فن إدارة الخلاف بين النص والواقع

أزعم أن فكرة إدارة الخلاف هي أهم وأخطر مفصل في حياة الأمة بعامة والعمل الإسلامي بخاصة لأن هذا الخلاف والاختلاف مرض تاريخي في أمة الاسلام قديما وحديثا أفضى إلى تنازع مرضي حذر الله تعالى منه .

إن كل مخرجات الأنشطة الحيوية للأمة والعمل الاسلامي الأخلاقية والسياسية والتنظيمية والثقافية ..... الخ محكومة بهذه المسألة ، وقد استطاع عباقرة الفلسفة والتقنين الغربيون أن يخترعوا أو يطوروا آليات وطرائق لإدارة الخلاف حتى تم لهم أهم إنجاز حضاري وهو فض الاشتباك الدامي طويل الأمد ( الديني والعرقي ) لتنعم تلك المجتمعات بالاستقرار الذي أوجد بيئة آمنة للمبادرة وتنمية الحياة.

إن فلسفة التسامح التي اشتغل بها وعليها الفلاسفة والمفكرون الغربيون ( جون لوك وفولتيير وروسو وغوتيه ومونتسكيو وآخرون ) هي التي أوجدت ثقافة سائدة هيأت الانسان ( لتحمل وقبول الاخرالمختلف) ، ووجود عقد اجتماعي بين الناس على أن الحوار وحرية الاختيار وصندوق الاقتراع أدوات لتنزيل فكرة التسامح الى أرض الواقع لإدارة الخلاف ، والاتفاق على القبول بحكم الغالبية ومشاركة المعارضة على أن تكون سلمية ، والاتفاق على نبذ العنف المادي والمعنوي، وكذلك نبذ التحريض عليه، لانتفاء مبرراته، فسحبت الذريعة فأصبح العنف ودعاته مكشوفين أمام انفسهم وأمتهم ، ونمت الحياة المنتجة تحت سقف القانون الجامع .

وإذن هي ثقافة أولا وطرائق وأدوات ضبط وتنظيم ثانيا .

إن ثقافة التنوع تحتاج الى وقت وخبرة وهذا صحيح وأزعم أن العمل الاسلامي أخذ وقتا كافيا لتنضج التجربة ويظهر عطاؤها الجميل فهل حصل ذلك ؟ 

وأعترف أن الأمر نسبي يختلف من بلد إلى آخر ، ومن حالة إلى أخرى .

لايكفي أن يدعي المسلمون وجود النص الداعي للتسامح والعفو والتحذير من فساد ذات البين كقوله صلى الله عليه وسلم :

(إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث، ولا تجسسوا، ولا تحسسوا، ولا تنافسوا، ولا تحاسدوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخوانا ولا يخطب الرجل على خطبة أخيه حتى ينكح أو يترك ) ( متفق عليه) عن أبي هريرة.

وقوله سبحانه :

{خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ(199)} [سورة الأعراف]

{وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنتَصِرُونَ (39) وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} (40)وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُوْلَئِكَ مَا عَلَيْهِم مِّن سَبِيلٍ (41) إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُوْلَئِكَ لَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ (42) وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (43)} [سورة الشورى]

{وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ(126)} [سورة النحل].

{وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ(37)} [سورة الشورى].

{وَلَا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنكُمْ وَالسَّعَةِ أَن يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ(22) } سورة النــور في قصة أبي بكر مع مسطح متهم عائشة أم المؤمنين

ولا يكفي أن يطلق شعار ( فلنتعاون فيما اتفقنا عليه وليعذر بعضنا بعضا فيما اختلفنا فيه )

و ( رأيي صواب يحتمل الخطأ ورأيك خطأ يحتمل الصواب )

و ( ويجب أن لايفسد الخلاف للود قضية )

كلها أدبيات ايجابية ولكن ماهو رصيدها في أرض الواقع ؟؟

المسلمون يقتل بعضهم بعضا ( باسم الله ) في كثير من بلاد الاسلام ، بل يستخدم من يقال عنهم أنهم أعداء الأمة بعض المسلمين لقتل بعضهم بعضهم الآخر .

أما الجماعات الإسلامية فخلافاتها وتباغضها وتدابرها وصراعاتها وعصبياتها أصبحت لاتخفى على صديق ولا عدو .

حتى داخل صف الجماعة الواحدة توجد محاور ومراكز قوى وعصبيات شخصية ومناطقية وعرقية ومصلحية .... وتكاد لاتسلم جماعة من ذلك .

مما تقدم تتجلى بوضوح أهمية التنظير والكلام العلمي العميق والدقيق في موضوع ( ثقافة وتقنيات إدارة الخلاف ) في الجمع بين ثقافة النص الإسلامي وتجلياته التاريخية الصحيحة وبين ثقافات وتجارب الأمم الأخرى ، مع الاهتمام الشديد بالتدريب على الحوار وآدابه وأخلاقياته في كل وحدات المجتمع من صغيرها إلى كبيرها وأول من ينبغي أن يهتم بذلك هم العاملون في حقول الإصلاح الاسلامي والثقافي . 

أما فقه وأحكام إدارة الخلاف فهو امتداد لهذه المقالة قد أنشره مستقبلا باذن الله .

والله الموفق

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين