حدث في الرابع من شعبان

في يوم الجمعة الرابع من شعبان من عام 583 صلى السلطان صلاح الدين الأيوبي أول جمعة في المسجد الأقصى بعد استرداده من الصليبيين في 27 رجب، والذين كانوا قد استولوا عليه قبل 91 سنة؛ في شعبان سنة 492.

وأرسل صلاح الدين في آخر شعبان إلى الخليفة العباسي في بغداد الناصر لدين الله كتاباً كتبه القاضي الفاضل يخبره بالفتح المبين وعودة القدس إلى حوزة المسلمين، هذا نصه:

أدام الله أيام الديوان العزيز النبوي الناصري، ولا زال مظفر الجد بكل جاحد، غنياً بالتوفيق عن رأي كل رائد، موقوف المساعي على اقتناء مطلقات المحامد، مستيقظ النصر والسيف في جفنه راقد، وارد الجود والسحاب على الأرض غير وارد، متعدد مساعي الفضل وإن كان لا يلقى إلا بشكرٍ واحد، ماضي حكم العدل بعزم لا يمضي إلا بنبل غويٍّ وريش راشد، ولا زالت غيوث فضله إلى الأولياء أنواءً إلى المرابع وأنواراً إلى المساجد، وبُعوث رعبه إلى الأعداء خيلاً إلى المراقب وخَيَالاً إلى المراقد.

كتب الخادم هذه الخدمة، تلو ما صدر عنه مما كان يجري مجرى التباشير بصبح هذه الخدمة، والعنوانِ لكتابِ وصف هذه النعمة، فإنه بحرٌ للأقلام فيه سبحٌ طويل، ولطفٌ تحمُّلُ الشكر فيه عبءٌ ثقيل، وبشرى للخواطر في شرحها مآرب، ويسرى للأسرار في إظهارها مسارب، ولله في إعادة شكره رضا، وللنعمة الراهنة به دوامٌ لا يقال معه: هذا مضى. وقد صارت أمور الإسلام إلى أحسن مصايرها، واستتبت عقائد أهله على أبين بصائرها، وتقلص ظل رجاء الكافر المبسوط، وصدق الله أهل دينه، فلما وقع الشرط حصل المشروط، وكان الدين غريباً فهو الآن في وطنه، والفوز معروضاً فقد بُذِلت الأنفس في ثمنه، وأمر أمرُ الحق وكان مستضعفا، وأهلَّ ربعه وكان قد عيف حين عفا، وجاء أمر الله وأنوف أهل الشرك راغمة، فأدلجت السيوف إلى الآجال وهي نائمة، وصدق وعد الله في إظهار دينه على كل دين، واستطارت له أنوارٌ أبانت أن الصباح عندها حيان الحين، واسترد المسلمون تراثاً كان عنهم آبقا، وظفروا يقظةً بما لم يصدقوا أنهم يظفرون به طيفاً على النأي طارقا، واستقرت على الأعلى أقدامهم، وخفقت على الأقصى أعلامهم، وتلاقت على الصخرة قبلهم، وشفيت بها وإن كانت صخرةً كما تشفى بالماء غللهم.

ولما قدم الدين عليها عرف منها سويداء قلبه، وهنأ كفؤها الحجر الأسود ببت عصمتها من الكافر بحربه، وكان الخادم لا يسعى سعيه إلا لهذه العظمى، ولا يقاسي تلك البؤسى إلا رجاء هذه النعمى، ولا يناجز من استمطله في حربه، ولا يعاتب بأطراف القنا من تمادى في عتبه، إلا لتكون الكلمة مجموعة، والدعوة إلى سامعها مرفوعة، فتكون كلمة الله هي العليا، وليفوز بجوهر الآخرة لا بالعَرَض الأدنى من الدنيا، وكانت الألسنة ربما سلقته فأنضج قلوبها بالاحتقار، وكانت الخواطر ربما غلت عليه مراجلُها فأطفأها بالاحتمال والاصطبار، ومن طلب خطيراً خاطر، ومن رام صفقةً رابحة تجاسر، ومن سما لأن يجلي غمرةً غامر، وإلا فإن القعود يُلين تحت نيوبِ الأعداءِ المعاجمَ فتعضها، ويضعف في أيديها مهر القوائم فتقضها، هذا إلى كون القعود لا يقضي فرض الله في الجهاد، ولا يُرعى به حق الله في العباد، ولا يوفى به واجب التقليد الذي تطوقه الخادم من أئمةٍ قضوا بالحق وبه كانوا يعدلون، وخلفاءٍ لله كانوا مثل هذا اليوم الله يسألون، لا جرم أنهم أورثوا سرورَهم وسريرَهم خلَفَهم الأطهر، ونجلهم الأكبر، وبقيتهم الشريفة، وطلعتهم المنيفة، وعنوان صحيفة فضلهم لا عدم سواد العلم وبياض الصحيفة، فما غابوا لما حضر، ولا غضوا لما نظر، بل وصلهم الأجر لما كان به موصولاً، وشاطروه العمل لما كان عنه منقولاً ومنه مقبولاً، وخلص إليهم إلى المضاجع ما اطمأنت به جُنوبها، وإلى الصحائف ما عبقت به جيوبها، وفاز منها بذكرٍ لا يزال الليل به سميرا، والنهار به بصيرا، والشرق يهتدي بأنواره، بل إن أبدى نوراً من ذاته هتف به الغرب بأن وارِهْ، فإنه نور لا تكنه أغساق السدف، وذكرٌ لا تواريه أوراق الصحف.

وكتاب الخادم هذا، وقد أظفر الله بالعدو الذي تشظت قناته شفقاً، وطارت فرقه فرقاً، وفل سيفه فصار عصا، وصدعت حصاته وكان الأكثر عدداً وحصى، فكلت حملاته وكانت قدرة الله تصرف فيه العنان بالعيان، عقوبةً من الله ليس لصاحب يدٍ بها يدان، وعثرت قدمه وكانت الأرض لها حليفة، وغضت عينه وكانت عيون السيوف دونها كسيفة، ونام جفن سيفه وكانت يقظته تريق نطف الكرى من الجفون، وجدعت أنوف رماحه وطالما كانت شامخةً بالمنى أو راعفةً بالمنون، وأضحت الأرض المقدسة الطاهرة وكانت الطامث، والرب المعبود الواحد وكان عندهم الثالث، فبيوت الشرك مهدومة، ونيوب الكفر مهتومة، وطوائفه المحامية، مجتمعةٌ على تسليم البلاد الحامية، وشجعانه المتوافية، مذعنة ببذل المطامع الوافية، لا يرون في ماء الحديد لهم عصرة، ولا في فناء الأفنية لهم نصرة، وقد ضربت عليهم الذلة والمسكنة، وبدل الله مكان السيئة الحسنة، ونقل بيت عبادته من أيدي أصحاب المشأمة إلى أيدي أصحاب الميمنة.

وقد كان الخادم لقيهم اللقاة الأولى فأمده الله بمداركته، وأنجده بملائكته، فكسرهم كسرةً ما بعدها جبر، وصرعهم صرعةً لا يعيش معها بمشيئة الله كفر، وأسر منهم من أسرت به السلاسل، وقتل منهم من فتكت به المناضل، وأجلت المعركة عن صرعى من الخيل والسلاح والكفار، وعن أصناف يخيل بأنه قتلهم بالسيوف الأفلاق والرماح الأكسار، فنيلوا بثأر من السلاح ونالوه أيضاً بثار، فكم أهِلَّة سيوف تقارض الضراب بها حتى عادت كالعراجين، وكم أنجم رماحٍ تبادلت الطعان حتى صارت كالمطاعين، وكم فارسيةٍ ركض عليها فارسها السهم إلى أجلٍ فاختلسه، وفغرت تلك القوس فاها فإذا فوها قد نهش القرن على بعد المسافة فافترسه، وكان اليومُ مشهوداً، وكانت الملائكة شهوداً، وكان الكفر مفقوداً، والإسلام مولوداً، وجعل الله ضلوع الكفار لنار جهنم وقوداً، وأُسر الملكُ وبيده أوثقُ وثائقه، وآكدُ وُصلِه بالدين وعلائقه، وهو صليب الصلبوت، وقائد أهل الجبروت، وما دُهموا قط بأمر إلا وقام بين دهائمهم يبسط لهم باعه، ويحرضهم وكان مد اليدين في هذه الدفعة وداعه، لا جرم أنهم تهافت على نارهم فَرَاشُهم، وتجمع في ظل ظلامه خشاشهم، فيقاتلون تحت ذلك الصليب أصلب قتال وأصدقه، ويرونه ميثاقاً يبنون عليه أشد عقدٍ وأوثقه، ويعدونه سوراً تحفر حوافر الخيل خندقه.

وفي هذا اليوم أُسرت سراتهم، وذهبت دهاتهم، ولم يفلت معروفٌ إلا القومص، وكان لعنه الله ملياً يوم الظفر بالقتال، ويوم الخذلان بالاحتيال، فنجا ولكن كيف؟ وطار خوفاً من أن يلحقه منسر الرمح وجناح السيف، ثم أخذه الله بعد أيام بيده، وأهلكه لموعده، فكان لعدتهم فذالك، وانتقل من ملك الموت إلى مالك.

وبعد الكسرة مر الخادم على البلاد فطواها بما نشر عليها من الراية العباسية السوداء صِبغا، البيضاء صنعا، الخافقة هي وقلوب أعدائها، الغالبة هي وعزائم أوليائها، المستضاء بأنوارها إذا فتح عينها البشر، وأشارت بأنامل العذبات إلى وجه النصر، فافتتح بلد كذا وكذا، وهذه أمصارٌ ومدن، وقد تسمى البلاد بلاداً وهي مزارع وفدن، وكل هذه ذوات معاقل ومعاقر، وبحارٍ وجزائر، وجوامع ومنائر، وجموعٍ وعساكر، يتجاوزها الخادم بعد أن يحرزها، ويتركها وراءه بعد أن ينتهزها، ويحصد منها كفراً ويزرع إيماناً، ويحط من منائر جوامعها صلباناً ويرفع أذاناً، ويبدل المذابح منابر والكنائس مساجد، ويبويء بعد أهل الصلبان أهل القرآن للذب عن دين الله مقاعد، ويقر عينه وعيون أهل الإسلام أن تعلق النصر منه ومن عسكره بجارٍ ومجرور، وأن ظفر بكل سورٍ ما كان يخاف زلزاله وزياله إلى يوم النفخ في الصور.

ولما لم يبق إلا القدس وقد اجتمع إليها كل شريد منهم وطريد، واعتصم بمنعتها كل قريب منهم وبعيد، وظنوا أنها من الله مانعتهم، وأن كنيستها إلى الله شافعتهم، فلما نازلها الخادم رأى بلداً كبلاد، وجمعاً كيوم التناد، وعزائم قد تألفت وتألبت على الموت فنزلت بعرصته، وهان عليها مورد السيف وأن تموت بغصته، فزاول البلد من جانب، فإذا أوديةٌ عميقة، ولجج وعرةٌ غريقة، وسورٌ قد انعطف عطف السوار، وأبرجةٌ قد نزلت مكان الواسطة من عقد الدار، فعدل إلى جهةٍ أخرى كان للمطامع عليها معرج، وللخيل فيها متولج، فنزل عليها، وأحاط بها وقرب منها، وضربت خيمته بحيث يناله السلاح بأطرافه، ويزاحمه السور بأكنافه، وقابلها ثم قاتلها، ونزلها ثم نازلها، وبرز إليهم ثم بارزها، وحاجزها ثم ناجزها، فضمها ضمةً ارتقب بعدها الفتح، وصدع أهلها فإذا هم لا يبصرون على عبودية الخد عن عتق الصفح، فراسلوه ببذل قطيعة إلى مدة، وقصدوا نَظِرةً من شدة وانتظاراً لنجدة.

فعرفهم الخادم في لحن القول، وأجابهم بلسان الطَول، وقدم المنجنيقات التي تتولى عقوبات الحصون عصيُّها وحبالُها، وأوتر لهم قسيَّها التي تضرب فلا تفارقها سهامها، ولا يفارق سهامها نصالها، فصافحت السور بأكنافه فإذا سهمها في ثنايا شرفاتها سواك، وقدم النصر نسراً من المنجنيق يخلد إخلاده إلى الأرض ويعلو علوه إلى السماك، فشج مرادع أبراجها، وأسمع صوتَ عجيجها صُمَّ أعلاجها، ورفع مثار عجاجها، فأخلى السور من السيارة، والحرب من النظارة، فأمكن النَّقاب، أن يسفر للحرب النقاب، وأن يعيد الحجر إلى سيرته من التراب، فتقدم إلى الصخر فمضغ سرده، بأنياب معوله، وحل عقده بضربه الأخرق الدال على لطافة أنمله، وأسمع الصخرة الشريفة حنينه واستغاثته إلى أن كادت ترق لمقبله، وتبرأ بعض الحجارة من بعض، وأخذ الخراب عليها موثقاً فلن تبرح الأرض، وفُتح في السور بابٌ سد من نجاتهم أبواباً، وأُخذ نقبٌ في حجره، قال عنده الكافر ﴿يا ليتني كُنْتُ تُراباً﴾ فحينئذ يئس الكفار من أصحاب الدور، كما يئس الكفار من أصحاب القبور، وجاء أمر الله وغرَّهم بالله الغَرور.

وفي الحال خرج طاغية كفرهم وزمام أمرهم ابن بارزان [يقصد الكونت باليان بن باريزان] سائلاً أن يؤخذ البلد بالسلم لا بالعنوة، وبالأمان لا بالسطوة، وألقى بيده إلى التهلكة، وعلاه ذل الملكة بعد عز المملكة، وطرح جبينه في التراب، وكان جبيناً لا يتعاطاه طارح، وبذل مبلغاً من القطيعة لا يطمح إليه طرف آملٍ طامح، وقال: ها هنا أسارى مؤمنون يتجاوزون الألوف، وقد تعاقد الفرنج على أنهم إن هجمت عليهم الدار، وحملت الحرب على ظهورهم الأوزار، بديء بهم فعجلوا، وثني بنساء الفرنج وأطفالهم فقتلوا، ثم استقلوا بعد ذلك فلم يقتل خصمٌ إلا بعد أن ينتصف، ولم يُسلَّ سيفٌ من يدٍ إلا بعد أن تنقطع أو ينقصف، وأشار الأمراء بالأخذ بالميسور، من البلد المأسور، فإنه إن أُخذ حرباً فلا بد أن تقتحم الرجال الأنجاد، وتبذل أنفسها في آخر أمرٍ قد نيل من أوله المراد

وكانت الجراح في العساكر قد تقدم منها ما اعتقل الفتكات، واعتاق الحركات، فقبل منهم المبذول عن يدٍ وهم صاغرون، وانصرف أهل الحرب عن قدرة وهم ظاهرون، ومَلَكَ الإسلامُ خطة كان عهده بها دمنة سكان، فخدمها الكفر إلى أن صارت روضة جنان، لا جرم أن الله أخرجهم منها وأهبطهم، وأرضى أهل الحق وأسخطهم، فإنهم خذلهم الله حموها بالأسل والصفاح، وبنوها بالعمد والصفاح، وأودعوا الكنائس بها وبيوت الديوية والاستبارية منها كل غريبةٍ من الرخام الذي يطرد ماؤه، ولا يطرد لألاؤه، قد لطف الحديد في تجزيعه، وتفنن في توشيعه، إلى أن صار الحديد الذي فيه بأس شديدٌ، كالذهب الذي فيه نعيم عتيد، فما ترى إلا مقاعد كالرياض لها من بياض الترخيم رقراق، وعُمداً كالأشجار لها من التنبيت أوراق.

وأوزع الخادم بردِّ الأقصى إلى عهده المعهود، وأقام له من الأئمة من يوفيه ورده المورود، وأقيمت الخطبة يوم الجمعة رابع شهر شعبان، فكادت السموات يتفطرن للسجوم لا للوجوم، والكواكب ينتثرن للطرب لا للرجوم، ورُفعت إلى الله كلمة التوحيد وكانت طرائقها مسدودة، وطُهِّرت قبورُ الأنبياء وكانت بينهم بالنجاسات مكدودة، وأقيمت الخَمس وكان التثليث يقعدها، وجهرت الألسنة بالله أكبر وكان سحر الكفر يعقدها، وجُهِرَ باسم أمير المؤمنين في قطبه الأقرب من المنبر، فرحب به ترحيب من بر بمن بر، وخفق علماه في حفافيه، فلو طار به سروراً لطار بجناحيه.

وكتاب الخادم وهو مُـجِدٌّ في استفتاح بقية الثغور، واستشراح ما ضاق بتمادي الحرب من الصدور، فإنَّ قُوى العساكر قد استُنفِدت مواردُها، وأيامُ الشتاء قد دمرت مواردَها، والبلاد المأخوذة المشار إليها قد جاست العساكر خلالها، ونهبت ذخائرها وأكلت غلالها، فهي بلاد تُرفد ولا تسترفد، وتجم ولا تستنفد، وينفق عليها ولا ينفق منها، وتجهز الأساطيل لبحرها، وتقام المرابط لبرها، ويدأب في عمارة أسوارها ومرمات معاقلها، وكل مشقة فهي بالإضافة إلى نعمة الفتح محتملة، وأطماع الفرنج فيما بعد ذلك مذاهبها غير مرجئة ولا معتزلة، فلن يدعو دعوة يرجو الخادم من الله أنها لا تسمع، ولن تزول أيديهم من أطواق البلاد حتى تقطع.

وهذه البشائر لها تفاصيل لا تكاد من غير الألسنة تتشخص، ولا بما سوى المشافهة تتلخص. فلذلك نفذنا لساناً شارحاً، ومبشراً صادحاً، ينشر الخبر على سياقته، ويعرض جيش المسرة من طليعته إلى ساقته.

وبعد استعراض كتاب صلاح نعود فنقول: إن كان سقوط القدس ومعها المسجد الأقصى في سنة 592 نتيجة طبيعية للضعف والفرقة التي دبت بالدول الإسلامية القائمة في تلك الفترة فجذبت الأطماع الكامنة في الفرنج، فقد تمزقت الدولة الإسلامية الموحدة إلى جناحين شرقي عباسي في العراق، وغربي فاطمي في مصر وليبيا وتونس، وكانتا تتجاذبان بلاد الشام فيما بينها، وكانت كلتاهما لا تخلو من المشاكل الداخلية، ففي مصر كانت الدولة الفاطمية في عصر ضعفها، والخليفة صورة يتحكم بها الوزراء الذين تسموا بأسماء الملوك، وكان المستنصر الفاطمي، معد بن علي، المولود سنة 420 قد بويع له وهو طفل بعد موت أبيه سنة 427، وقام بأمره وزير أبيه أبو القاسم على بن أحمد الجرجرائى، ثم تغلبت أمه على الدولة، فكانت تصطنع الوزراء وتوليهم، ومن استوحشت منه أوعزت بقتله، فيقتل، ولهذا الضعف قُطِعت الخطبة باسمه في إفريقية سنة 443، وقُطِع اسمه من الحرمين سنة 449 وذُكِر اسم المقتدى العباسي الخليفة في بغداد، ثم حدثت مجاعة في مصر استمرت 7 سنين حتى بيع رغيف واحد بخمسين دينارا، وكان المستنصر كالمحجور عليه في أيام وزيره بدر الجمالي وابنه شاهنشاه إلى أن توفي سنة 487.

وكان المستنصر قد عهد بولاية العهد لابنه الكبير نزار الملقب بالمصطفى لدين الله، والمولود سنة 437، ولكن الوزير الأفضل شاهنشاه الجمالي أبعد الكبير وأتى بالابن الصغير معد المولود سنة 469، والذي تلقب بالمستعلي، ليكون تحت سيطرته، وهرب نزار بعد موت أبيه إلى الاسكندرية، وفيها أنصار له بايعوه، وبايعه أهلها، وأتته بيعة قلاع الإسماعيلية وطوائف من بلدان أخرى، ولكن قائد الجيوش الأفضل الجمالي تبعه إليها وحاصرها، وكانت بينه وبين نزار والإسكندريين وقائع انتهت بفوز الأفضل سنة 488، وحُمِلَ نزار إلى المستعلي فبنى عليه حائطا، أو جعله بين حائطين، إلى أن مات.

ويزعم بعض مؤرخي النزارية أنه فر من الإسكندرية لما دخلها الأفضل، ووصل إلى قلعة ألموت من نواحي قزوين، ومات فيها بعد أن أوصى بالإمامة إلى ابنه علي، وهذا أصل الانقسام في الطائفة الإسماعيلية بين مستعلية، ومنهم طائفة البُهرة في الهند، ونزارية الذي يتزعمهم الآغا خان.

وكان القدس الشريف مع الأمراء الأرتقيين، وهم بقايا من الدول التي خلفتها الدولة السلجوقية التي قامت في أواخر القرن الرابع الهجري، وتأسست على الجهاد المتواصل والذب عن الخلافة وأهل السنة، وامتد ملكها من أواسط آسيا إلى غربها، واستولت على بغداد والعراق، ثم تفتتت فيما بعد وانبثقت منها دويلات عدة، كان منها الدولة الأرتقية، وذلك نسبة إلى الأمير أرتق الذي كان أحد قواد السلاجقة، والذي ملك بيت المقدس زمناً ثم ملكها من بعده ابنه سكمان، فهاجمه الوزير الفاطمي الأفضل الجمالي في سنة 489 وانتزعه منه، وسار سكمان إلى الجزيرة الفراتية فملك بها ديار بكر وقلعة ماردين واستقر بها عام 491، وبقيت الدولة الأرتقية عدة قرون إلى القرن الثامن الهجري.

وكانت الحملة الصليبية الأولى قد بدأت في أواخر سنة 490 وحاصرت أنطاكية حتى أخذتها في منتصف 491، ثم سارت جنوباً فحاصرت بيت المقدس نيفاً وأربعين يوماً حتى أخذته في شعبان سنة 492، واستباح الفرنج البلد وقتلوا فيه ما يزيد على سبعين ألفاً من المسلمين دون رحمة بصغير أو امرأة أو عجوز.

وينحي المؤرخون باللوم على أمير الجيوش الأفضل الذي لم يستوعب أبعاد الخطر الداهم، ويرون أن الأرتقية كانوا أقدر من الفاطميين على الدفاع عن بيت المقدس، لكونهم دولة تأسست على الكر والفر، ولم تنس أصولها وبقيت محافظة على تقاليدها الجهادية، وهذا لا يعني أن الدولة الفاطمية لم تحاول استرجاع بيت المقدس فقد قام الأفضل بعد شهر من سقوطه بتجميع جيش في مصر اتجه شمالاً ولكن الصليبين فاجؤوه في عسقلان وهزموه هزيمة منكرة لم يفكر بعدها في مهاجمتهم ثانية، فتوطدت أقدامهم في الأراضي المقدسية.

ولنستبين هزال الدولة الفاطمية نذكر أن المستعلي توفي في أوائل سنة 495، وأن الوزير الأفضل جاء بابن المستعلي البالغ من العمر 5 سنوات، وهو أبو علي المنصور، وجعله خليفة على البلاد، ولقبه الآمر بأحكام الله، ولم يكن في من تسمى بالخلافة قط أصغر منه، ولذا لا غرابة أن نجد أن الفرنج تابعوا توسعهم وأخذوا عكا في منتصف سنة 497، ثم طرابلس في آخر سنة 502 وتابعوا منها احتلالهم للسواحل الشامية.

أما استرجاع صلاح الدين للقدس، فقد أرسى أساساته نور الدين زنكي في جهاده الذي استمر 28 سنة دون كلل أو توقف، وتبينت عزيمته في ذلك عندما طلب قبل وفاته بسنوات من الصناع في حلب أن يصنعوا منبراً ليضعه في المسجد الأقصى بعد تحريره، وبعد وفاة نور الدين الشهيد في سنة 569=1174 ورث صلاح الدين دولته وتابع مسيرته التي دامت 14 سنة حتى تحريره المسجد الأقصى.

وتابع صلاح الدين خطة نور الدين في توحيد الدويلات الإسلامية تحت قيادته، واستمر في الجهاد الذي بدأه نور الدين ضد الفرنج، ولكن تأييد الأمراء الزنكيين في حلب والموصل للسلطان الجديد كان سلبياً في أغلب الأحيان وفاتراً في أفضل الأحوال، ولم يكن من الممكن معه خوض معركة كبيرة حاسمة مع الصليبيين، ولذا اتجه صلاح الدين في أول سنينه للتحالف مع السلاجقة وأدخل حلب تحت سلطته في سنة 578 ثم أخضع الموصل بعدها بسنتين، وهكذا ضَمِنَ أنه لن يواجه أي تهديد محتمل من وراء ظهره، وزادت قواته العسكرية بضمه هاتين المدينتين الهامتين، واستخدم صلاح الدين في ذلك أسلوب نور الدين زنكي الذي هو مزيج من المفاوضات السياسة والدعاية الإعلامية ثم التحركات العسكرية، وقيض الله له أخاه الملك العادل وكاتبه القاضي الفاضل اللذان تحملا أعباء إدارة الدولة.

ولم يقتصر نشاط صلاح الدين على إمارتي حلب والمشرق، بل امتد إلى الدول الأخرى، فقد طلب من مدينتي البندقية وجنوة تحويل تجارتها إلى الإسكندرية ليحرم الفرنج من هذه التجارة ومن تأييد هذه المدن، وأقام اتصالات مع الإمبراطوربة البيزنطية التي كان إمبراطورها أندرونيكوس كومنينوس على عداوة تاريخية مع الصليبيين الذين كثيراً ما عانت منهم الإمبراطورية البيزنطية، وأثمرت هذه الاتصالات عن اتفاق جعل الصليبيين على توجس من بيزنطة.

وفي جانب الفرنج الصليبيين كانت هناك عدة عوامل داخلية ساهمت في تفرقهم واستفاد منها صلاح الدين استفادة كبيرة، ويمكن أن نصنف الفرنج إلى قسمين: قسم صارت له جذور في المنطقة وعرف أهلها ولغتهم وعاداتهم وتطبع بكثير منها، وقسم مغامر أتى بحثاً عن ثروة طارئة ومجد يحاوله.

وكان الكونت ريموند الثالث صاحب طرابلس البالغ من العمر 34 عاما، زعيمَ القسم الأول، فقد كان أسيراً لدى المسلمين فترة طويلة، فصار يعرفهم جيداً، ومارس معهم سياسة تراوح بين الصد وبين المصالحة، وعلى صعيد شخصي كان ريموند يتميز برباطة الجأش البالغة.

وأما القسم الثاني من القادمين الجدد الذين يطمعون بالمغامرات والحصول على الأملاك، والذين لا يقيمون للمسلمين أي وزن أو اعتبار، فيمثله خير تمثيل الأمير رينولد شاتيون، ويسميه العرب أرناط، فقد جاء من فرنسا في سنة 541 وصار أمير أنطاكية في سنة 547 بزواجه من أرملة أميرها، ووقع في أسر المسلمين في سنة 554 وبقي في الأسر حتى سنة 571، ولما أطلق سراحه صار أمير الكرك بزواجه من أميرة أخرى، وكانت حماقة هذا القائد الصليبي مع صلاح الدين أحد العوامل التي عجلت بمعركة حطين، كما كانت حماقته مع أمراء الصليبيين أحد أسباب التخلخل والفرقة التي اعترتهم، رغم وقوفهم إلى جانبه عندما هاجمته قوات صلاح الدين مرتين في الكرك.

ففي أول سنة 583 هاجم أرناط خلال فترة سريان الهدنة قافلة عربية كانت في الطريق من دمشق إلى مصر، ولم يكن صلاح الدين ليسكت عن التهديد المستمر للطريق الرئيسي الذي يصل الشام بمصر ويمر عبر شرقي الأردن، وأعلن الحرب على أرناط الذي سبق وأنزل خمس سفن في البحر الأحمر حاصرت ميناء أيلة وهاجمت السفن المسلمة في البحر وهددت بمهاجمة مكة، واستمرت بذلك حتى جهز صلاح الدين أسطولاً قضى عليها.

وطالب صلاح الدين ملك القدس الصليبي بالدوين الرابع أن يكبح جماح هذا المارق ويعوض المسلمين عن القافلة المنهوبة، ولكن الملك كان أضعف من أن يأبه له أرناط الذي أجابه إن شرقي الأردن لم تدخل في الهدنة مع العرب، وأنه في هذه المنطقة الحاكم مثلما الملك في مملكته.

وقادت هذه المواقف إلى معركة حطين في 24 ربيع الآخر من عام 583=3 تموز/يوليو 1187، والتي واجه فيها جيش صلاح الدين بفرسانه البالغ عددهم 12.000 فارس جيش الفرنج الذي بلغ عدده 18.000 جندي منهم 5.200 فارس عديد منهم يرتدون الدروع الثقيلة، وكان لهم تأثير كبير في المعركة عندما تسنح لهم الفرصة للهجوم على المسلمين في صف متراص.

وكان الأسلوب الصليبي في مواجهة صلاح الدين قد قام منذ فترة على تفادي معركة طويلة معه، وذلك بالتحرك من موقع إلى موقع حتى يبدأ جنوده بالتذمر ويبدون رغبتهم في الرجوع إلى بلدانهم بسبب المواسم الزراعية، وكان هذا الأسلوب ناجحاً لأن جزءاً كبيراً من جنود صلاح الدين كانوا جنوداً موسميين يشبهون الاحتياطي الذي يستدعى في أيامنا هذه، ونجح هذا الأسلوب مع صلاح الدين بوجه خاص كذلك لاختلاف شخصيته في ليونته ورقة نفسه عن شخصية نور الدين الحازمة القاطعة.

جيش صلاح الدين - عن مخطوطة إفرنجية في ذات الحقبة

ولكن صلاح الدين هذه المرة سعى لجر الفرنج للمعركة بسرعة من خلال مهاجمته طبرية، ورغم معارضة بعضهم لإنجاد طبرية إلا أن أغلبية قادة الفرنج أصرت على ذلك، فساروا نحو طبرية عبر هضاب الجليل تحت أشعة الشمس المتوهجة، في معاناة شديدة من العطش، وتعرضوا لدخان الأحراش التي حرقها المسلمون، ولما وصلوا إلى حطين في المساء وعسكروا فيها، طوقهم جيش صلاح الدين وهزمهم هزيمة منكرة لم يسبق لها مثيل في تاريخ الدويلات الصليبية، ووقع عدد كبير من ملوكهم ورؤسائهم في الأسر، منهم أرناط الذي أبر اصلاح الدين قسمه وضرب عنقه بيده.

وبعد هذه المعركة الحاسمة لم يبق لدى الصليبيين في المدن والحصون سوى حاميات قليلة العدد، وتساقطت المدن والحصون في يد صلاح الدين الواحد تلو الآخر، ولما كان الفرنج يثقون بشروطه التي حددها للاستسلام، فقد سهل عليهم عملية التسليم، وهكذا سقطت عكا بعدها بأسبوع وتلتها بعد شهر عسقلان، واستسلمت القدس بعد حصار دام أسبوعين، وكان صلاح الدين مثال المنتصر الرحيم، فقد سمح لمن أراد الخروج من القدس مقابل أتاوة محددة بسيطة، وسامح من لم يكن لديه مال، وسمح لأربعة قساوسة من طائفة السريان، ذات الجذور المحلية، بأداء صلواتهم عند القبر المقدس، فقد كانت علاقات صلاح الدين مع الطوائف المسيحية المحلية على خير ما يرام.

صلاح الدين يحاصر القدس - عن مخطوطة إفرنجية

وتابع صلاح الدين استثمار انتصاره في الساحل والداخل، وطهر الداخل تماماً من الصليبيين، ولكنه لم يستطع تحرير طرابلس وحصون الشاطئ السوري، وقاومه المركيز مونتفرات في صور مقاومة صلبة ناجحة ودمر أسطولاً أرسله صلاح الدين لحصار المدينة من البحر، وخرجت من يده عكا سنة 587 بعد أن اجتمع لحربه ملكا فرنسا وإنكلترا بجيشيهما وأسطوليهما، وعقد الصلح بينه وبين الملك الإنكليزي ريتشارد قلب الأسد على أن يحتفظ الفرنج بالساحل من عكا إلى يافا، وأن يسمح لحجاجهم بزيارة بيت القدس، وأن تخرب عسقلان ويكون الساحل من أولها إلى الجنوب لصلاح الدين.

ومات صلاح الدين في 27 من صفر من سنة 589، عن 67 سنة، وأمنيته الكبرى التي ينقلها المؤرخ ابن شداد عنه: متى ما يسر الله تعالى فتح بقية الساحل قسَّمت البلاد، وأوصيت، وودعت، وركبت هذا البحر إلى جزائره، أتبعهم فيه حتى لا أبقي على وجه الأرض من يكفر بالله أو أموت .

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين