الحدود بين الغلو والرفض ضوابط وموانع (6)

 

ضوابط إقامة الحد

 

 

ثالثًا: ضوابط إقامة الحد

يراعى في إقامة الحد أمور، منها ما يعم الحدود كلها، ومنها ما يخص البعض دون البعض:

1- الإمامة:

اتفق الفقهاء على أنه لا يقيم الحد إلا الإمام أو نائبه، وذلك لمصلحة العباد، وهي صيانة أنفسهم وأموالهم وأعراضهم، والإمام قادر على الإقامة لشوكته ومنعته، وانقياد الرعية له قهرًا وجبرًا، كما أن تهمة الميل والمحاباة والتواني عن الإقامة منتفية في حقه، فيقيمها على وجهه فيحصل الغرض المشروع بيقين، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقيم الحدود، وكذا خلفاؤه من بعده، وصرح الحنفية باشتراط الإمام أو نائبه لإقامة الحد (1)، يقول الكاساني: (وبيان ذلك أن ولاية إقامة الحد إنما ثبتت للإمام؛ لمصلحة العباد وهي صيانة أنفسهم وأموالهم وأعراضهم... والإمام قادر على الإقامة لشوكته ومنعته وانقياد الرعية له قهرًا وجبرًا، ولا يخاف تبعة الجناة وأتباعهم؛ لانعدام المعارضة بينهم وبين الإمام، وتهمة الميل والمحاباة والتواني عن الإقامة منتفية في حقه فيقيم على وجهها فيحصل الغرض المشروع له الولاية بيقين) (2).

يقول الدكتور عبد القادر عودة: (من المتفق عليه بين الفقهاء أنه لا يجوز أن يقيم الحد - أي العقوبات المقررة لجرائم الحدود - إلا الإمام أو نائبه؛ لأن الحد حق الله تعالى ومشروع لصالح الجماعة فوجب تفويضه إلى نائب الجماعة وهو الإمام، ولأن الحد يفتقر إلى الاجتهاد ولا يؤمن في استيفائه من الحيف والزيادة على الواجب، فوجب تركه لولي الأمر يقيمه إن شاء بنفسه أو بواسطة نائبه) (3).

يقول الزحيلي: (واختلف الفقهاء حول تولي القاضي الشؤون الآتية: 1 - إقامة الحدود. 2 - صلاة الجمعة والعيدين. 3 - أموال الصدقات.

فبعضهم أسندها للقاضي؛ لأنه كالوصي المطلق إلا ما اختَصّ به الخليفة نفسه من شؤون الجيش وقتال البغاة وجباية الخراج.

وبعضهم لم يدخلها في اختصاص القاضي لأنه وكيل عن الإمام الأعظم، وليس للوكيل أن يتعدى حدود وكالته، ودليلهم أن عمر رضي الله عنه نهى الولاة عن تنفيذ حكم الإعدام على أحد إلا بعد مشاورته وموافقته، وقاسوا القضاة على الولاة، ويظهر أن هذا الرأي هو الأرجح؛ لأن القاضي وكيل عن الإمام الأعظم، فليس له أن يتعدى حدود وكالته) (4).

فوجود حاكم للمسلمين شرط أساسي لإقامة الحدود وإن لم يوجد الإمام لا يجوز إقامة الحد كما هو الحال في سوريا. 

2- أهلية الشهادة عند الإقامة:

لو بطلت أهلية الشهادة بالفسق أو الردة، أو الجنون، أو العمى، أو الخرس، أو حد القذف، أو غيرها بالنسبة لكلهم أو بعضهم بحيث ينقص النصاب لا يقام الحد على المشهود عليه، لأن اعتراض أسباب الجرح على الشهادة عند إمضاء الحد بمنزلة اعتراضها عند القضاء به، واعتراضها عند القضاء يبطل الشهادة، فكذا عند الإمضاء في باب الحدود وهذا عند الحنفية والمالكية.

يقول الكاساني: (ومنها أهلية أداء الشهادة للشهود عند الإقامة في الحدود كلها، حتى لو بطلت الأهلية بالفسق أو الردة أو الجنون أو العمى أو الخرس أو حد القذف، بأن فسق الشهود أو ارتدوا أو جنوا أو عموا أو خرسوا أو ضربوا حد القذف كلهم أو بعضهم لا يقام الحد على المشهود عليه؛ لأن اعتراض أسباب الجرح على الشهادة عند إمضاء الحد بمنزلة اعتراضها عند القضاء به، واعتراضها عند القضاء يبطل الشهادة فكذا عند الإمضاء في باب الحدود عن القضاء) (5). 

3- في تأخير الحد لعارض:

يقرر العلماء في مسائل منثورة من أبواب الحدود خاصة في بابي (الزنا) و (السرقة) تأخير الحد لعارض من حر أو برد أو حمل أو رضاع أو نحو ذلك (6).

وتأخير الحد لعارض أمر يشكل قاعدة شرعية: وهي تأخير الحد لعارض يترتب عليه مصلحة للإسلام أو للمحدود أو لمصلحة من تعلق به كالحمل والرضيع، وابن القيم رحمه الله تعالى يشير إلى ذلك في معرض كلامه عن تأخير الحد عن الغزاة، حيث يقول: (تأخير الحد لعارضٍ أمرٌ وردت به الشريعة كما يؤخر عن الحامل والمرضع، وعن وقت الحر والبرد، والمرض لمصلحة المحدود) (7).

واستدل ابن القيم رحمه الله تعالى لذلك بما جاء في حديث الغامدية فقال: (وفي صحيح مسلم، جاءت الغامدية فقالت: يا رسول الله، إني قد زنيت فطهرني، وأنه ردها فلما كان من الغد، قالت: يا رسول الله، لم تردّني، لعلك أن تردَّني كما رددت ماعزًا، فوالله أني لحبلى، قال: أما الآن، فاذهبي حتى تلدي، فلما ولدت أتته بالصبي في خرقة، قالت: هذا قد ولدته، قال: اذهبي فأرضعيه حتى تفطميه، فلما فطمته أتته بالصبي، وفي يده كسرة خبز، فقالت: هذا يا نبي الله قد فطمته، وقد أكل الطعام، فدفع الصبي إلى رجل من المسلمين ثم أمر بها صلى الله عليه وسلم فحفر لها إلى صدرها وأمر الناس فرجموها...) (8).

وجه الاستدلال:

قد قرر ابن القيم رحمه الله تعالى أن هذا الحديث يدل على تأخير الحد - أي حد من الحدود - لأي من المصالح المترتبة على تأخيره (9)، ولهذا هو يقرر هذه القاعدة وهي تأخير الحد لعارض فيه مصلحة للمحدود أو لغيره، وعليه جاز تأخيره لكلّ مصلحة تترتب على التأخير، ومنه جعل هذه القاعدة من مؤيدات تأخير الحد عن الغزاة بل هو أولى كما تقدم والله أعلم. 

وورد عن الترمذي في سننه: (والعمل على هذا عند بعض أهل العلم منهم: الأوزاعي، لا يرون أن يقام الحد في الغزو بحضرة العدو مخافة أن يلحق من يقام عليه الحد بالعدو، فإذا خرج الإمام من أرض الحرب ورجع إلى دار الإسلام أقام الحد على من أصابه) (10).

تقسيم العوارض حسب المصلحة الموجبة لتأخير الحد:

ومن هنا نستطيع أن نقسم العوارض الموجبة لتأخير الحد على ما يأتي:

1- عارض لمصلحة الإسلام والمسلمين، كما في تأخيره عن الغزاة كما تقدم.

2- عارض لمصلحة المحدود ذاته كما في تأخيره لحر أو برد أو مرض.

3- عارض لمصلحة المحدود وغيره كما في تأخيره عن الحامل.

4- عارض لمصلحة الغير كما في تأخيره عن المرضع حتى يفطم الرضيع، وكما في تأخيره عن الحامل إذا كان الحد بالقتل، والله أعلم (11).

ختامًا:

بعد هذا العرض يمكن التأكيد على عدة نقاط:

1- حفظ أمن المجتمع مقصد رئيس من مقاصد الشريعة الإسلامية، فالهدف من تشريع الحدود هو الحفاظ على المجتمع وحمايته من الجريمة.

2- الشريعة الإسلامية لم تتشوف إلى إيقاع الحدود بل كانت متشوفة إلى درء الحدود ما استطاعت.

3- لا يجوز التسرع في إقامة الحدود فهو مجاوزة للحد واعتداء على الناس.

4- لا يجوز إقامة الحدود إلا في ظل سلطة مستقرة ومجتمع آمن توفر له تلك السلطة أسباب الحياة الكريمة ومقوماتها، فإن وقعت الجريمة الحدية بعد ذلك عندها يستحق المجرم إقامة الحد عليه بعد توافر الشروط لإقامة الحد وانتفاء الموانع. 

وفي نهاية البحث يمكننا ذكر أهم الضوابط في تطبيق الحدود:

1- تسقط الحدود بالتوبة قبل الوصول إلى القضاء.

2- تسقط الحدود بالشبهة.

3- يسقط الحد برجوع المقر عن إقراره.

4- لا يقيم الحد إلا الإمام أو نائبه.

5- يشترط في الشهادة على الحدود اتحاد المجلس وعدم التقادم وتكرار الإقرار وأهلية الشهود عند الإقامة، فإن اختل شرط من هذه الشروط يسقط الحد.

6- لا يثبت الحد بعلم الإمام أو نائبه بل لا بد من الإقرار أو الشهادة.

7- يمكن تأخير الحدود لمصلحة أو لعارض يراه الإمام.

 والحمد لله رب العالمين

المصدر : العدد الرابع من مجلة مقاربات التي يصدرها المجلس الإسلامي السوري 

تنظر الحلقة الخامسة هنا 

=====-

(1) الموسوعة الفقهية الكويتية (17/ 145)

(2) بدائع الصنائع، 7/58

(3) التشريع الجنائي الإسلامي مقارنا بالقانون الوضعي، 1/755

(4) الفقه الإسلامي وأدلته 8/5931

(5) بدائع الصنائع: 7/59

(6) المغني مع الشرح الكبير10/138 - زاد المعاد 3/206

(7) زاد المعاد 3/206

(8) زاد المعاد 5/27

(9) الحدود والتعزيرات عند ابن القيم (ص: 70)

(10) سنن الترمذي: 3/105.

(11) الحدود والتعزيرات عند ابن القيم (ص: 70).

 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين