الأحقاد لا تبني حضارات

نشر موقع ليبانون فايلز مقالا خاصا بالموقع لكاتب اسمه (جورج برباري) بعنوان: (آيا صوفيا: كنيسة فمسجد فمتحف) سمح فيه لنفسه بذكر أمور تاريخية لا تمت إلى الحقائق بصلة، وإنما هي تخيلات تراجيدية ودرامية تهدف فقط إلى بث الحقد والكراهية ضد الأتراك وتاريخهم الإسلامي الناصع، وبخاصة فيما يتعلق بفتح القسطنطينية وما تبعه من أحداث.

بالنسبة لنا نحن المسلمون،فإن السلطان محمد الفاتح رحمه الله تعالى يعتبر مفخرة التاريخ والإنسانية، وما ذكره كاتب المقال من تخيلات لا يغير من الحقائق شيئا. وعلى العكس تماما فإن النصوص التي كتبت بيد مؤرخين بيزنطيين عاصروا الحادثة تكذب ما جاء في المقال.

شهادة مؤرخ بيزنطي عاصر الحدث:

يقول المؤرِّخ الرومي (جرجس سفرانتزس) الذي كان شاهدًا على الفتح الإسلامي للمدينة:

«في اليومِ الثالثِ لسقوط مدينتنا، احتفل السُلطان بنصره احتفالًا عظيمًا، ثُمَّ أصدر فرمانًا ينصُّ فيه على خروج جميع الأهالي الذين نجحوا في التواري عن الأنظار إلى العلن، وأن يعودوا إلى بيوتهم وتُصان حُريَّتهم ولا يُكرهون على شيء. كما أمر بإعادة جميع البيوت والمُمتلكات إلى أصحابها الذين هجروها بهجرهم المدينة قُبيل ضرب الحصار عليها، إن عادوا إلى القُسطنطينيَّة، وإنَّهم بحال عادوا فسوف يُعاملون وفق مرتبتهم التشريفيَّة والدينيَّة كما جرت عليه الأعراف الروميَّة السابقة، وكأنَّ شيئًا لم يتغَيّر» .

مصادر كاتب المقال:

أما ما ذكره كاتب المقال، فجاء نقلا عن الجرَّاح البُندقي (نقولا باربادو) من قوله: «إنَّ العُثمانيّين ارتكبوا مذبحةً عظيمة بالمسيحيين من أهل المدينة، وأشار آخرون أنَّ الآلاف منهم قُتلوا، وسُبي أو نُفي حوالي 30,000 آخرون».

هذا مع العلم أنه من سياق الكلام ندرك أن كاتبه متأخر جدا عن زمن الحدث، وهو إنما ينقل بالواسطة ودون بيان مصادره (وأشار آخرون). وفرق كبير بين نقل من مصدر أصيل عاش الحدث، وبين ناقل متأخر يروي بقلبه لا بعلمه. هذا عدا عن كونه شخصية غير معروفة تاريخيا. ويرحم الله تعالى المؤرخ اللبناني الصادق المتجرد أسد رستم صاحب المقولة المهمة: «إذا ضاعت الأصول ضاعت التواريخ».

والحقيقة أن هذا الجراح الجينوي، إن صحت شخصيته وثبت كلامه، إنما أراد أن يبيض صفحة الجينويين الجبناء الذي تقاعسوا عن نصرة ملك القسطنطينية عندما استنجد بهم، كما تقاعست سائر أوروبا عن نصرتهم، حتى إن البابا اشترط لمساعدة القسطنطينية اتحاد الكنيستين الكاثوليكية والأرثوذكسية تحت سلطة البابا، وأرسل لهذه المناسبة أحد رجال الكنيسة وخطب في كاتدرائية آيا صوفيا خطابا اشمأزت منه نفوس البيزنطيين حتى قال رئيس الوزارء البيزنطي الأرشيدوق (نوتاراس) جُملته التاريخيَّة المشهورة: «إنَّني أُفضِّلُ أن أُشاهِدَ في دِيارِ البيزنطِ عَمائِمَ التُركِ على أن أُشاهِدَ القُبَّعةَ اللَّاتينيَّة».

أما الذي فعله السلطان محمد الفاتح بعد الفتح فهو ما نصت عليه كتب التاريخ الموثوقة، ومختصره:

- أنه عمل على تشجيع بقاء الجالية الجنويَّة، التي كان لها دورٌ كبير في تنمية التجارة، فأبقى ما كان للجنويين من امتيازات وزاد عليها، فكانوا بذلك أداة لنموِّ ثروة المدينة من جهة، وواسطة الاتصال بالدُول الأوروپيَّة من جهةٍ أُخرى.

- نهج سياسة التسامح الديني حتّى يتسنّى له الاستفادة من العناصر المسيحيَّة التي أضحت تُكّون رعيَّة السُلطان المسؤولة عن استثمار البلاد، ولهذا أبقى المسؤوليَّات الدينية للأرثوذكس في يد الكنيسة، وعلى رأسها بطريرك الروم.

- وكان السُلطان قد عزل البطريرك المسكوني، وطلب من المجلس الروحاني أن يجتمع لانتخاب بطريرك جديد بدلًا من السَّابق نظرًا لتأييده البابا في الاتحاد الكنسيّ، فانتخبوا (جورجيوس سكولاريوس)، واعتمد السُلطان هذا الانتخاب، واحتفل بتثبيت البطريرك الجديد بنفس الأُبَّهة والنظام الذي كان يُعمل للبطاركة في أيَّام القياصرة الروم، وأعطاهُ حرسًا من عساكر الإنكشاريَّة ومنحهُ حقّ الحُكم في القضايا المدنيَّة والجنائيَّة بكافَّة أنواعها المُختصَّة بالروم، وعيَّن معه في ذلك مجلسًا مُشكَّلًا من أكبر موظفي الكنيسة .

- ولم يكتفِ السُلطان بالسماح لبطريركيَّة الروم بمُمارسة أنشطتها فحسب، بل سمح للطائفة اليهودية بامتلاك الكُنس، وترك للأرمن حُريَّة اختيار بطريرك على رأس الطائفة الأرمينية، وكان كِلا الأمرين محظورًا خلال العهد البيزنطي .

ومما جاء في فرمان السُلطان مُحمَّد الفاتح المُوجَّه إلى اليهود والنصارى من أبناء المدينة: «لِيَعش اليهودُ فيها وليأكلوا من أرضها، ويستوطنوا أفضل أماكنها، وينعموا بثروة البلاد من أنعام وفضَّة وذهب، وليرتقوا منزلة العرش العالي».

ومما يؤسف له أنه عندما كتبت ردا على كاتب المقال في صفحة الموقع أذكر فيه الحقائق قاموا بإزالته، مما يؤكد إنصافهم ومهنيتهم.!!

وعلى كل حال أكرر ما قلته على موقعهم متوجها إلى كاتب المقال: هل تريدون أن نذكركم بمذابح الصليبيين في بيت المقدس وسائر بلاد المسلمين؟ أم تريدون أن نذكركم بمحاكم التفتيش في الأندلس؟ أم بمساجدها التي حولت إلى كنائس؟ 

هذه النفسيات لا تبني حضارات، وإذا أصريتم على تأجيج نار الأحقاد الدينية والتاريخية فأنتم أول من سيحترق بها.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين