خارج هذه المجموعة .

• ومن خلال المعجزات التي أجراها الله عزَّ وجلَّ على يدي نبيه عيسى عليه السلام التفت العقل البشري إلى إمكانية علاج الأمراض المستعصية ، كالعمى والبرص وإحياء الموتى ، وقد استطاعت تقنيات الطب الحديث تحقيق الكثير في هذا المجال ، فأصبح بإمكان الأعمى أن يرى ، والأصم أن يسمع ، ومن هم بحكم الموتى أن ينعشوا بوسائل الإنعاش الحديثة ليواصلوا رحلة الحياة من جديد ، مثل الغرقى الذين ظل بعضهم تحت الماء المتجمد لأكثر من ساعة وأمكن إنقاذهم وإعادة نبض الحياة إلى عروقهم ، بينما كانوا إلى زمن قريب يعتبرون في عداد   الموتى ، إلى غير ذلك من الأمراض المستعصية التي استطاع الطب أخيراً أن يتغلب عليها من خلال فهمه لسنن الله في الصحة والمرض .

• ومن خلال معجزة خلق عيسى عليه السلام من أمه العذراء ، التفت العقل البشري إلى إمكانية التوالد الذاتي ، أو ما يعرف اليوم باسم الاستنساخ ( Cloning ) فقد تمكن الطب الحديث من توليد أنواع من المخلوقات الحية الولودة من فصيلة الثدييات دون عملية التزاوج المعتادة بين الذكر والأنثى ، وعلى سبيل المثال فقد أمكن توليد النعجة دوللي ( Dolly ) عام 1997 من تلقيح بويضة إحدى النعاج بخلية مأخوذة من ضرع نعجة أخرى ، ثم زرعت اللقيحة في رحم نعجة ثالثة هي التي ولدت دوللي ، وهذا يعني أن للنعجة دوللي ثلاث أمهات وليس لها أب واحد ، وفي أواخر عام 2002 أعلن عن ولادة أول طفلة مستنسخة في العالم(1) ، وهي نسخة وراثية طبق الأصل عن والدتها لأن البويضة أخذت من المرأة ونزعت نواتها ولقحت تلقيحاً ذاتياً بنواة خلية جسدية من المرأة نفسها ، ثم زرعت اللقيحة في رحم المرأة ذاتها فولدت الطفلة حواء ( EVE ) أي إن هذه المرأة حملت وولدت من ذاتها ، دون زوج ولا زواج ولا  جماع ، فإذا استثنينا الموقف الأخلاقي والديني من طرق الاستنساخ هذه فإنها تعد بلا ريب تطوراً طبياً كبيراً يبشر بعلاج الملايين من البشر العقيمين ، كما يبشر بتوفير الأعضاء البشرية البديلة لاستخدامها في زراعة الأعضاء بدلاً من الأعضاء المريضة أو التالفة ، وكذلك علاج بعض الأمراض المستعصية مثل الشلل الرعاش أو داء باركنسون ، وخرف الشيخوخة أو داء الزهايمر ، إلى غير ذلك من الأمراض التي يشكل الاستنساخ أملاً كبيراً في علاجها بإذن الله تعالى .

• ومن خلال قصة أصحاب الفيل ( جيش أبرهة الحبشي ) الذين حاولوا قبل الإسلام هدم الكعبة فأرسل الله عزَّ وجلَّ عليهم طيراً أبابيل ترميهم بحجارة من سجيل ، لفت القرآن الكريم الانتباه إلى إمكانيات الحرب الجوية ، والحرب الفضائية الرهيبة أو ما عرف في عصرنا الراهن بحرب النجوم ( WAR STAR ) وقد أصبح اليوم للطائرات والصواريخ والراجمات دور أساسي في مختلف الحروب والمعارك !

• ومن خلال قصة نبي الله يونس عليه السلام الذي ابتلعه الحوت ولبث في بطنه مدة من الزمن ، التفت العقل البشري إلى فكرة الغواصات التي أصبحت اليوم من الوسائل الرئيسية في الحروب ، وفي استكشاف أعماق البحار ، وفي غير ذلك من الأغراض العلمية .

• ومن خلال قصة حمل امرأة إبراهيم الخليل عليه السلام التي كانت عجوزاً طاعنة في السن وكان زوجها عليه السلام شيخاً كبيراً ، وكذلك قصة حمل امرأة نبي الله زكريا عليه السلام التي كانت عاقراً ، وكان زوجها عليه السلام قد تقدم كثيراً في السن واشتعل رأسه شيباً ، لفت القرآن الكريم العقل البشري إلى إمكانية علاج العقم ، وإمكانية الحمل بعد سن اليأس ، ليس من خلال المعجزات وحدها ، وإنما أيضاً من خلال فهم قوانين الحمل والولادة ..

• وأما قصة نوح عليه السلام والسفينة التي بناها للنجاة من الطوفان الذي يرجح أنه عمَّ الأرض فلعلها تنبهنا نحن والأجيال المقبلة إلى تهيئة أنفسنا من الآن ببناء سفينة لا للبحر بل للفضاء ، لكي نرحل بها عندما تصبح الأرض مهددة فعلاً بإحدى الكوارث المدمرة ، وما من شك بأن قصة الطوفان والسفينة هي التي أوحت لأهل السينما وكتَّاب الخيال العلمي بتدبيج الروايات والأفلام الخيالية عن كوارث كونية تهدد أهل الأرض الذين لا يجدون لهم مفراً إلا صنع مركبات عملاقة للنجاة ، كما فعل نوح عليه السلام .. بل إن المسألة قد تعدت اليوم نطاق الخيال العلمي إلى التنفيذ الفعلي وهناك اليوم العديد من المشاريع قيد الدراسة لمثل هذه النقلة المستقبلية المحتملة ، ومن المتوقع أن يبدأ أول مشروع من هذا القبيل في عام 2069 بمناسبة مرور ( 100 عام ) على هبوط أول إنسان على سطح القمر ، وذلك بتدشين جزيرة فضائية أطلقت عليها وكالة الفضاء الأمريكية ناسا ( NASA ) اسم ( Isle 1 Habitat ) وهي سفينة فضائية يبلغ قطرها 130 متراً ، وتستوعب حوالي عشرة آلاف راكب ، وهناك تصاميم لاحقة من هذه السفينة لاستيعاب عشرة ملايين شخص(2) .

وقد حفل القرآن الكريم وما سبقه من الكتب السماوية بالإشارات والتلميحات والمعجزات التي فتحت للفكر البشري آفاقاً ما كانت لتخطر على البال ، ومهدت الطريق للتفكير بارتياد العوالم المجهولة التي ما كان للعقل البشري أن يفكر بها لولا خبر السماء ، وبهذا شكلت الرسالات السماوية للعقل البشري قاعدة علمية غنية ظلت تحرضه منذ القِدَم على البحث والدراسة والتنقيب والكشف ، وأوحت له بوسائل متجددة للإبداع والابتكار والاختراع ، ومكنته من تحقيق حضاراته الكثيرة التي تعاقبت على ظهر الأرض ، وآخرها الحضارة الراهنة التي حققت الكثير مما كان إلى وقت قريب يعدُّ ضرباً من المستحيل .

ويكفي للدلالة على أثر الرسالات السماوية في هذه المسألة أن نراجع سجلات الفكر الفلسفي لنجده حافلاً بالكثير من الأفكار العلمية الرائدة التي قال بها الفلاسفة الأقدمون ، والتي نكاد نجزم بأنها لم تكن نتاج تأملات فكرية أو فلسفية مجردة ، بل نرجح أن أصحابها قد استوحوها من بعض الرسالات السماوية المبكرة التي عاصروها أو وصلت إليهم أخبارها ، وكانت كالقرآن الكريم حافلة بالدعوة للتفكر بآيات الله المبثوثة في هذا الوجود ، وحافلة كذلك بذكر المعجزات التي جرت على أيدي الأنبياء عليهم السلام ، وإن ما يدعونا لهذا الترجيح ما نجده من تطابق كبير بين العديد من النظريات الفلسفية المبكرة في تاريخ الفكر البشري وبين ما ورد في القرآن الكريم مثلاً عن خلق الكون ، أو خلق الإنسان ، أو ما يتعلق ببعض الاكتشافات والمخترعات التي قال بها الفلاسفة قديماً ولم تتحقق إلا بعد آلاف السنين ، فهذه القرائن تدل دلالة واضحة على أن الرسالات السماوية قد شحذت الفكر البشري منذ وقت مبكر من تاريخه ، وهيأته علمياً للمستقبل البعيد الذي نعيش اليوم بعض أجمل إنجازاته .

ولا بد لنا قبل أن نغادر هذه الفقرة أن نشير إلى اختلاف جوهري ما بين الدين والعلم من جهة وسائل الاستدلال المعتمدة في كل منهما ، فالدين يقوم على الاحتكام إلى الكتاب المسطور (= الوحي ) أما العلم فيحتكم إلى الكتاب المنشور ( = الكون ) أي إن الحكم في المسائل الدينية يعتمد على النص السماوي الذي يعد المرجع الأساسي في كل المسائل الشرعية ، أما العلم فمرجعه التجربة الحية والقياس والرصد المباشر لكل ما هو مادي مشاهد أو محسوس ، ولهذا نجد اختلافاً جوهرياً ما بين العلوم الدينية والعلوم المادية ، فالمسائل الدينية قلما يتفق عليها أهل الشريعة لأن مرجعهم هو ( النص ) السماوي ، والنصوص السماوية كما ورد عن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه في وصفه للقرآن الكريم ( حَمَّال أَوْجُه ) ، وهذه الحقيقة يعرفها علماء اللغة وعلماء اللسانيات  الذين يقررون أن معظم النصوص السماوية ظنية الدلالة ، أي يحتمل أغلبها أكثر من معنى وتتعدد الآراء في فهمها ، ومن ثم تتعدد الأحكام المستنبطة منها ، على النقيض من حال العلوم المادية التي تستند إلى التجربة والقياس والرصد المباشر ، ولهذا نجد علماء المادة متفقين على معظم المسائل العلمية ، على النقيض من علماء الشريعة الذين يندر اتفاقهم على المسائل الشرعية التي تقوم أساساً على التعامل مع الألفاظ ، بينما التجربة الحية لا تقيم وزناً للألفاظ بل للنتائج المحسوسة .
وقد تبدو هذه السمة في العلوم الشرعية سلبية للوهلة الأولى ، ولكننا عند التدقيق فيها نجد أن هذه السمة هي التي تعطي الدين قوته وحيويته الدائمة للتفاعل مع تغيرات الزمان والمكان والأحوال ، فهذه الظنية في دلالات النصوص الدينية توفر فسحة واسعة للتفاعل ما بين النص وواقع الناس ليأخذ كل مؤمن من الأحكام الشرعية ما يناسب حالته ، كما أن هذه السمة في النصوص الدينية تجعل الدين مفتوحاً على المستقبل ، قابلاً باستمرار للتفاعل مع متغيرات  العصر ، وفي هذا تيسير على الناس ورفع للحرج عنهم كما ورد في آيات عديدة من كتاب الله الكريم .

وهذه الفوارق ما بين العلوم الدينية والعلوم المادية هي التي تجعلنا ما بين الحين والآخر بحاجة للعودة إلى كتب التراث في المسائل الدينية ، بينما لا نضطر للعودة إلى التراث العلمي اللهم إلا من قبيل الدراسة التاريخية فحسب ، لأن طبيعة العلوم المادية تراكمية مما يفقد كتب العلم قيمتها العملية مع مرور الزمن من جراء الاكتشافات الجديدة ، على العكس من كتب التراث الديني التي كثيراً ما نضطر للعودة إليها ، لأن الذين ألَّفوها كانوا أقرب إلى عصر التنزيل وأقرب إلى فهم النص السماوي وتنزيله على الواقع ، ومن ثم فإن اجتهاداتهم وتعدد آرائهم يثري اجتهاداتنا المعاصرة ويعطينا مساحة أرحب للتحرك بالنص .

ومن المؤسف أن هذه الاختلافات ما بين طبيعة الاجتهادات العلمية وطبيعة الاجتهادات الدينية قد وجد فيها بعض الباحثين المغرضين الحجة الكافية لعزل العلم عن الدين بحجة أن المسائل الدينية غير علمية ، لأن العلم ـ في زعم هؤلاء ـ يقوم على التجربة المحسوسة أو البرهان المادي الذي لا يمكن تطبيقه على المسائل الدينية لأنها تستند أساساً إلى مصدر غيبي غير قابل للتجربة والقياس والرصد (!)

إلا أن هذه الحجة المزعومة ، التي قد تبدو للوهلة الأولى صحيحة ، لا تصمد أمام النقد والتمحيص ، فعلى الرغم من أن الكتب السماوية ليست أساساً كتب علوم مادية ، وإنما هي كتب أحكام شرعية ، فقد حفلت بذكر العديد من الحقائق العلمية التي لم يستطع العلماء اكتشافها إلا منذ فترة قريبة عندما توفرت لهم أجهزة الرصد العلمي الدقيقة ، وهذا ما جعل ظاهرة ( الإعجاز العلمي ) في القرآن الكريم والسنة النبوية تلقى اهتماماً كبيراً في الآونة الأخيرة ، لأنها دلت بصورة قاطعة على ما في الرسالات السماوية من علم راسخ لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، وليس هذا بمستغرب ، فإن الذي أنزل الرسالات السماوية هو الذي خلق هذا الكون ، وهو بلا ريب أعلم به من العلماء على مدار التاريخ : (( ألا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطيفُ الخَبيرُ )) الملك 14 ، وليس في هذا تقليل من قيمة الإسهامات العلمية الفذة التي حققها العلماء حتى الآن ، وليس فيه تثبيط لهمم العلماء ، بل فيه تحريض لهم على المزيد من العمل والجهد لأنهم عرفوا الآن أن في هذا الوجود الكثير مما يحتاج إلى الكشف ، وعرفوا أيضاً أن قول القائلين ( ما ترك الأولون للآخرين شيئاً ) غير صحيح على الإطلاق !

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين