عواقب الترف في الأمم

الشيخ مصطفى أحمد الرفاعي 


محاضرة في تفسير قول الله تعالى:[وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا القَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا] {الإسراء:16}.
ألقيت في جمعية مكارم الأخلاق الإسلامية بأسيوط يوم الخميس 7 شعبان سنة 1350هـ


مقدمة:
سادتي الفضلاء: الحمد لله الذي أنزل القرآن معجزة لرسول صلى الله عليه وسلم وضمَّنه ما يحتاج إليه البشر من وسائل العمران على النهج الأقوم فاستفادت منه جميع الأمم، العرب والعجم، وعزّ به جميع الناس حتى غير المؤمنين به، لما فيه من مبادئ عالية هي روح التقدم والرقي وسر النجاح والفلاح.


وإذا قرأنا القرآن الكريم تجلَّت لنا المعاني العظيمة التي حوتها ألفاظه المعجزة، ولقد صدق البوصيري رضي الله عنه حين وصف كلام الله تعالى بقوله:


له معانٍ كموج البحر في مَدَدٍ              وفوق جوهره في الحُسْنِ والقيم
فإن من رام تفسيراً للذكر الحكيم على علم وتحقيق استطاع إخراج الجواهر الكثر، والكنوز الثمينة، وتبقى الآيات بعد ذلك منبعاً فياضاً يغترف منه أهل المعرفة حتى يرث الله الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين. ومن آيات القرآن الحافلة بالمبادئ الاجتماعية الجليلة التي هي مدار نهضة الأمم وارتفاعها. وبيان لسبب سقوطها وهبوطها، هذه الآية الكريمة وهي قوله تعالى:[وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا القَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا] {الإسراء:16}. وتفسيرها هو موضوع محاضرتنا الليلة:


تفسير الألفاظ في الآية الكريمة
أراد: معناها طلب أو اختار أو قضى أو حكم أو قدر.
أمر: معناها حثَّ على عمل الخير والمعروف أو أكثر النسل والمال. وفي قراءة: أمَّرً أي: ملَّك ورأَّس وسوَّد.
مُتْرَفِيهَا أي متنعميها المتوسعين في ملاذ الدنيا وشهواتها فَفَسَقُوا فِيهَا: أي خرجوا عن الطاعة. أو خالفوا الأمر، أو فجروا وانغمسوا في المنكرات.


فَحَقَّ عَلَيْهَا القَوْلُ: أي: صدق عليها وعيد الله وهو العذاب.
فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا: أي أهلكناها وأهلها، وصيرناها كأن لم تغن بالأمس.


معنى الآية الإجمالي
إذا أراد الله وقضى وحكم بإهلاك أمة وإعفاء أثرها أو زوال سلطانها واندماجها في غيرها وتمزيق عناصرها، جعل رؤساءَها المترفين فيها ـ وهذا يتفق مع القراءة السبعية: (أمّرنا مترفيها) ومع تفسير أمر ـ بمعنى كثر ماله ونسله ـ ذوي النعماء والميل إلى ارتياد الشهوات والملذات.


والناس على دين أمرائهم ورؤسائهم فينتشر الترف والفساد في الأمة وتسير الكافة وراء سادتها الذين يفسقون ويخرجون عن طاعة الله تعالى بعامل توقهم إلى نيل ما يشتهون وتمكنهم من ذلك بسلطانهم وبسط أيديهم في مرافق الدولة كما تسول لهم الأهواء ويوسوس في قلوبهم شيطان الترف.
فتعم الفوضى الأخلاقية وتضعف القوة المعنوية وتتضاءل السلطة الروحية وتتمرد المادة وتتحكم فلا تطيق الأمة مقاومة الأعداء والأمراض الاجتماعية فيصيبها الانحلال ويقضى عليها بالخذلان ويسلط الله عليها من يذيقها الهوان ويسومها الخسف والعذاب فتمحى من صفحة الوجود كأمة مستقلة لها مقوماتها ومميزاتها وخصائصها باستعمار الغير لها. أو تزول نهائياً ويندثر اسمها ويصدق عليها قول الله:[ فَحَقَّ عَلَيْهَا القَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا] {الإسراء:16}.


بسط الآية من الناحية الاجتماعية:


الإسلام هو الدين الممتاز بشرح أدواء الأمم وتقديم العقاقير والأدوية الضرورية لشفائها، وقد عرف علماء الاجتماع بالاستقراء وتحقيق أسباب سقوط الأمم وتعثرها وتخلفها عن سواها من الأمم ـ إن الترف والانغماس في اللذائذ هو رأس البلاء وزقوم الفناء في الأمم القديمة والحديثة.


وهم لم يصلوا إلى هذه المعرفة إلا بفضل القرآن الكريم الذي أنزله الله تعالى على رسوله الرؤوف الرحيم.


وقد كان العلماء قبل الإسلام يخيل إليهم أنَّ الترف دليل الحضارة والمَدَنيَّة، وهم معذورون في خطئهم إذ كيف تكشف لهم الحقائق وهم من البشر المحجوبين، وهي لا تُعلم إلا بوحي من رب العالمين. وإذا قرأت مؤلفاتهم وجدت منهم الثناء الجم على الدولة الرومانية مثلاً لأنها بلغت حداً كبيراً من التنعم ولأن روما العاصية كانت تنصبُّ إليها جداول الثروة من أبناء الإمبراطورية فكان أهلها يتمتعون بأنواع الرَّغَد. ولكن فات أولئك المثنين أن ذاك التمتع كان بإفقار الأمة وقد نصبت بواسطته منابع الثروة، وضاعت الجماهير، وأصيب الرؤوس بالتخنث والترهل فولَّت الدولة وأصبحت أَثَراً بعد عَيْن.


ولقد قال ثقات المؤرخين: إنَّ نجم تلك الدولة أفل في الوقت الذي ظن فيه الناس جميعاً أنها وصلت إلى الذروة من المجد والسلطان والعظمة واتساع الرقعة واستبحار الثروة وتضخم المادة فما أعظم حكمة الله تعالى وما أنصع البراهين على أن القرآن كلام الله تعالى لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد.


وإن في هذه الآية مبدأ جديراً  بأن تؤلف فيه المجلدات الضخام وهذا المبدأ يتلخص في تأثير الأعلى على الأدنى خيراً أو شراً وهذا التأثير عظيم المدى شديد السريان حتى أنه ينتظم الأمة بأسرها، وإن ظن الناس أنه خاص بأهله وذويه مقصور على السائرين في مسلكه وسبيله. والأدلة والشواهد على ذلك كثيرة:


فالمشهور أن المسلمين في زمن الإمام عمر بن الخطاب رضي الله عنه كانوا مثال القناعة والبعد عن الترف والترفع عن الشهوات لأن الإمام وإخوانه من الصحابة رضي الله عنهم كانوا المثل الأعلى في ذلك والأمة لن تحيد عن زعمائها ولن تسلك غير طريقهم ولن تنهج غير منهجهم، وكان سليمان بن عبد الملك الخليفة المرواني الأموي ـ رحمه الله تعالى ـ مغرماً بالمآكل مشوقاً إلى المطاعم فتبعته الأمة وتغالت في التفنن في تنويع الطعام وتكثير الأصناف والإقبال على غذاء البدن إقبالاً فاق الاهتمام بسواه.


ولقد أدرك رجال الإصلاح في هذا العصر وعرف بعض رؤساء الشعوب ما لانتشار الترف في الأمم من الآثار السيئة والمرتع الوخيم وألفوا مالهم من السلطان على الجماهير فأقلعوا عن الترف والتنعم، وأخذوا أنفسهم بالعيشة البسيطة وبالحياة الطليقة من القيود الرسمية الثقيلة التي تتنافى مع ترقية النفس وإعلاء شأنها، فكان لعملهم الفضل الأكبر في محاولة حفظ جسم الأمة سليماً من الأمراض الاجتماعية الخطيرة، لتستطيع دفع الأغيار والتغلب على المصاعب والأخطار وتتوفر لها الحياة الكاملة الصحيحة.


وأمامنا دول كثيرة تعطينا البرهان الساطع على صحة هذه النظرية ولعل الانكليز خير مثال لذلك.


ومن المسائل الجديرة بالنظر نظام الجند وصورة معيشتهم، والجند هم سياج الدولة وقوة الأمة والعمود الفقاري في بدن سلطانها ونفوذها، وهم يعيشون عيشة الخشونة التامة فيكتفون من الطعام بأيسره ومن اللباس بأقله ويتحملون برد الشتاء وحر الصيف، ويقضون الساعات الطوال في تسلق الجبال وحفر الخنادق وإقامة المتاريس وإنشاء الحصون والقلاع ومصادمة الشدائد ومهاجمة المصاعب، ولولا نظامهم هذا ما صلحوا للدفاع عن سلامة البلاد، ولما كانوا إلا شراً مستطيراً فإنهم إذا سمح لهم بتناول ما يشتهون وبالوصول إلى ما يريدون تعودوا الكسل والخمول وأخلدوا إلى الراحة وشق عليهم تخطي العقاب التي تواجههم في حياتهم العسكرية وانقلبوا جبناء متخاذلين وتقلصت قواهم المعنوية وفرّوا من ميدان الجهاد لأول صدمة تفجؤهم وولوا مدبرين.
ونحن جميعاً نعرف أن رجال الإسلام الذين رفعوا مناره ونشروا رايته في الشرق والغرب هم: أبو بكر رضي الله عنه وعمر رضي الله عنه، وعثمان بن عفان رضي الله عنه  وعلي بن أبي طالب رضي الله عنه، وعمر بن عبد العزيز رضي الله عنه، وصلاح الدين الأيوبي رضي الله عنه، ويلحق بهم الوليد بن عبد الملك، وأبو جعفر المنصور ـ رحمهم الله تعالى ـ وبضعة رجال آخرين، و إذا قرأنا تاريخ هؤلاء الأبطال ظهر لنا أنهم كانوا أبعد الناس عن الترف والاهتمام بزخارف الحياة الدنيا فكثير منهم كانوا يكتفون بطعام واحد والطعام الواحد عندهم هو الخبز فقط، أو الخبز مع الخل، أو اللحم فقط، أو التمر فحسب وهكذا.


وروي أن سيدنا عمر رضي الله عنه ليم في صدوفه عن التمتع فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم انتقل إلى الرفيق الأعلى وما ملأ بطنه من خبز الشعير وسلك صاحبه أبو بكر سبيله، ولا أحب أن أمتاز عنهما، أو كلاماً هذا معناه.


وهنا أحب أن أعرفكم أن زهد عمر رضي الله عنه لم يكن اضطراراً ذلك لأن الغنائم كانت تترى من بلاد العجم والشام ومصر وأرمينيا وغيرها، ولكنه زهد ليكون أسوة حسنة للمسلمين فتدوم لهم قوتهم التي غلبوا بها أعداءهم.


وحكي أن عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه كان لا يأكل إلا العدس غالباً فشكا خادمه تلك العيشة، فقال له عمر: هذا طعام فإن أعجبك فأنت معي، وإلا فأنت وما تبغي، فرضي الخادم لأنه فضل حياة القناعة والتقوى بجوار عمر التقي الزاهد الورع العادل.


ومن شاء منكم معرفة فوائد الاخشيشان في الحياة فليدرس طبقات الأمم وليتعرف تاريخها تنجل له الحقيقة ويعرف أنها ترتقي ما دامت تعيش عيشة البداوة والتقشف، فإذا اطمأنت إلى النعيم نسيت شهامتها وعزتها وزايلتها قوتها وعظمتها وبدأ عليها التحول والضمور على الرغم من مظهرها الفخم وبنائها الضخم.


وقد وفى هذا الموضوع حقه العلامة الشهير ابن خلدون ـ رحمه الله تعالى ـ في مقدمته في فلسفة التاريخ استوفت هذه المسألة واستدلت على صحتها بالشواهد التي لا تنقض، وابن خلدون حجة في هذا الباب الدقيق لأنه استفاده من دينه الإسلام، وجميع الذين كتبوا في فلسفة التاريخ بعده قلدوه وأخذوه عنه.


الشواهد التاريخية على آثار الترف في الأمم:
الكتب التاريخية طافحة بأسباب انحدار شموس الأمم إلى المغرب بعد إشراقها أزماناً طويلة، ومفعمة بأخبار كوارث الشعوب التي ولَّت وجهها شطر الملاذ، وانطرحت على أرض الإفراط في استيعاب مطالب النفس.

ونحن ذاكرون لكم طرفاً منها تدليلاً على مساوي الترف ومعايبه:


1 ـ عند بزوغ شمس الإسلام الحنيف من الجزيرة العربية كانت الأرض تقريباً تحت سلطة دولتي الفرس والروم، وكان لهما أعظم مظاهر المادة من مبانٍ شامخة ومدن عامرة، وملاهٍ عظيمة، وأموال وفيرة. وكان رجالهما يتمتعون بأعظم نصيب مستطاع من رغد العيش وأكبر قسط ممكن من الرخاء وبحبوحة الحياة.


فكان قصير النظر يظن أنهما لن تبيدا ولن تزولا ـ ولاسيما الدولة الرومانية المقدسة عند أهلها ـ ولكن المسلمين أبناء الصحراء والشيح والقيصوم، وسكان القفار وآكلي الشعير والتمر، صالوا على جنودهما صولة صرعوهم بها وفتحوا بلاد الفرس بأجمعها ومنحهم الله تعالى معظم بلاد الروم، وكان من أسباب نصر المسلمين وجولتهم القوية وحيويتهم التامة مع ضعف الفرس والروم وتخنث رجالهم وانحلال قواهم المعنوية.


2 ـ استمرت الدولة الأموية قريباً من تسعين سنة مضى نصفها الأول أو يزيد في خلافة سيدنا معاوية وعبد الملك بن مروان، والوليد بن عبد الملك، وعمر بن عبد العزيز، وقد كان زمناً مباركاً امتدت فيه الفتوحات الإسلامية إلى المحيط الأطلسي غرباً وبلاد الصين شرقاً. وتحققت بشارة رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمته التي قال فيها: «زويت لي مشارق الأرض ومغاربها وسيبلغ ملك أمتي ما زوي لي منها».
وفي النصف الثاني انغمس الملوك والخلفاء في الترف انعماساً مفرطاً واستكثروا من الجواري والمغنيات والمغنين وأغفلهم ما هم فيه عن شؤون الدولة، فانفتل حبلها وانتكث غزلها وزالت هيبتها وضاعت سلطتها، فتمكن أبو مسلم الخراساني من تل عرشها و تقويض ملكها وهدم بنائها من القواعد.
وتأسست الدولة العباسية، وكان سقوط الدولة الأموية مؤذناً بإقبال ليل العرب وذهاب نهارهم أي: بضعف سلطان الإسلام الذي حمل العرب لواءه إلى المشارق والمغارب وأضاءوا بمصباحه الدري جميع القلوب. وحل محلهم الفرس أصحاب النار عندهم وذوو الرغبة في الانتقام منهم عن طريق الدين الإسلامي نفسه.


3 ـ كان يظن أن الدولة العباسية تعتبر بسالفتها الأموية فلا ترتدي لباس مترفي خلفائها. ولكن اتساع بسيط الدولة وكثرة الخراج المجيي من الأقاليم ـ وقد قدره بعضهم بأربعمائة مليون درهم وعشرين مليون دينار ـ غير المحصولات والمصنوعات التي كانت تدفعها أراض عدة بدل النقد ـ وهذا المال يساوي بحساب الوقت الحاضر قريباً من مائة مليون جنيه. ومائة مليون كان يشترى بها في عصر العباسيين ما لا يشترى الآن بأضعافها.
جعل الخلفاء والوزراء والرؤساء والأمراء والأعيان يركضون في ميدان الترف بقوة هائلة، وكان أظهر دلائل الترف الإقبال على قني الجواري والغلمان، والتوسع في الغناء والطرب وجميع أنواع الملاهي التي أمددت وتنوعت، والاكثار من الولائم والمآدب التي تستنزف المال من غير حساب. وجاء المعتصم فاستجلب مماليك الترك وكوّن منهم جنوداً وبنى لهم مدينة سر من رأى، وحكمهم في الأمة وأكثر لهم من الأرزاق وأباح لهم اللهو في أوقات السلام فنجم من ذلك أن صارت لهم دولة تقيم الخلفاء وتسقطهم وتنقض وتبرم في مصائر المسلمين فضاعت أملاك الدولة تدريجاً وتجرأ عليها الروم والصليبيون واستقل عنها كثير من ملوك الأطراف، وانتهى الأمر بزوالها وقتل آخر خلفائها مع أهله وكبار رجاله بالأرجل وهم في الأغلال والجوالق.


4 ـ وظهرت الدولة التركية في القرن السابع الهجري وحارب ملوكها الأول وانتصروا لأن الجيوش كانت متقشفة بعيدة عن الترف والضعف الناجم منه. ولكن لما اتسع مدى أملاكها واستراح الملوك اتبعوا سنن من قبلهم بل زادوا في العدو في هذا الطريق الوعر، فأخذت خناجر الانحطاط تحز جسم الدولة الضخم حتى جعلته جرحاً واحداً تسيل منها الدماء الغزيرة، فلما أذن مؤذن الحرب الكبرى كانت هي القاضية على السلطنة العثمانية والأمبراطورية التركية، وأنتم تعلمون ما أصاب الإسلام من انهيار هذه الدولة، وما يقاسيه المسلمون من الدول المستعمرة في الشرق كله، ونحن الآن نجالد جلاداً عنيفاً لنخلص من القيود والجوامع والأغلال والأصفاد التي كبلنا بها وطوقنا، ولا يعلم إلا الله عزَّ وجل متى تكون النجاة، فإن الهدم سهل، والبناء صعب عسير، وما أصعب استرداد المفقود، وما أشد استعادة الضائع، ولاسيما إذا كان الذي ضاع هو الاستقلال والحرية والسلطان والملك.
الشواهد القرآنية على مساوئ الترف:


1 ـ قال الله تعالى في سورة القصص مبيناً لنا قصة رجل جنى عليه ترفه فساءت خاتمته: [وَابْتَغِ فِيمَا آَتَاكَ اللهُ الدَّارَ الآَخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ المُفْسِدِينَ(77) قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ القُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ المُجْرِمُونَ(78) فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ(79) وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللهِ خَيْرٌ لِمَنْ آَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ(80) فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَمَا كَانَ مِنَ المُنْتَصِرِينَ(81) وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلَا أَنْ مَنَّ اللهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الكَافِرُونَ(82)]. {القصص}..


2 ـ قصَّ الله علينا في سورة (المؤمنون) نبأ قوم صالح الذين عذَّبهم الله بالصيحة فأصبحوا في ديارهم جاثمين وهم عاد الآخرة فقال عزَّ وجل:[فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ أَنِ اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ(32) وَقَالَ المَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الآَخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ(33) وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَرًا مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ(34) أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ(35) هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ(36) إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ(37) إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِبًا وَمَا نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ(38) قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ(39) قَالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ(40) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالحَقِّ فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَاءً فَبُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ(41) ]. {المؤمنون}. .


3 ـ وأجمل الله تعالى أحوال الأمم السابقة في سورة الأنعام، فقال تعالى: [وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ(42) فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ(43) فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ(44) فَقُطِعَ دَابِرُ القَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ(45) ]. {الأنعام}..


بعض ما ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في النهي عن الترف وبيان عاقبته:


1 ـ أخرج مسلم عن ابن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا فتحت عليكم خزائن فارس والروم أي قوم أنتم؟ قال عبد الرحمن بن عوف: نكون كما أمرنا الله تعالى. فقال صلى الله عليه وسلم: بل تتنافسون وتتحاسدون، ثم تتدابرون وتتباغضون، ثم تنطلقون إلى مساكن المهاجرين فتحملون بعضهم على رقاب بعض».
2 ـ أخرج الخمسة إلا أبا داود واللفظ للنسائي عن البراء رضي الله عنه قال: نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن خواتيم الذهب، وعن آنية الذهب والفضة، وعن المياثر والنسية، والاستبرق، والديباج، والحرير، المياثر: جمع ميثرة وهي: وطاء محشو يتخذ للسرج أو يترك على رحل البعير، تحت الراكب ,القسية ثوب يأتي من الشام أو مصر مضلع فيه أمثال الأترج.


ترف المسلمين في هذا العصر:
منذ قرن هاجم الغربُ الشرقَ الإسلامي بعنف وشدة، واستولى على معظم أراضيه وهي أخصب بلاد العالم وأكثرها غلَّةً ومحصولاً، فعزم على أخذها لنفسه إلى زمن طويل أو إلى النهاية كما يحب ويرغب، فحمل على أهله بأنواع الترف والملاهي ورغبهم فيها بجميع الوسائل فأقبلوا عليها إقبالاً عجيباً لضعفهم الذي بدأ منذ قرون، وبذلك استنزف الغرب أموالهم على أهون طريق وأسهل سبيل. وأورثهم الضعف والهزال والنحافة في العزم والمنال. فصاروا لقمة الآكل على رغم من كثرة عددهم الذي يبلغ أربعمائة ألف ألف من النفوس، ولكن ماذا تنفع كثرة العدد مع عدم توافر العُدَد، ومتى تتوافر العُدَد ونحن نصرف أموالنا في الشهوات، وفي نيل ما يقدمه لنا الغرب من كماليات لا تفيد في الحياة شيئاً.


كنا قبل احتلال الغرب لأراضينا لا نعرف اللهو العنيف الذي طوق أعناقنا في هذا العصر العصيب، ولا نتناول إلا ما يقوي الجسم ويوطّد العزم والحزم، ولكنا الآن تعودنا الترف وتنافسنا فيه تنافساً أضاع ثرواتنا بل وجعلنا موطنا للديون الباهظة التي لا تجد لها سداداً، وقد غفلنا في سبيل هذا الترف عن الاحتفاظ بأراضينا فامتلكها الأجانب واستغلوها فأحسنوا استغلالها، واستطاعوا في رقدتنا أن يضعوا أيديهم على جميع منابع الخير عندنا، فلم نعد نظفر منها إلا بما يحصل عليه الأجير المسكين من صاحب العمل المتكبر الغشوم الظالم.


وإذا أردتم معرفة هذا الأمر الشديد فاطلعوا على احصاءات الأملاك والعقار والشركات والأطيان والمتاجر والمصانع والمعامل يظهر لكم أننا أمة غريبة في ديارها، فكأن الترف أضاع مجدنا وحريّتنا وأزال ثروتنا وصيَّرنا عاجزين عن الدفاع الصحيح لاسترداد حقوقنا وردِّ ما لنا مما أخذه العدو في نومتنا السنين الطوال.


وتدوم حالنا هذه ما دام قادتنا ورؤساؤنا هم المترفون فينا فنسير على أثرهم ونتبع خطواتهم فيحق علينا كلمة الله تعالى ويصيبنا أكثر مما نقاسيه من الكوارث والمصائب والمتاعب.


وللوصول إلى ترف أغنيائنا الزائد على الحد الأقصى للترف، علينا أن نتعرف رواد باريس وغيرها من العواصم الأوربية فيتجلى لنا عشرات الألوف من الأموال التي تبذر كل عام بغير حساب لا على طلب العلم ونفع البلاد ولكن لإشباع نَهَم النفس وإعطائها مُناها مما لا يليق برجال يريدون أن يواجهوا الصعاب ويتخطوا العقاب فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. وداؤنا من هذه الناحية محتاج إلى علاج ناجع فلعلنا نخلص منه بفضل الله وعونه.


نصيحة ورجاء:
سادتي، هذه خلاصة موجزة للكلام على الآية الكريمة التي تحتاج إلى مجلد كبير لتوضيحها وتفسيرها وتطبيقها على حوادث العالم منذ القدم ويعوزها لبيان مغزاها الجليل رجال مختلفون: من الاجتماعيين والحكماء والمرشدين والعارفين بطبقات الأمم وفلسفة التاريخ العام والخاص، وأرى لزاماً عليَّ أن أنصح نفسي وأجرؤ فأنصح لكم بترك الترف فإنه يوهي القُوى ويهيض جناح العزم والإرادة الصارخة التي لا يصيبها كلل ولا ملل، ولنتفهم قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «حسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه» فإنَّه صلى الله عليه وسلم لم يقصد بها أن تزهد الحياة ولكنه أراد ألا تخضع للترف فيقتلنا كما قتل الأمم التي ملأت أخبارها صحائف التاريخ،  وأرجو أن يوفقنا الله تعالى بمنه وكرمه إلى انتهاج المنهاج الواضح والقناعة بما لا بد منه مما يحفظ قوى البدن، وإلى الاقتصاد وعدم الإسراف في المطعم والملبس والملاذ، وبذلك نستعيد قوانا المسلوبة ونحور رجالاً صارمين وسيوفاً ماضية، ونتحول رجالاً نجاهد فنغلب ونظفر بالمجد والعزة والسلطان، والله ولينا وهو نعم المولى ونعم النصير.والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين