تعريف بكتب علي الطنطاوي (3) رجال من التاريخ

صدر هذا الكتاب أول مرة عام 1958، وكانت فصوله في الأصل أحاديثَ دأب علي الطنطاوي على إذاعتها من إذاعة دمشق في بداية خمسينيات القرن الماضي.

قال في مقدمته للطبعة الجديدة من الكتاب: "كل ما في هذا الكتاب بقيةٌ من أحاديث كانت تُذاع لي من دمشق قبل أكثر من خمس وثلاثين سنة (أي من وقت كتابة هذه المقدمة عام 1985)، استمرّت إذاعتها أعواماً، تعبت في إعدادها كثيراً واستمتع بها واستفاد منها من السامعين كثير، بلغت ثلاثمئة حديث أو تزيد، ضاعت فيما ضاع مما كتبت، وأرجو ألا يضيع عند الله ثوابها إن كتب الله لي بكرمه الثواب عليها".

ثم يقول في المقدمة ذاتها: "كنت كلما أعددت حديثاً عن رجل من الرجال فتح لي البابَ للكلام عن أقرانه وأمثاله. فحديث عن صلاح الدين يجرّ إلى آخر عن نور الدين، وحديث عن أبي حنيفة يدفعني إلى آخر عن مالك. ولو أني استمررت أحدّث عن أبطالنا وعظمائنا خمسين سنة، في كل أسبوع حديثاً، وجاء مئةٌ مثلي يصنعون مثل صنعي لما نفدت أحاديث هؤلاء الأبطال العظماء. وأنا لست من المولعين بجمع الكتب ورَصّها في الخزائن لأُزهى بها وأفخر بكثرتها، ولا أقتني إلا الكتاب الذي أحتاج إليه، أرجو النفع به أو المتعة بقراءته، وقد اجتمع لي -على هذا- في مكتبتي الصغيرة، هنا في مكة وفي دمشق، أكثرُ من تسعين مجلدة في تراجم الرجال والنساء، فلو أن في كل واحدة منها سيرة مئة منهم لكان من ذلك تسعة آلاف من سير العظماء".

* * *

ولئن اشتملت هذه الفصول على ترجمات لبعض الأعلام المشهورين (كصلاح الدين ونور الدين وعمر بن عبد العزيز) فإن أكثرها ترجمات لأعلام عظماء لا يعرفهم أو لا يعرف عنهم الكثيرَ أكثرُ الناس. انظروا -مثلاً- إلى هذه الأسماء (ومع كلٍّ لقبٌ له جعله المؤلف عنواناً للترجمة): الحسن البصري (العالم العامل)، قتيبة بن مسلم (فاتح المشرق)، سعيد بن المسيِّب (من ورثة الأنبياء)، أبو حنيفة (الإمام الأعظم)، الليث بن سعد (جمع الدين والدنيا)، أحمد بن حنبل (ناصر السنّة)، البخاري (أمير المؤمنين في الحديث)، أحمد بن أبي دُؤاد (العالِم النبيل)، أسد بن الفرات (الفقيه الأميرال)، محمد بن بشير (القاضي المتأنق)، منذر بن سعيد (خطيب الزهراء)، الغزالي (حجة الإسلام)، أورنك زيب (بقية الخلفاء الراشدين)، مظفر بن محمود (الملك الصالح)، العز بن عبد السلام (شيخ من دمشق)، رضية بنت ألتمش (سلطانة الهند)، علاء الدين الجمالي (مفتي السلطان سليم)، ابن تاشفين (باني مراكش). وفي الكتاب ترجمات لبعض الأدباء والشعراء كأبي دلامة، ومالك بن الريب (شاعر يرثي نفسه)، والزبيدي (شارح القاموس)، وابن عمار (الوزير الشاعر).

* * *

هذا هو محتوى الكتاب، أما أسلوبه المتميز فقد جعله واحداً من أكثر كتب علي الطنطاوي قَبولاً ورواجاً بين الناس. وقد شرح لنا المؤلف طريقته وأسلوبه في كتابة هذه الفصول فقال: "كنت إذا أردت الحديث عن رجل قرأت كل ما تصل إليه يدي مما كُتب عنه وقيّدت في ورقة ما أختارُ من أخباره، وربما بلغ ما أقرؤه عنه عشرات أو مئات من الصفحات. ثم أعمد إلى خبر من هذه الأخبار فأجعله مدخلاً إليها، وأحاول -ما استطعت- أن أتبع فيها أسلوباً ينأى بي عن جفاف السرد التاريخي ويخلص من تخيّل الكاتب في القصة الأدبية، لعلّي أصل إلى الجمع بين صدق التاريخ وجمال الأدب، فأُوفَّق حيناً ويجانبني حيناً التوفيق".

وأشهد (وأحسب أن آلاف القراء يشهدون معي): بل لقد حالفه التوفيق في الفصول كلها، ويا ليته دوّن جميع الأحاديث التي أذاعها ليجيء مع هذا الكتاب البديع أمثالٌ له وأجزاء أُخَر! ولكن قدّر الله، وما قدّره الله كان.

التعريف السابق بكتاب مع النّاس (2)

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين