على خطى العثمانيين في حصار فيينا

من موقع الحدث تتبعت واحداً من أهم الأحداث المفصلية في التاريخ التي كان لها تأثير بالغ على أوروبا والإسلام .

هذا الحدث هو وصول الأتراك لقلب "فيينا" عاصمة النمسا عام 1683 بهدف ضمها للإمبراطورية العثمانية، ثم فشلهم في إتمام النصر وعودتهم عنها، وما تبع ذلك من تراجع للوجود العثماني في أوروبا التي كانت حتى ذلك الوقت تسيطر على عموم دول أوروبا الشرقية.

تتبعت من موقع الحدث الطريق الذي سار فيه الجنود.

بدأتُ من جبل "كالينبرج" الذي احتله العثمانيون، وصارت مدينة "فيينا" في مرمى مدافعهم، في هذا الجبل ما زال البئر التي حفرها الأتراك لاستخراج مياه الشرب والوضوء موجودة، وكان بجوارها مسجد تم تحويله إلى كنيسة عام 1886 من قبل الملك "ليوبولد الاول" تخليدا لذكرى الانتصار على الأتراك، وتحوي داخلها بعض آثار المعركة من أسلحة وخلافه، وعلى واجهة الكنيسة يوجد تذكارات لتخليد الدور الذي قام به الجيش البولندي في صد الهجوم التركي.

نزلتُ من الجبل على خطى الحملة العثمانية إلى حيث كانت تعسكر بجنودها، هذا المكان حاليا حديقة كبيرة في الحي الثامن عشر اسمها (حديقة معسكر الأتراك)، يوجد داخلها نصب تذكاري تخليدا لذكرى جنود من كازاخستان (المسلمة) الذين شاركوا بجوار النمساويين وحلفائهم لصد الهجوم التركي.!

يُذَّكِرُنا ذلك بأن من أهم أسباب فشل الحملة وجود عدة خيانات؛ أبرزها خيانة "مراد كيراي" المسئول عن حماية جسر الدونة، وهو الممر الوحيد لأي إمدادات تأتي للمدينة؛ فقد سمح بمرور قوات الدعم من الحلفاء الأوروبيين دون إراقة نقطة دم واحدة مما مثل مفاجأة للجيش العثماني بقيادة الصدر الأعظم وقائد الحملة "قرة مصطفى باشا".

وبينما حديث الخيانة المؤلم حاضر، استكملت المسير في الحديقة للوصول لمَعْلَم من المعالم التي تركها العثمانيون أينما حلوا، وصلت للسبيل، وعلاقتي بالسبيل علاقة حميمية تجذب نظري حيثما حللت؛ فهو يجمع بين فضيلتين: فعل الخير بسقي الماء لعابري السبيل، وكونه أيقونة جمالية بعمارته وزخرفته، وهو هنا مزين بالآية الكريمة {وجعلنا من الماء كل شيء حي} مكتوبة على جدران السبيل باللغة العربية والتركية والألمانية بخط زخرفي جميل (والشكر موصول للنمساويين لحفاظهم على هذا الأثر الجميل).

غادرت المعسكر (الحديقة) متوجها علي خطى الجنود نحو وسط المدينة، وحيث آخر نقطة وصل لها فارس من فرسان العثمانيين، وعلى بعد نحو مائتي متر من الكاتدرائية الرئيسية للمدينة والتي تقع في الحي الأول، وهو الحي المركزي للمدينة، وفي النقطة ذاتها يوجد تمثال لفارس يعتلي فرسا وهو شاهر سيفه الذهبي، والتمثال على الحائط في ركن من أحد المباني الحالية، وقريبا منه ما زال الشارع الذي سار فيه الجنود العثمانيون يسمى شارع الأتراك .

ليست هذه فقط آثار العثمانيين في فيينا؛ فكما للحروب مآسيها كذلك لها تأثيراتها الثقافية؛ فالقهوة من ضمن ما انتقل من الأتراك للنمسا، وكذلك يُقال بأن فطيرة التفاح النمساوية الشهيرة مقتبسة من البقلاوة التركية باستخدام أسلوب تحضير مشابه مع حشوها بالتفاح بدل المكسّرات.

هذا الحدث التاريخي الذي عرضناه من موقع الحدث، ما زال ماثلاً وحاضرا بقوة في الذاكرة الأوروبية، وما زالوا لا ينسون أن الإسلام يمثل لهم -بحسب ذاكرتهم التاريخية- معركة وجودية، حيث كان سقوط فيينا يمثل اتصالا شرق أوروبا التي كانت تحت سيطرة العثمانيين، وبوسطها حيث توجد فيينا، وصولا إلى غربها الذي كان تحت سيطرة دولة الأندلس المسلمة.

ولذلك يقول "صمويل هنتنجتون" في كتابه صدام الحضارات: "الإسلام هو الحضارة الوحيدة التي جعلت بقاء الغرب موضع شك". وذلك تعليقاً على قول "برنارد لويس": "لمدة ما يقرب من ألف سنة، منذ أول رسو للمسلمين في أسبانيا وحتى الحصار التركي الثاني لفيينا، كانت أوروبا تحت تهديد مستمر من الإسلام".

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين