الحُزْن

 أكرم علي حمدان


كم في هذا العالم من قلوبٍ كسيرة، عشَّش فيها الحزنُ وباض وفرّخ، وسكن فيها من صنوفه وألوانه ما لو مازج مياه البحار لمزجها. اللهَ ما أعجبَك أيها القلبُ وما أغربَك، مسكينٌ أنت: خُلقتَ من لحم ودم، وجُعلت مستودعًا لأسرار لو أصاب بعضُها جبالَ الأرض لاندكت: ألم يقبلْ أبوك الأوّل بحمل الأمانة التي عجزت عنها السموات والأرض والجبال؟ فلا غروَ أن تكون اليوم محلًّا لهذا الكائن العجيب الذي يُسَمّونَه الحزن، يتخذ منك له سكنًا ومنزلًا، حتى إذا ضقت به، عادَ ماءً حميمًا، فاضت به العيون، فسالت منها العبرات الحرّى، وجرت الدموع الساخنة، مختلطة بمشاعرَ ذاتِ نكهة غريبة، ومذاقٍ عجيب، دقّ على وصف الشعراء، وفلسفة المتفلسفين.


إنه الحزن! انطوت عليه قلوب كثيرين من البؤساء والمساكين، فترك فيها ندوبًا لا سبيلَ إلى التئامها، ذلك الشعور العجيب الذي قل أن يترك إنسانًا من غير أن يزوره ولو مرّة في حياته، تقوى وتضعف بحسب مبلغ هذا الإنسان من الغلظة والرقة، والإحساس والبلادة، ومدى اتصاله بعالم الأرواح، وانعتاقه من دنيا المادة والجسوم، ولذلك كان الشرق آنسَ بالحزن من الغرب، به انطبع شِعرُ شعرائه، وتلونت موسيقى غنائه، واصطبغت نفوس أبنائه: نفوسٌ مهرت في خلق أسباب الحزن، ونبغت في اقتناص دواعيه، تخلقها من الكثير ومن القليل، ومن شيءٍ ومن لا شيء، بل وتخلقها من دواعي الفرح والسرور.


كتب أحمد أمين مقالة عنوانها "الضحك" فأدار مطلَعَها كلَّه على الحزن، وكان ما قاله في الحزن فيها والبكاءِ أبلغَ مما قاله في الضحك والسرور، فله نفسٌ لم تَمْهَرْ في خلق أسباب السرور مهارتَها في حشد أسباب الحزن، كأن فيها مستودعًا كبيرًا من اللون الأسود، تغرف منه غرفة كلما دعت الحاجة، فتسوِّد بها كل ما يعرض لها من مناظر، فلا عجب أن تجيبَه الدمعةُ وتستعصيَ عليه الضحكة، ويسرعَ إليه الحزنُ ويُبْطِئَ عنه السرور، حتى لئن كان تسعة وتسعون سببًا تدعو إلى الضحك وسبب واحد يدعو إلى الدمعة، غلب الدمعُ وانهزم الضحك، وأطاع القلبُ داعيَ الحزن، ولم يُطِعْ داعيَ السرور.


وأنا لا أذكر أنني خرجت مرّة في مظاهرة تُنظَّمُ انتصارًا لفلسطينَ الكسيرة تجوب شوارع لندن، إلا هاجت مشاعري، وذرفت الدموع من سماع هتافات المناصرين من غير العرب والمسلمين، ولست أدري تعليلًا لهذا الأمر إلا أنني أشعر بأنني جريح لجرح فلسطين، تآمر عليها الأقربون والأبعدون، وغدرت بها الأيامُ الحالكة والسنون، وتخلى عنها بعض أبنائها، لم يسمعوا أنينَ مدنِها وقراها، وبحرِها ونهرِها، ووهادِها وتلالها، ومساجدها وكنائسها، تطؤها أقدامُ الغزاةِ الآثمين، ولا من نصيرٍ ولا معين.


ولا أدري ما سرُّ هذا الحزنِ الذي انطوت عليه نفسي وغَرِيَت به، فأنا خبيرٌ بمواضعِ الحزن من الشِّعرِ والغناءِ والموسيقى، مجتهدٌ في ذلك مُطلَق، تطلبُها نفسي لسببٍ ولغير سبب: حزِنتُ لفقد أمي، ماتت بعد أن عصرها المرضُ وهي في مطلعِ الخمسين، وحزِنتُ لفقد أبي، قضى بعد أن قضت عليه الآلام، وحزنتُ لفقد أخي محمّد، رحل في ميعة الصبا وشرخ الشباب، بصاروخ صُنع في بلاد الحضارةِ والمدنية، ليُحرق أجسادَ الأبرياء الغضة الطرية، ويحوِّلَها إلى أشلاءٍ مُفتَّتة، وقطعِ لحم بشري متفحمة متناثرة، وحزنتُ لفقد كثير من أصحابي ومعارفي وأبناء بلدي، أحرقتْ أجسادَهم آلةُ الموت الصهيونية، ومزَّقتهم شرَّ ممزَّق، من غير رحمة ولا شفقة، وكلُّهم طوتهم يدُ الردى وأنا عنهم بعيد.


ومنذُ زمنٍ لم نسمعْ بكتبٍ تُباع منها ملايين النسخ في عالمنا العربي الحزين، حتى جاء رجلٌ وجمع كتابًا جعل عنوانه: "لا تحزن"، فهبّ الناس سِراعًا يشترونه ويقرؤونه، حتى تجاوزت مبيعاته مليونَ نسخة! مساكينُ هؤلاء الناس، إنه الحزنُ ملأ منهم القلوبَ وغمر النفوس، وهم يشعرون به أو لا يشعرون، فهم يتعلقون بقشة، كما يقولون، ويدقون كل باب للتغلب على أحزانهم ومآسيهم، لا تلُمْهم يا صاحبي! فجميل أن لم يشغلهم حزنهم عن قراءة "لا تحزن".


على أن أسبابَ الحزن كثيرة، وصُوَرَه شتى، وضحاياه لا عِدادَ لهم، فهذا نبيٌّ يحزنُ حتى تبيضَّ عيناه، ويفقدَ من شدة الحزن بصرَه، فيصبح أعمى لا يرى، للوعة فراق ابنه الحبيب، ثم لا يجد إلا أن يشكوَ بثَّه وحزنَه إلى الله رب العالمين، وهذا سيدُ الخلق يحزن قلبه لفقد ابنه الوحيد، وتذرِفُ عينُه الشريفةُ الدموع، وتُؤثَرُ عنه كلمتُه الحزينة: إن القلبَ ليحزن، وإن العينَ لتدمع، وإنا على فراقك يا إبراهيم لمحزونون، بل يمرُّ به عامٌ حزينٌ كلُّه، يفقد فيه الزوجة والنصير، فيُسمّيه من قسوته وشدته على نفسِه الشريفةِ عامَ الحزن. وفي عصرنا الحاضر حزن الشيخ الطنطاوي على مقتل ابنته بنان في ألمانيا حزنًا بالغًا، غالتها يدُ الغدرِ والدناءة، حتى أغلق على نفسه البابَ مُدَّة، ثم فتحة يستقبل المسلّين في المصيبة، يحدثهم في كل موضوع، يقول: استبقيتُ أحزاني لي وحدّثتهم كلَّ حديث، حتى لقد أوردت نُكَتًا ونوادر، كنتُ أَضحكُ وأُضحكُ القوم، وقلبي وكلُّ خلية في جسدي تبكي، فما كلُّ ضاحكٍ مسرور:


لا تحسبوا أن رقصي بينكم طربٌ فالطيرُ يرقصُ مذبوحًا من الألمِ
ومات لأحمد أمين أخوان، ذكرهما في الفصلِ الخامسَ عَشَرَ من كتابه "حياتي"، ووصف حالَ بيتِه إذ ذاك وصفًا إن لم تبكِ وأنت تقرؤه فاقرأ على نفسك السلام. هذه أمُّه تذهب كل خميس، بعد انقضاء "خمسانهم"، إلى بيت مأتم، تعرف أهله أو لا تعرفهم، فكلُّ المآتم سواء، وكل الحزانى أصدقاء، وتنفردُ بنفسها فتعدِّد كالمعددة، وكلُّ شيءٍ يُلهمها البكاء، حجرته التي كان ينام فيها، ومكتبه الذي كان يذاكر عليه، وكتبه التي كان يذاكر فيها، وأصدقاؤه الذين كان يلقاهم، وكل شيء يذكرها به، موعد الأكل وموعد الخروج إلى المدرسة، وموعد العودة منها. وهذا أبوه يصبر على حزن دفين، ويأبى إلا أن يغسله بيده ويدفنه بيده، وكانت سلواه أن يُكثرَ من تلاوة القرآن، ويَهَبَ ما يقرؤه إلى روحه، ويسمعُ يومًا بكتابٍ للسيوطيِّ اسمه "فَضْلُ الجَلَدِ عند فَقْدِ الوَلد" فينسخه بيده، يتصبَّرُ بقراءته وكتابته.


أما صاحبنا فقد وضع هذا الحادث على عينيه منظارًا أسود، فهو لا يرى في الدنيا إلا السواد، ولا يسمع من الأصوات إلا صوتَ البكاء، فالشجرةُ الناضرةُ إلى ذُبول، والحياةُ المبتهجةُ إلى فناء، والحمامةُ إذا غنّت فإنما تبكي، والسعيدُ إنما يسعدُ ليشقى؛ واستولى عليه الحزنُ مدّة حتى سُمّي في مدرسته بـ"مالكٍ الحزين". ولم تكد نارُ الحزنِ تهدأ قليلًا ويعلوها الرماد، حتى شبت من جديد بوفاة أخيه الثاني، بعد مرضٍ تركه يتلوى كالشاةِ الذبيحة، ولم يجد أبوه وأمه من سلوى إلا أن يَحُجّا ويقفا بعَرَفة، ويزورا المدينة ويضعا أيديهما على ضريح النبيّ، صلى الله عليه وسلم، يسألان الرحمة للفقيدين والصبر للأبوين.


وتراثُنا العربيُّ مليءٌ بهذا الضرب من الحزنِ على فقد الأولاد والبنات والأحباب، ولئن ضاق المقام عن ذكر طرفٍ من شعر ابن الروميِّ في رثاء ولده، والخنساءِ في رثاء أخيها، ومالكِ بنِ الريب في رثاء نفسه، إن فيه متسعًا لشيءٍ مما جادت به قريحةُ عائشةَ التيمورية، ظلّت سبعَ سنين تكتبُ في رثاءِ ابنتها قصائدَ تُبكي الصخر وتُحرِّكُ الجماد، حتى ابيضَّت عيناها من الحزن فعميت مُدّةً من الزمان، إلى أن ردّ الله عليها بصرَها، لكنها لم تقوَ على نسيان مُصابها: ماتت ابنتُها وهي في ريعان شبابها إِثْرَ عِلَّةٍ اعْتَلَّتْها، لم يُجْدِ فيها طبُّ الأطباء، ولا حكمةُ الحكماء، فرثتها بشعر باكٍ وقصائدَ حزينة، اسمعها وهي تتكلم على لسان ابنتها عندما جاء الطبيب لعلاجها:


فتنفستْ للحزنِ قائلــــةً له          عجِّلْ ببرئي حيث أنت خبيرُ
وارحم شبابي إن والدتي غدت      ثكلى، يشير لها الجوى وتشيرُ
لما رأت يأس الطبيب وعجزه        قالت ودمــع المقلتين غزيرُ
أمّــــــاه قد كَلَّ الطبيبُ وفاتني      مما أؤملُ في الحيــاة نصيرُ
لو جاء عرّاف اليمامة يبتغي        بُرئي لردَّ الطرفَ وهو حسيرُ
أمّـاه لا تنسي بحقِّ بنوتي        قبري، لئلا يحـزنَ المقبورُ


وتردُّ الأم وهي تَغرفُ من بحر حزنها العميق:
والله لا أسلو التلاوة والدعا ما غرّدت فوق الغصون طيورُ
إني ألِفتُ الحزن حتى أنني لو غاب عني ساءني التقصيرُ
قد كنت لا أرضى التباعد برهة  كيف التصبّر والبعاد دهورُ؟
ولا يضيق المقام أيضًا عن ذِكر أمينة قطب، رحمها الله، أحرق الطغاةُ قلبَها وفجعوها بإعدام زوجها الأسير، بعد ان انفطر قلبها الملوّع وهي تنتظره، عشرين عامًا قضاها في غياهب السجون، وما لبث أن خرج منها وتزوج حتى أعيد فيها من جديد، لتمتد إليه يد الغدر فتغتاله بليل، فقرأنا لها من الشعر ما يذيب القلوب ويحرك الصخور، شعرًا يقطر حزنًا وأسى:
مــــا عــدتُ أنـتـظـرُ الرجوعَ ولا مواعيد المسـاء
 مـــا عــدتُ أحـفِـلُ بالقطار يعودُ موفور الرجاء
 مـــا عــاد كـلبُ الحيِّ يُزعجني بصوتٍ أو عُواء
 وأخـافُ أن يلقــاك مـهـتـــاجًــا يُـزمـجـر في غباء
 مـا عدتُ أنتظرُ المجيءَ ولا الـحديثَ أو اللقاء
 مـا عدتُ أرقبُ وقع خَـطْـوِك مقبلًا بعد انتهاء
 مــا عـدتُ أُهـرَعُ حـيـن تقبـل باسمًا رغم العناء
 وأضــيء نـــور الـسُّلَّم لـلـمـشـتاق يـنـعَـم بـارتقاء

وليت شعري أيُّ حزن ذاك الذي تنطوي عليه نفوس كثير من أهلِ غزةَ ممن شهدوا حربها الأخيرة: منهم من فقد أمه ومنهم من فقد أباه؛ منهم من فقد ابنه ومنهم من فقد أخاه، بل منهم من فقد جميع عائلته دَفعة واحدة، حصدتْهم حصّادةُ الأرواح أمام ناظريه، ينظر إليهم يسقطون مضرجين بدمائهم واحدًا تلو الآخر، كأنهمُ الخرافُ تُذبحُ بيومِ عيد، من غير حولٍ له ولا قوة، ليبقى وحيدًا كأنه مقطوعٌ من شجرة، كما يُعَبِّرُ أهلُ غزّةَ الجريح، دع عنك من بُترت أطرافُهم، أو فُقِئَت عيونُهم، أو شُوِّهت أجسادُهم، رجالٌ ونساءٌ وأطفال وشيوخ، وقل مثلَ ذلك في كثيرٍ ممن شهدوا الحروبَ في كل مكان، وأتت على منازلهم آلةُ الدمار والخراب، وقوضت أحلامَهم يدُ الإجرام والعذاب.

لكنك إن التفتَّ رأيت في تراثنا العربي حزنًا من لون آخر، له مذاق خاصّ، هو حزنُ المحِبّين، ولا سيما العذريين منهم، أولئك الذين أحبُّوا حتى الجنون، ولم ينالوا من حبِّهم إلا العذابَ المبين: ويحَ هذه البُنَيَّةِ هل تدري كم ستُذِلُّ بعد حينٍ من نفوس، وتحطِّمُ من ضلوع، وتُذيبُ من مُهَجٍ، وتلوِّعُ من قلوب؟ أتدري كم ستُسيل من عبرات وتُنزل من دموع؟ أتدري كم ستكسرُ من خواطرَ وتهدُّ من جسوم؟ تحرمها من سُباتٍ وتذيقها من جوع؟ إن هي خطرت يومًا أو ضحكت أو بَسَمَت، فكأيِّن من صاحب قلبٍ كسير وفؤاد مجروح، أقام به العذابُ من أجلِ فتاةٍ أحبّها ثم لم تكن من نصيبه، أو فتاة عُلِّقت حبيبًا ثم حالت دون بلوغه الأيام؛ لقد مررتُ في شرخ الشباب بتجرِبةِ حبٍّ حزينة علّمتني كيف يكونُ الحزنُ الناضج، رقّقت قلبي، وقرَّبت الدمعةَ من عيني، وعلَّقتني بشعر العُذريين، وجعلتني أُطَوِّفُ الطُّرُقاتِ هائمًا أحسدُ الناسَ على خلوِّهم مما أنا فيه، حتى ذهبتُ مرّةً إلى كنيسة نوتردام، لأتسلّى بذِكْرِ أَحْدَبِها المسكين.

لكن عجبًا لهؤلاء المحبين المعَذَّبين، يستعذبون في حبِّهم العذاب، فتراهم يبالغون في الحزن وذرف الدموع، ويجتهدون في خلق أسبابه من سماع الموسيقى الحزينة والأغاني التي تنكأ الجراح، وغِشيان الأماكن التي تثير الشجون وتبعثُ الذكريات، ويجدون بذلك من المتعة بقدر ما يجدون من العذاب، فعذابهم من جنس عذاب الشيخ الأكبر: من العذوبة مشتقّ، ولذلك يستعذبه المعذَّبون ويلتذّون به، ويتمنون ألا يزول عنهم، ويجتهد من أوتي منهم بيانًا في تصوير ما سكن قلوبهم من حزنٍ ولوعة، ولا سيما العذريين منهم، أكل الحزنُ قلوبَهم، وشفَّ الوَجْدُ أكبادَهم، وحزنوا حزنًا يُهلك الأبدان، فبكَوا وذرفوا الدموع، فجاء شعرهم مبتلًّا بدموعهم، ونثرهم محترقًا من زفراتهم، وجاؤوا هم بالعجيب من القول، مما يستدر الدمع من المآقي، ويلوِّعُ بين الجوانح القلوب، رقَّت قلوبُهم حتى صارت تُبكيهمُ اللمحة، وتُسيل دموعَهم الخاطرة:

        أإنْ هتفتْ ورقاءُ ظِلْتَ سفاهةً  تبكي على جُمْلٍ لورقاءَ تهتفُ؟
وما ذكَرَتْكِ النفسُ يا بثنُ مرة  من الدهر إلا كادت النفس تتلفُ
وإلا اعترتني زفرةٌ واســـــــــــــتكانةٌ  وجاد لها سَجْلٌ من الدمع يذرفُ
     وعند طوافي قد ذكرتُكِ مرَّةً   هي الموتُ، بل كادت على الموتِ تُضعفُ
 تعلقتُها والجسمُ مني مُصَحَّحٌ  فما زال يَنْمي حبُّ جُملٍ، وأضعُفُ
 إلى اليوم، حتى سُلَّ جسمي  وأنكرتُ من نفسي ما كنتُ أعرِفُ
ولا غرو، فما الحبُّ إلا كما قلتُ يومًا:

حزنٌ، تباريحٌ، سُهاد  
لا، بل سوادٌ في سواد
لا ينجلي منذ الزمان الأوّلِ
فالحبُّ ساكنةَ الفؤاد   
عينٌ يجافيها الرُّقاد
ذرفُ الدموع الساخنة  
وأد الحياة الواهنة
فهو الْتِياع
أوّاه ما أقسى الضياع
من غير ما هادٍ دليل   يهتمُّ للقلب العليل!

وراح الناصحون يوجهون لهؤلاء المذبوحين نصائحَهم، بأن يُقْصروا ويرعووا عمّا هم فيه، ومضى الوُعاظ يعظونهم بوجوب الإقلاع، ويلقون على مسامعهم أحاديث التسلية وآيات التذكير، وما درى هؤلاء ولا أولئك أنَّ الأمر ليس بأيدي هؤلاء المساكين، وألّو كان لهم منه شيء لما بقوا فيما هم فيه طَرْفَةَ عَين، فمن يحبُّ أن يبقى في النار تُحرِقُ قلبَهُ وتُلهِبُ جسدَهُ وتُذيبُ أحشاءَه؟

يا أيُّها الرجلُ المعذِّبُ قلبَــهُ      أَقْصِرْ فإن شِفاءَكَ الإقصارُ
نزفَ البكاءُ دُموعَ عينِكَ فاستعرْ    عينًا لغيرك دمعُهــا مِدْرارُ
من ذا يُعيرُكَ عينَه تَبكي بها؟      أرأيتَ عَينًا للبُكاءِ تُعارُ؟

وكما اجتهد الشعراءُ في تصوير ما خالجهم من مشاعرِ الحزنِ في أشعارهم، تبارى الملحنون في تأليف القطع الموسيقية الحزينة، وتابعهم الموزِّعون في التأليف بين الآلات القادرة على استدرار مكنونات هذه النفس العجيبة الغريبة، وشحذ ما انطوت عليه من حزن ناضج دفين، واستثارته حتى يبلغ أقصاه. ولذلك ترى أبلغَ القطع الموسيقية حزنًا ما كان في الموسيقى التصويرية، لأنها تبغي مجاراةَ ما يعتملُ في النفس من مشاعرَ وأحاسيس، تُكبَتُ أحيانًا وتبدو أخرى، والألم المكبوتُ أشدُّ قسوةً على النفس من الألم الظاهر، وهو الذي تتولد عنه الأمراضُ التي باتت متفشية في هذا العصر، كضغط الدم والجلَطات، وربما بعض أنواع السرطان، وإن كان الطب لم يثبت ذلك إلى الآن.

ولا أدري لم لم يعادِ الناسُ القصبَ الذي يُصنع منه الناي، أو الصنوبر الذي تُعمل منه الكمان، تلك الآلة الخارقة العجيبة التي استطاعت التعبير عن أرق المشاعر والأحاسيس، وتصوير أقسى المواقف والانفعالات، وكثرَما نبشت قلوبًا فحركتها بعد سكون، وأيقظتها إثر غفلة، واستثارتها بعدما ظنت أنها شاخت وهرمت. بل لست أدري لم أحبوا هذه الآلات الموسقية الباكية المبكية، ربما لأنهم يجدون فيها حزنًا يشبه حزنهم، ولوعة مثل لوعتهم.

ولئن كان المرء يحزن حتى تَبْيَضَّ عيناه لفقد حبيبٍ عزيز، أو يحزن حتى الجنون لفقد حبيبة غالية، ويستعذبُ فيها العذاب، فكيف بمن حمل همَّ الأمة، وأدرك حجم ما نزل بساحتها من مصيبة، ورأى أنها فُقدت برُمَّتِها، وزالت عن متن عرشها، وطوى عزَّها غدرُ الزمان، وذهب بسطوتها تقلب الأيام؟ لا تعجب لو كُشِفَتْ أحشاؤه يومًا فصودف تحتها حزنٌ معشش ينخر القلب، ويعتصر الجوانح حتى الذوبان.

على أن من خير ألوان الحزن أن يحزن المرء لو ضل يومًا الطريق إلى ربه، أو رانت عليه غفلة أنسته أصلَ ما خُلِقَ له؛ أن يحزنَ لو أنه أساء لخلق الله، بأكل حقوقهم أو التعدي على أعراضهم، ولو بظنٍّ أو حدس أو ريبة، ولله درُّ مَن قال:
أحزانُ قلبيَ لا تزول حتى أُبَشَّرَ بالقَبول
وأرى كتابيَ باليمين وتقرَّ عينيَ بالرسول
إن قلبًا لا يعرف الحزن هو قلب أصمُّ كأنه صفوان، لكن لِيعلمْ هذا القلبُ أن كثرةَ أحزانِه تهتكُ الجسد، وتذهبُ برونق الحياة، وتُعطِّلُ عن الكدح والعمل والإنتاج، فليتقِ هذا القلبُ الله فينا، ولْيُنْصِفْ من سطوته جسومَنا.

 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين