ثبوت الرجم في زنى الثيّب والرد على شبهة تنصيف حد الزنى

قبل نحو ثلاثة أشهر وصلني من أحد الفضلاء سؤال هذا نصه:

السلام عليكم

دار نقاش مع أخ عزيز حول مكانة السنّة النبوية مقارنة بالقرآن الكريم، وأبدى تشكيكا شديدا حول ثبوت رجم المرأة الغامدية وذلك لأن الرجم لم يرد بالقرآن الكريم ولا يمكن أن يفعل الرسول شيئا مخالفا للقرآن الكريم. فوعدته بالسؤال عن هذا الموضوع. فأفدنا في ذلك وجزاك الله كل خير...

-----

فأجبته جوابا مقتضبا هذا نصه:

وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.

أين المخالفة للقرآن؟

الجلد في القرآن: حدّ البكر.

والرجم في السنة: حدّ الثيب.

فأين المخالفة.؟

والسنة وحيٌ بنص القرآن القائل: (وَمَا یَنطِقُ عَنِ ٱلۡهَوَىٰۤ * إِنۡ هُوَ إِلَّا وَحۡیࣱ یُوحَىٰ)

[سورة النجم 3 - 4]

الإعراض عن حكم النبي صلى الله عليه وسلم هو المخالفة الحقيقية للقرآن الذي أمرنا بأخذ ما جاءت به السنة كما نأخذ ما جاء به القرآن، فقال تعالى: (... وَمَاۤ ءَاتَىٰكُمُ ٱلرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَىٰكُمۡ عَنۡهُ فَٱنتَهُوا۟ۚ وَٱتَّقُوا۟ ٱللَّهَۖ إِنَّ ٱللَّهَ شَدِیدُ ٱلۡعِقَابِ)[سورة الحشر 7]

وقال: (مَّن یُطِعِ ٱلرَّسُولَ فَقَدۡ أَطَاعَ ٱللَّهَۖ وَمَن تَوَلَّىٰ فَمَاۤ أَرۡسَلۡنَـٰكَ عَلَیۡهِمۡ حَفِیظࣰا)[سورة النساء 80]

------

ثم تسلمت من نفس الأخ الفاضل هذا اليوم سؤالا هذا نصه:

السلام عليكم شيخنا الفاضل

...ويستمر النقاش على موضوع الرجم مع صديق آخر مشيرا إلى آية الزواج من أَمَةٍ في سورة النساء :{... فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ ۚ ذَٰلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنكُمْ ۚ وَأَن تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَّكُمْ ۗ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (25)}

تستوجب نصف عذاب المحصنات كما ورد في القرآن (أي الجلد) وهذا يتنافى مع رجم المحصنة إذا زنت! فكيف نفسر هذا التعارض؟

وجزاك الله كل خير...

---------

فكتبتُ إليه جوابا هذا نصه:

وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.

هذا خطأ في الفهم، منشؤه السطحية في العلم.

ولو كان قائل هذا الكلام من أهل التخصص لضحك على نفسه من هذا الكلام المجافي لمنطق العلم.

ليس المراد بالمحصنات في قوله: (فَإِنۡ أَتَیۡنَ بِفَـٰحِشَةࣲ فَعَلَیۡهِنَّ نِصۡفُ مَا عَلَى *ٱلۡمُحۡصَنَـٰتِ* مِنَ ٱلۡعَذَابِۚ). ليس المراد المتزوجات في مقابل الأبكار.

وإنما المراد الحرائر في مقابل الإماء.

هذه الآية من سورة النساء: (وَمَن لَّمۡ یَسۡتَطِعۡ مِنكُمۡ طَوۡلًا أَن یَنكِحَ *ٱلۡمُحۡصَنَـٰتِ* ٱلۡمُؤۡمِنَـٰتِ فَمِن مَّا مَلَكَتۡ أَیۡمَـٰنُكُم مِّن فَتَیَـٰتِكُمُ ٱلۡمُؤۡمِنَـٰتِۚ وَٱللَّهُ أَعۡلَمُ بِإِیمَـٰنِكُمۚ بَعۡضُكُم مِّنۢ بَعۡضࣲۚ فَٱنكِحُوهُنَّ بِإِذۡنِ أَهۡلِهِنَّ وَءَاتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِٱلۡمَعۡرُوفِ *مُحۡصَنَـٰتٍ* غَیۡرَ مُسَـٰفِحَـٰتࣲ وَلَا مُتَّخِذَ ٰ⁠تِ أَخۡدَانࣲۚ فَإِذَاۤ *أُحۡصِنَّ* فَإِنۡ أَتَیۡنَ بِفَـٰحِشَةࣲ فَعَلَیۡهِنَّ نِصۡفُ مَا عَلَى *ٱلۡمُحۡصَنَـٰتِ* مِنَ ٱلۡعَذَابِۚ ذَ ٰ⁠لِكَ لِمَنۡ خَشِیَ ٱلۡعَنَتَ مِنكُمۡۚ وَأَن تَصۡبِرُوا۟ خَیۡرࣱ لَّكُمۡۗ وَٱللَّهُ غَفُورࣱ رَّحِیمࣱ) [سورة النساء 25]

ذُكِرَتْ فيه مشتقات الإحصان أربع مرات، جَمَعتْ كل معاني الإحصان الثلاثة التي وردت في القرآن.

وللإحصان في القرآن ثلاثة معان، ذكرها السيوطي وغيره.

الأول: الإحصان بمعنى العفاف والحشمة، الذي يقابله التهتك والريبة والسفاح، كما في قوله: (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ) [النور: 4] 

فقطعا ليس المراد: والذين يرمون المتزوجات. 

لأن رمي العفيفات البريئات يستوجب حد القذف. سواء أكانت المتهمة متزوجة أم بكرا.

وكذلك في قوله: ( ...وَأُحِلَّ لَكُم مَّا وَرَاۤءَ ذَ ٰ⁠لِكُمۡ أَن تَبۡتَغُوا۟ بِأَمۡوَ ٰ⁠لِكُم مُّحۡصِنِینَ غَیۡرَ مُسَـٰفِحِینَۚ) [سورة النساء 24]

وقوله: (ٱلۡیَوۡمَ أُحِلَّ لَكُمُ ٱلطَّیِّبَـٰتُۖ وَطَعَامُ ٱلَّذِینَ أُوتُوا۟ ٱلۡكِتَـٰبَ حِلࣱّ لَّكُمۡ وَطَعَامُكُمۡ حِلࣱّ لَّهُمۡۖ وَٱلۡمُحۡصَنَـٰتُ مِنَ ٱلۡمُؤۡمِنَـٰتِ وَٱلۡمُحۡصَنَـٰتُ مِنَ ٱلَّذِینَ أُوتُوا۟ ٱلۡكِتَـٰبَ مِن قَبۡلِكُمۡ ...) [سورة المائدة 5]

فالمراد بالإحصان هنا: التعفف والاحتشام. قولا واحدا.

الثاني: الإحصان بمعنى التزوج، الذي يقابله البكارة. كما في قوله تعالى في سياق تعداد المحرمات في النكاح، بعد أن ذكر المحرمات بالنسب، والمحرمات بالرضاع، والمحرمات بالمصاهرة. في آية النساء الطويلة: (حُرِّمَتۡ عَلَیۡكُمۡ أُمَّهَـٰتُكُمۡ وَبَنَاتُكُمۡ وَأَخَوَ ٰ⁠تُكُمۡ وَعَمَّـٰتُكُمۡ وَخَـٰلَـٰتُكُمۡ...) [سورة النساء 23]

قال بعدها:(وَٱلۡمُحۡصَنَـٰتُ مِنَ ٱلنِّسَاۤءِ إِلَّا مَا مَلَكَتۡ أَیۡمَـٰنُكُمۡۖ .) [سورة النساء 24]

ومعنى (المحصنات) هنا: المتزوجات. قولا واحدا.

أي: ويحرم عليكم الزواج بالمتزوجات حتى ولو يكنَّ من المحرمات بالنسب ولا الرضاع ولا المصاهرة.

وهذا واضح.

الثالث: الإحصان بمعنى الحرية، التي يقابلها الرق، كما في قوله تعالى في تتمة الآية السابقة: (فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ) [النساء: 25] أي نصف ما على الحرائر.

وعليه فيكون تفسير الإحصان في المواضع الأربعة من الآية المسؤول عنها على النحو التالي:

(وَمَن لَّمۡ یَسۡتَطِعۡ مِنكُمۡ طَوۡلًا أَن یَنكِحَ *ٱلۡمُحۡصَنَـٰتِ* "أي الحرائر" 

ٱلۡمُؤۡمِنَـٰتِ فَمِن مَّا مَلَكَتۡ أَیۡمَـٰنُكُم مِّن فَتَیَـٰتِكُمُ ٱلۡمُؤۡمِنَـٰتِۚ وَٱللَّهُ أَعۡلَمُ بِإِیمَـٰنِكُمۚ بَعۡضُكُم مِّنۢ بَعۡضࣲۚ فَٱنكِحُوهُنَّ بِإِذۡنِ أَهۡلِهِنَّ وَءَاتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِٱلۡمَعۡرُوفِ *مُحۡصَنَـٰتٍ* "أي عفيفات. بدليل قوله بعدها" غَیۡرَ مُسَـٰفِحَـٰتࣲ وَلَا مُتَّخِذَ ٰ⁠تِ أَخۡدَانࣲۚ فَإِذَاۤ *أُحۡصِنَّ* "أي: تزوجن" فَإِنۡ أَتَیۡنَ بِفَـٰحِشَةࣲ فَعَلَیۡهِنَّ نِصۡفُ مَا عَلَى *ٱلۡمُحۡصَنَـٰتِ* "أي الحرائر" مِنَ ٱلۡعَذَابِۚ ذَ ٰ⁠لِكَ لِمَنۡ خَشِیَ ٱلۡعَنَتَ مِنكُمۡۚ وَأَن تَصۡبِرُوا۟ خَیۡرࣱ لَّكُمۡۗ وَٱللَّهُ غَفُورࣱ رَّحِیمࣱ) [سورة النساء 25]

ومعلوم أن الحرة الزانية لها حالتان في العقوبة:

الأولى: حالة البكر، وحَدُّها مائة جلدة.

الثانية: حالة المتزوجة، وحَدُّها: الرجم حتى الموت.

فلمّا سمعنا الله تعالى يقول عن عقوبة زنى الإماء المتزوجات: (فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ) يعني نصف ما على الحرائر.

نظرنا في العقوبة التي تقبل التنصيف من حَدِّ الحرة الزانية، فوجدنا عقوبة البكر هي التي تقبل التنصيف دون عقوبة المتزوجة.

فعرفنا أن عقوبة الأمة المتزوجة إذا زنت، خمسون جلدة.

وبهذا يتضح أن لا تعارض ولا تناقض.

وصدق الله إذ يقول:

(أَفَلَا یَتَدَبَّرُونَ ٱلۡقُرۡءَانَۚ وَلَوۡ كَانَ مِنۡ عِندِ غَیۡرِ ٱللَّهِ لَوَجَدُوا۟ فِیهِ ٱخۡتِلَـٰفࣰا كَثِیرࣰا)[سورة النساء 82]

والله أعلم.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين