صحيح البخاري: شموله (7)

قالوا: ما عنيت بشمول صحيح البخاري؟ 

قلت: عنيت بالشمول ثلاثة أمور: سعة مضامينه، وعمقها، وتقريرها بحججها.

قالوا: اشرح الثلاثة شرحا تاما.

قلت:

الأول: أن البخاري ضمَّن كتابه كل ما يتعلق بالإيمان والإسلام والقرآن الكريم وسنن الرسول صلى الله عليه وسلم وشمائله ومغازيه، ولخصه العلماء في الكتب الثمانية التي يعبرون عنها بكلمة "الجامع"، وهي الإيمان والعلم، والأحكام، والسير، والآداب، والتفسير، والفتن، وأشراط الساعة، والمناقب.

والثاني: عمقه وهو استيعابه لجميع الدين أصوله وفروعه، وأحكامه ومسائله، ورغائبه وفضائله، ويتأسى في هذا العمق العقلي والقلبي والنفسي والروحي بكتاب الله تعالى، ويختلف عن كتب العقيدة والفقه اختلافا بينا.

والثالث: تقريره تلك المضامين بحجج علمية إما بنصوص واضحات، أو باستنباطات واستخراجات، أو إشارات واقتضاءات.

قالوا: اكشف لنا عن مناهج احتجاجه واستشهاده في كتابه.

قلت: هي دقيقة، ومنتشرة في الكتاب كله، ولا يشبهه فيها شيء من كتب البشر، فانظروا فيه نظر العالم الباحث، وادرسوه دراسة متمعن محقق.

قالوا: ما الذي أردت باختلافه عن كتب العقيدة؟

قلت: إنه يختلف عن كتب العقيدة من وجوه، فكتب العقيدة فرقت المسلمين إلى فرق، وعنيت بالأمور الفاصلة بين فرقة وأخرى، وبيان المعتقدات التي إذا اعتقدها الإنسان كان من الفرقة الناجية لدى تلك الطائفة، وهذه المعتقدات لا تزيد ولا تنقص، وتجعل الدين شيئا رتيبا جافا أجرد قاحلا، ومعتركا محتدما للجدال والمراء والتفسيق والتكفير، بينما سار البخاري في كتابه على منوال القرآن الكريم، فيفصل نواحي الإيمان كلها الظاهرة والباطنة ممَّا يقوِّي صلة العبد بربه فيحبه ويخافه ويسعى بالأعمال الصالحة تقربا إليه ورجاء ثوابه، ويتجنب الآثاوم والذنوب والمعاصي خشية له واتقاء عقابه.

انظروا إلى تراجمه في كتابي الإيمان والتوحيد تجدوه يمتاز عن كتب العقيدة والكلام امتيازا واضحا، منها قوله عن الإيمان: وهو قول وفعل ويزيد وينقص، قال الله تعالى: (ليزدادوا إيمانا مع إيمانهم)، (وزدناهم هدى)، (ويزيد الله الذين اهتدوا هدى)، (والذين اهتدوا زادهم هدى وآتاهم تقواهم)، (ويزداد الذين آمنوا إيمانا)، وقوله: (أيكم زادته هذه إيمانا فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانا)، وقوله جل ذكره :(فاخشوهم فزادهم إيمانا)، وقوله تعالى: (وما زادهم إلا إيمانا وتسليما)، والحب في الله والبغض في الله من الإيمان، وكتب عمر بن عبد العزيز إلى عدي بن عدي: إنَّ للإيمان فرائض وشرائع وحدودا وسننا، فمن استكملها استكمل الإيمان ومن لم يستكملها لم يستكمل الإيمان، فإن أعش فسأبينها لكم حتى تعملوا بها، وإن أمت فما أنا على صحبتكم بحريص، وقال إبراهيم عليه السلام (ولكن ليطمئن قلبي)، وقال معاذ: اجلس بنا نؤمن ساعة، وقال ابن مسعود: اليقين الإيمان كله، وقال ابن عمر: لا يبلغ العبد حقيقة التقوى حتى يدع ما حاك في الصدر، ومنها باب أمور الإيمان وقول الله تعالى: (ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب واقام الصلاة وآتى الزكاة والموفون بعهدهم إذا عاهدوا والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون)، (قد أفلح المؤمنون) الآية. حدثنا عبد الله بن محمد، قال: حدثنا أبو عامر العقدي، قال: حدثنا سليمان بن بلال عن عبد الله بن دينار، عن أبي صالح، عن أبي هريرة رضى الله تعالى عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: الإيمان بضع وستون شعبة، والحياء شعبة من الإيمان.

ومنها: باب المسلمون من سلم المسلمون من لسانه ويده، وباب إطعام الطعام من الإسلام، وباب أن يحب لأخيه ما يحب لنفسه، وباب حلاوة الإيمان، وباب إذا لم يكن الإسلام على الحقيقة، وكان على الاستسلام أو الخوف من القتل، وباب إفشاء السلام من الإسلام، وباب الدين يسر، وباب أحب الدين إلى الله أدومه، وباب قول النبي صلى الله عليه وسلم: الدين النصيحة، ومنها في كتاب التوحيد: باب السؤال بأسماء الله تعالى والاستعاذة بها، وباب قول الله تعالى: (ونضع الموازين القسط)، وأن أعمال بني آدم وقولهم يوزن، حدثنا أحمد بن إشكاب، حدثنا محمد بن فضيل عن عمارة بن القعقاع، عن أبي زرعة، عن أبي هريرة رضى الله تعالى عنه، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: كلمتان حبيبتان إلى الرحمن خفيفتان على اللسان ثقيلتان في الميزان سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم.

قالوا: ما الذي أردت باختلافه عن كتب الفقه؟ 

قلت: إن كتب الفقه قسمت المسلمين إلى مذاهب، وصغرت الإسلام إلى قوانين وأحكام، فلا تبحث إلا في الفرائض والمندوبات والمباحات والمحرمات والمكروهات، و لايخفى على قارئ كتاب الله تعالى أنه متعال عن لغة القانون والأحكام، فالقوانين والحدود فيه قليلة جدا تعد على الأصابع، وأغلبه ما يتعلق بهدى الناس بالتنبيه على الأمور الفطرية والعقلية والقصص والأمثال والإنذار والتبشير.

وهذا هو المنهج السديد لتعليم الدين فاتبعه البخاري، انظروا إلى افتتاحه كتابه بحديث "إنما الأعمال بالنية"، ثم إعادته الحديث نفسه في مواضع تدل على فقهه لهذا الدين، منها في الإيمان، باب ما جاء أن الأعمال بالنية والحسبة، وباب الخطأ والنسيان في العتاقة والطلاق ونحوه ولا عتاقة إلا لوجه الله تعالى، وباب النية في الأيمان، وفي الحيل، باب في ترك الحيل وأن لكل امرئ ما نوى في الأيمان وغيرها.

وقد يشير البخاري إلى قولين أحدهما أقوى والآخر أحوط، فمثلا يقول في باب ما يذكر في الفخذ: ويروى عن ابن عباس وجرهد ومحمد بن جحش عن النبي صلى الله عليه وسلم الفخذ عورة، وقال أنس بن مالك: حسر النبي صلى الله عليه وسلم عن فخذه، قال أبو عبد الله: وحديث أنس أسند، وحديث جرهد أحوط، حتى يخرج من اختلافهم. وقال أبو موسى غطى النبي صلى الله عليه وسلم ركبتيه حين دخل عثمان، وقال زيد بن ثابت: أنزل الله على رسوله صلى الله عليه وسلم وفخذه على فخذي فثقلت علي حتى خفت أن ترض فخذي.

وتقرأ الصحيح وتعجب من ضمِّه مسائل تغاضى عنها العلماء من عصره إلى يومنا هذا، فمثلا انظروا إلى الأبواب التي ترجم فيها لأحكام النساء ومسائلهن وكأنكم تطالعون كتابا معاصرا: باب تعليم الرجل أمته وأهله، وباب عظة الإمام النساء وتعليمهن، وباب خروج النساء إلى البراز، وباب نوم المرأة في المسجد، وباب التطوع خلف المرأة، وباب إذا حمل جارية صغيرة على عنقه، وباب إذا صلى إلى فراش فيه حائض، وباب هل يغمز الرجل امرأته عند السجود لكي يسجد، وباب المرأة تطرح عن المصلي شيئا من الأذى، وباب خروج النساء إلى المساجد بالليل والغلس، وباب خروج النساء والحيض إلى المصلى، وباب عظة الإمام النساء يوم العيد، وباب إذا لم يكن لها جلباب، وباب صلاة النساء مع الرجال في الكسوف، وباب طواف النساء مع الرجال، وباب اعتكاف النساء، وباب الأخبية في المسجد، وباب اعتكاف المستحاضة، وباب زيارة المرأة زوجها في اعتكافه، وباب هبة الرجل لامرأته والمرأة لزوجها، وباب هبة المرأة لغير زوجها، وباب لا ينكح الأب وغيره البكر والثيب إلا برضاهما، وباب إذا زوج الرجل بنته وهي كارهة فنكاحه مردود، وباب ذهاب النساء والصبيان إلى العرس، وباب قيام المرأة على الرجال في العرس وخدمتهم بالنفس، وباب المداراة بالنساء، وباب الوصاة بالنساء، وباب ما يكره من ضرب النساء، وباب لا تطيع المرأة زوجها في معصية، وباب ما يجوز أن يخلو الرجل بالمرأة عند الناس، وباب خادم المرأة، وباب خدمة الرجل في أهله، وباب إذا لم ينفق الرجل فللمرأة أن تأخذ بغير علمه ما يكفيها وولدها بالمعروف، وباب تسليم الرجال على النساء والنساء على الرجال، وباب إذا استكرهت المرأة على الزنا فلا حد عليها.

انظر الحلقة السادسة : 

صحيح البخاري: تمامه

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين