مختارات من تفسير

 

البسملة ومقاصد سورة القاتحة وأسماؤها وفضلها 

القرآن الكريم منذ اللحظة التي نزل فيها , نزل مقروناً باسم الله سبحانه وتعالى: [اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ] {العلق:1} ونحن حينما نقرأ القرآن نبدأ نفس البداية .

وإننا مطالبون أن نبدأ كل عمل باسم الله؛ لأننا لا بدّ أن نحترم عطاء الله في كونه , فحين نزرع الأرض مثلاً لا بدّ أن نبدأ باسم الله؛ لأننا لم نخلق الأرض التي نحرثها، ولا خلقنا البذرة التي نبذرها، ولا أنزلنا الماء من السماء لينمو الزرع ،وهكذا.

وأنت حين تبدأ كل شيء باسم الله كأنك تجعل الله في جانبك يعينك .

ومن رحمة الله سبحانه أنه علّمنا أن نبدأ كل شيء باسم الله ؛ لأنّ الله هو الاسم الجامع لصفات الكمال سبحانه, والفعل عادة يحتاج إلى صفات متعددة , فلو أنّ الله لم يخبرنا بالاسم الجامع لكل الصفات كان علينا أن نحدد الصفات التي نحتاج إليها، كأن تقول : باسم القوي، وباسم الرزاق، وباسم المجيب، وباسم القادر، إلى غير ذلك من الأسماء والصفات، ولكنّ الله تعالى جعلنا نقول : {بسم الله} الجامع لكل هذه الصفات.

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه باسم الله الرحمن الرحيم فهو أقطع» أي: عمل ناقص فيه شيء ضائع , لأنك حين لا تبدأ العمل باسم الله قد يصادفك الغرور بأنك أنت الذي سخرت ما في الكون ليخدمك وينفعل لك, وحين لا تبدأ العمل باسم الله فليس عليه جزاء في الآخرة فتكون قد أخذت عطاءه في الدنيا وبترت عطاءه في الآخرة , أمّا إذا أردت عطاء الدنيا والآخرة فأقبل على كل عمل باسم الله .

وعندما تبدأ قراءة القرآن باسم الله الذي آمنت به رباً وإلهاً والذي عاهدته على أن تطيعه فيما أمر وفيما نهى , وأنه خلق وأوجد , ويحيي ويميت, وله الأمر في الدنيا والآخرة, وأنه سيثيبك في الآخرة تشعر أنّ البداية من الله والنهاية إلى الله سبحانه وتعالى.

ونلاحظ أنّ هناك ثلاثة أسماء لله قد تكررت في البسملة وفي سورة الفاتحة، وهذه الأسماء هي : (الله ـ الرحمن ـ الرحيم) ونقول إنه ليس في القرآن تكرار, وإذا تكرر اللفظ فإنّ معناه في كل مرة يوحي بدلالة جديدةعن معناه في المرة السابقة؛ لأنّ الله هو المتكلم ؛ لذلك فهو يضع اللفظ في مكانه الصحيح وفي معناه الصحيح .

وقولنا: {بسم الله الرحمن الرحيم} هو استعانة بقدرة الله حين نبدأ فعل الأشياء، وهي كذلك طلب العون من الله بكل كمال صفاته .

و{الرحمن الرحيم} في البسملة لها معنى غير {الرحمن الرحيم} في الفاتحة ففي البسملة هي تذكرنا برحمة الله وغفرانه وتوفيقه حتى لا نستحي من أن نستعين به إن كنا قد فعلنا معصية, والله يريدنا أن نستعين باسمه دائماً في كل أعمالنا , فاذا سقط واحد منا في معصية , قال: كيف أستعين باسم الله وقد عصيته؟

نقول له: ادخل عليه من باب الرحمة يغفر لك واستعن به يجبك , وأنت حين تسقط في معصية تستعيذ برحمة الله من عدله؛ لأنّ عدل الله لا يترك صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها , ولولا أن رحمة الله سبقت عدله ما بقي للناس نعمة وما عاش أحد على ظهر الأرض , فالله يقول في سورة النحل :[وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ] {النحل:61} والإنسان خلق هلوعاً ضعيفاً وذنوبه كثيرة , ولا يمكن لأحد أن ينسب الكمال إلى نفسه حتى الذين يبذلون أقصى جهدهم في الطاعة، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: «كل بني آدم خطاء وخير الخطائين التوابون».

ولكن {الرحمن الرحيم} في الفاتحة مقترنةٌ برب العالمين الذي أوجدك من عدم وأمدك بِنِعَمٍ لا تعد ولا تحصى، فأنت تحمده على هذه النعم التي أخذتها برحمة الله في ربوبيته , ذلك أنّ الربوبية ليس فيها من القسوة بقدر ما فيها من رحمة.

والله سبحانه رب للمؤمن والكافر، وقد جعل الله رحمته تسبق غضبه، وهذه رحمة تستوجب الشكر، لذلك في الفاتحة تأتي {الرحمن الرحيم} بمعنى رحمة الله في ربوبيته لخلقه؛ فهو يمهل العاصي ويفتح أبواب التوبة لكل من يلجأ إليه.

كذلك علَّمنا الحق أن نقول:{بسم الله الرحمن الرحيم} لكي نعرف أنّ الباب مفتوح للاستعانة بالله , وأنّ المعصية لا تمنعنا من الاستعانة في كل عمل باسم الله؛ لأنه رحمن رحيم .

  الفاتحة

أولاً ـ هدف السورة: شاملة لأهداف القرآن :

سُمِّيت الفاتحة، وأم الكتاب، والشافية، والوافية، والكافية، والأساس، والحمد، والسبع المثاني، والقرآن العظيم , كما ورد في «صحيح البخاريِّ» أنّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال لأبي سعيد بن المعلّى: «لأعلّمنّك سورة هي أعظم السور في القرآن: الحمدُ لله ربِّ العالمين، هي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته» وقد وصفها الله تعالى بالصلاة.

فما سِرُّ هذه السورة؟ 

سورة الفاتحة مكية، وآياتها سبع بالإجماع , وسميت الفاتحة لافتتاح الكتاب العزيز بها فهي أول القرآن ترتيبا لا تنزيلاً, وهي على قصرها حوت معاني القرآن العظيم واشتملت مقاصده الأساسية بالإجمال، فهي تتناول أصول الدين وفروعه: العقيدة، العبادة، التشريع، الاعتقاد باليوم الآخر، والإيمان بصفات الله الحسنى، وإفراده بالعبادة والاستعانة والدعاء والتوجه إليه جلّ وعلا بطلب الهداية إلى الدين الحق والصراط المستقيم, والتضرع إليه بالتثبيت على الإيمان ونهج سبيل الصالحين وتجنب طريق المغضوب عليهم والضالين وفيها الإخبار عن قصص الأمم السابقة والاطلاع على معارج السعداء ومنازل الأشقياء، وفيها التعبد بأمر الله سبحانه ونهيه وغير ذلك من مقاصد وأهداف، فهي كالأم بالنسبة لباقي السور الكريمة، ولهذا تسمى بأمِّ الكتاب. 

إذن اشتملت سورة الفاتحة على كلِّ معاني القرآن، فهدف السورة الاشتمالُ على كل معاني وأهداف القرآن.

والقرآن نصَّ على : العقيدة والعبادة ومنهج الحياة. والقرآن يدعو للاعتقاد بالله، ثم عبادته، ثم حدد المنهج في الحياة، وهذه نفسها محاور سورة الفاتحة:

1ـ العقيدة:[الحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ(2) الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ(3) مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ(4) ]. {الفاتحة}.

2ـ العبادة:[إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ] {الفاتحة:5}. 

3ـ مناهج الحياة:[اهْدِنَا الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ(6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ(7) ]. {الفاتحة}. 

وكل ما يأتي في كل سور وآيات القرآن هو شرح لهذه المحاور الثلاث. 

4ـ تذكِّرُ سورة الفاتحة بأساسيات الدين؛ ومنها:

آ ـ شكرُ نعم الله {الحمد لله}

ب ـ الإخلاص لله: [إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ] {الفاتحة:5}. 

ج ـ الصحبة الصالحة: [صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ] {الفاتحة:7} . 

د ـ وتذكُّرُ أسماء الله الحسنى وصفاته: [الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ] {الفاتحة:3}. 

هـ ـ الاستقامة: [اهْدِنَا الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ] {الفاتحة:6} .

و ـ الآخرة: [مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ] {الفاتحة:4} ويوم الدين هو يوم الحساب. 

ز ـ أهمية الدعاء. 

ح ـ وحدة الأمَّة:{نعبدُ} {نَسْتَعيِنُ} [الفاتحة:5] ورد الدعاء بصيغة الجمع مما يدل على الوحدة، ولم يرد بصيغة الافراد. 

إذن سورة الفاتحة تُسَلسِلُ مبادئَ القرآن (عقيدة، عبادة، منهج حياة) وهي تثني على الله تعالى وتدعوه؛ لذا فهي اشتملت على كل أساسيات الدين.

أنزل الله تعالى الكتب الثلاثة (الزبور، التوراة، والإنجيل) ثم جمع هذه الكتب الثلاثة في القرآن، وجمع القرآن في الفاتحة، وجُمعت الفاتحة في الآية:[إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ] {الفاتحة:5}.

وقد افتتح القرآن بها فهي مفتاح القرآن، وتحوي كل كنوز القرآن، وفيها مدخلٌ لكل سورة من باقي سور القرآن , وبينها وبين باقي السور تسلسلٌ بحيث إنه يمكن وضعها قبل أي سورة من القرآن ويبقى التسلسل بين السور والمعاني قائماً.

ثانياً ـ أسماء هذه السورة :

1ـ فاتحة الكتاب.

2ـ سورة الحمد.

3ـ أم القرآن.

4ـ السبع المثاني.

5ـ الوافية.

6ـ الواقية.

7ـ الأساس.

8ـ الشفاء.

9ـ الصلاة : في الحديث القدسي « قسمت الصلاة بيني وبين عبدي ».

10ـ سورة الشكر.

11ـ سورة الدعاء.

وهناك أسماء أخرى , وكثرة الأسماء تدل على شرف المسمى .

ثالثاً ـ فضل السورة :

الآن وقد عرفنا أهداف سورة الفاتحة التي نكررها (17) مرة في صلاة الفريضة يومياً ما عدا النوافل, لا شك أننا سنستشعر هذه المعاني ونتدبر معانيها ونحمد الله تعالى ونثني عليه وندعوه بالهداية لصراطه المستقيم.

وسورة الفاتحة مكية على قول أكثر العلماء، وفي فضائلها ذكر العلماء أنّ منها :

آ ـ نزلت من كنز تحت العرش .

ب ـ قال الحسين رضي الله عنه : أودع الله سبحانه العلوم في الكتب الأربعة : التوراة والإنجيل والزبور والفرقان، ثم أودع علوم هذه الأربعة في القرآن، ثم أودع علوم القرآن في المُفصَّلِ، ثم أودع علوم المفصَّلِ في الفاتحة .

ج ـ فاتحة الكتاب شفاءٌ من السُّمِّ، كما في حديث حذيفة بن اليمان .

د ـ وسورة الفاتحة تعلمنا كيف نتعامل مع الله، فأولها ثناء على الله تعالى:[الحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ] {الفاتحة:2} ، وآخرها دعاء لله بالهداية: [اهْدِنَا الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ] {الفاتحة:6} ولو قسَّمنا حروف سورة الفاتحة لوجدنا أنّ نصف عدد حروفها ثناء (63 حرفاً) من : {الحَمْدُ لِله} إلى {وإيَّاك نَسْتَعينُ} ، ونصف عدد حروفها دعاء (63 حرفاً) من {اهدِنا الصِرَاطَ} إلى {ولا الضَّآلينَ}وكأنها إثبات للحديث القدسي: «قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين ولعبدي ما سأل، فاذا قال العبد: (الحمد لله رب العالمين) ، قال الله عز وجل: حمدني عبدي، وإذا قال: (الرحمن الرحيم) قال الله عز وجل: أثنى علي عبدي، وإذا قال : (مالك يوم الدين)، قال عز وجل: مجَّدني عبدي، وقال مرَّةً: فوّض إلي عبدي، فإذا قال: (إياك نعبد وإياك نستعين) قال: هذا بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل، فإذا قال: (اهدنا الصراط المستقيم، صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضآلين) قال: هذا لعبدي ولعبدي ما سأل» فسبحان الله العزيز الحكيم الذي قدّر كلَّ شيء.

وقد سُئِلَ عمرُ بن عبد العزيز رضي الله عنه : لماذا تقف بعد كل آية من آيات سورة الفاتحة؟ فأجاب : لأستمتع بردِّ ربي.

 

 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين