تقويم جهود ابن حزم ومنهجه في مجال التشريع الإسلامي (2)

وقد رفض ابن حزم من مصادر التشريع الإسلامي ما ذكره الأصوليون –بعد الأصول السالفة الذكر- وهي:

1- القياس:

فإن ابن حزم ينكر أن يكون تقدير فرع على أصل أو نظير على نظيره لمشابهته في علة(1) أصلاً تشريعيَّاً، وهو يعتبر ذلك لوناً من الرأي. والقول في الدين بالرأي عنده حرام (لأن أحداً من الصحابة لم يصحح أحد منهم القول بالرأي قط، بل قد يثبت عن الصحابة ذم الرأي(2).

وقد أورد ابن حزم الأدلة التي ساقها القائلون بالقياس. ورد عليها.. فقد احتجوا بأدلة فعلية كقوله تعالى: [قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ] {يس:79} وكقوله تعالى [فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا] {الإسراء:23} وكقوله تعالى: [وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ] {الإسراء:31} (3) ففي هذه الآيات أقيسة من وجهة نظرهم.

كما أنهم احتجوا بأدلة عقلية كقولهم: لما رأينا البيضتين إذا تصادمتا تكسرتا علمنا أن ذلك حكم كل بيض لم ينكسر.. فهذا قياس(4).

واحتجوا بأدلة تاريخية كإجماع الصحابة على تقديم أبي بكر قياساً على تقديم النبي له. وكقتال أبي بكر لما نعى الزكاة قياساً للزكاة على الصلاة.

وقد رد ابن حزم على هذه النصوص بدلالة بالغة. وبإيراد النصوص الأخرى المتعلقة بهذه القضايا والتي لم يستطع أصحاب القياس الاهتداء إليها(5). ثم بنصوص حرم القرآن فيها القياس مثل قوله تعالى:[أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ] {المائدة:3} وقوله سبحانه: [وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ] {الإسراء:36} (6).

ولم يكتف ابن حزم بالرد على أصحاب القياس، بل أتى بقضايا أوجبت –عقلياً- القياس، لكن القياس لم يصح فيها شرعاً. كما أن أصحاب القياس لم يقيسوها، أو قاسها بعضهم وامتنع آخرون عن قياسها(7).

2- الاستحسان:

يعتبر ابن حزم الاستحسان من باب القول في الدين بالرأي والهوى الباطل(8)، وسواء زعم المستحسن أنه إنما استحسن للصالح العام (المصالح المرسلة) أو لمصلحة محددة بموقف، فاستحسانه –أي رأيه الذي يميل إليه دون دليل(9)- مرفوض لأنه ليس استحسان فقيه أولى بالاتباع من استحسان آخر، ولو صار الدين إلى هذا لكان لكل أحد أن يشرع باستحسان ما شاء(10) فإن أوردوا: (ما رآه المسلمون حسناً)- فهذا حديث موقوف. ولو صح لما كان لهم فيه متعلق لأن ما رآه المسلمون حسناً هو الإجماع ولم يقل ما رآه بعض المسلمين(11).

3- التعليل:

وكما ينكر ابن حزم القياس والاستحسان ينكر القول في الدين بالتعليل. والتعليل اسم لما يتغير الحكم الشرعي بتغيره(12).

قال ابن حزم: (ويكفي من هذا كله –أي إنكار التعليل- أن جميع الصحابة رضي الله عنهم أولهم عن آخرهم وجميع التابعين. وجميع تابعي التابعين ليس منهم أحد قال: إن الله تعالى حكم في شيء من الشريعة لعلة، وإنما ابتدع هذا القول متأخرو القائلين بالقياس)(13).

(ولسنا ننكر وجود أسباب لبعض أحكام الشريعة بل نثبتها ونقول بها لكننا نقول: إنها لا تكون أسباباً إلا حيث جعلها الله تعالى أسباباً، ولا يحل أن يتعدى بها المواضع التي نص فيها على أنها أسباب)(14).

وقد أورد ابن حزم –كما هو الشأن في منهجه- ما ذكره القائلون بالعلل سواء من أدلة نقلية، كفهمهم لقول الله تعالى: [لَا تَنْفِرُوا فِي الحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا] {التوبة:81} وكفهمهم لآية الصيام:[يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ] {البقرة:183}، وكفهمهم لآية القصاص:[وَلَكُمْ فِي القِصَاصِ حَيَاةٌ] {البقرة:179}، وغيرها من الآيات(15)- كما تتبع ابن حزم ما ذكروه من أدلة عقلية، ورد عليها بالتفنيد والنقد(16).

4- الذرائع:

يقصد بسد الذرائع منع التوسل إلى فعل الممنوع(17) وذلك كالنظرة بالنسبة للزنا وكسائر المشتبه في حرمته، أو ما يمكن أن يؤدي إلى الحرام.

وقد أنكر ابن حزم الاجتهاد عن طريق الذرائع، لأن ذلك النوع باب من أبواب الرأي. وهو ينكر الرأي بكل شعبه(18).

وهو يتعقب أدلة مخالفيه، ويورد أدلة خاصة على رأيه كما هي عادته. وقد قصر النصوص التي تفيد المنع من الذارئع على الورع والحصن، لا على الإيجاب واللزوم، واستشهد على رفض الأخذ بالذارئع بآيات منها:[وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ] {النحل:116} ومنها: [وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ] {الأنعام:119} (19).

وقد طبق ابن حزم هذه المعالم الأصولية في منهجه –حين قدم لنا مذهباً فقهياً (حزمياً) عبر موسوعته التي وصلتنا، وهي (المحلى)، إذ أن المحلى قد استغرق سائر أبواب الأصول والفقه، بدءاً من باب (التوحيد) والإيمان والقواعد الحزمية في الأصول، وإلى أن فرغ من سائر أبواب العبادات والمعاملات في مسائل أهل الذمة وأنواع التعذير.

وقد حمل هذا الكتاب بين دفتيه مذهب ابن حزم الفقهي الذي تدعوه (بالحزمية الظاهرية) مقارناً إياه بالمذاهب الأخرى، ولم تكن المنية قد تركت لابن حزم فرصة إتمامه، فإنه لم يكتب فيه إلا (2028) مسألة من مجموع مسائله البالغة (ألفين وثلاثمائة واثنتي عشرة مسألة). والمسائل الباقية وهي تبدأ من مسألة رقم (2029) (وأما الدية في قتل الخطأ فعلى العصبية وهم العاقلة)(20). اختصرها ابنه أبو رافع من كتاب الإيصال الذي لم يصل إلينا.

وإنه لمما يجعلنا ندرك مدى جهود ابن حزم في ميدان الفقه أن المحلى الذي تبلغ صفحاته نحو (7050) صفحة من القطع المتوسط ويقع في ثلاثة عشر جزءاً(21). إنما كتبه ابن حزم (شرحاً مختصراً للمسائل التي جمعناها في كتابنا الموسوم بالمحلى نقتصر فيه على قواعد البراهين بغير إكثار، ليكون مأخذه سهلاً على الطالب والمبتدئ) (22).

ومع ذلك، فهذه الموسوعة (المحلى) اعتبرت من أعظم المدونات لاجتهادات السلف رضوان الله عليهم، سواء في باب العقائد أو التشريعات الفرعية. إن كان من الضروري جمع المسائل المتشابهة إلى بعضها (23).

وقد ضمت آراء السلف (12903) آراء، نسبت إلى 546 عالماً سلفياً، منهم من ذكر له ابن حزم أكثر من ستمائة رأي، ومنهم من لم يذكر له إلا راياً واحداً. ويضاف إلى هذه الآراء (250) مسألة (24) لفريق من الصحابة لم يعرف لهم فيها مخالف(25).

وفي ختام حديثنا عن جهود ابن حزم في الفقه وأصوله نستطيع أن نلاحظ ما يلي:

1- أنه طبق ظاهريته تطبيقاً كاملاً، وكان يأخذ بالأدلة التي يسوقها بظواهر ألفاظها.

2- أنه إمام من جملة الأئمة الذين لهم باع طويل في علم الأصول والفقه، وأنه صاحب مدرسة مستقلة.

3- وهو في تجديده واستقلاله وعمقه يشبه الإمام الشافعي ولا سيما من ناحية التزامه بالأثر، كما أنه يتفق في هذا الباب مع الإمام أحمد بن حنبل.

4- ومع ما يبدو في منهج ابن حزم من تضييق، فإن التزامه بالظاهرية قد هداه إلى آراء فقهية، تضمنها المحلى وغيره –اعتبرت سابقة لعصرها، ومن ذلك رأيه في حق المكاتبة للعبد، ومساواة العبد بالحر في عدد الزوجات، ورأيه في الغناء، وفي منع تأجير الأرض، وأن الأرض لمن يزرعها، وفي وجوب إنفاق الزوجة على زوجها، إذا كانت موسرة، وفقاً لما فهمه ابن حزم من ظاهر قول الله تعالى: (ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف)، وكذلك كان ابن حزم رائداً في (الوصية الواجبة) للأقارب غير الوارثين، وإعطاء الحاكم حق تنفيذ الوصية الواجبة في تركة المتوفى حتى ولو قصر فيها.

وعلى رأي ابن حزم اعتمد القانون المصري في وجوب الوصية لفرع الولد المتوفى في حياة أبويه (26)، وقد تناولت هذه القضية بالبسط المواد رقم 76، 77، 78، 79 من القانون المصري رقم 71 لسنة 1946م.

وكل هذه الإضافات تؤكد أن منهج (الحزمية الظاهرية) في التشريع، ليس أقل من غيره من المذاهب، سعة وعمقاً، وإن بدا ضيقاً عند النظرة السطحية، وبالتالي فهو منهج جدير منا بالدرس والتحليل.

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم 

المصدر: مجلة المسلم المعاصر، محرم - صفر - ربيع الأول 1399 - العدد 17، آذار/مارس 1979

الحلقة الأولى هـــنا

===-

(1)انظر الدكتور أحمد شلبي: تاريخ التشريع الإسلامي 160.

(2) ملخص إبطال القياس 22، ويجب أن نذكر هنا أن ابن حزم ينكر صحة حديث معاذ الخاص بالرأي، انظر مخطوط إبطال القياس ورقة 5.

(3) انظر: مخطوط إبطال القياس ورقة 11، وما بعدها، وملخص إبطال القياس ص 23 وما بعدها.

(4) انظر الإحكام 8-1029 والمحلى 1-74.

(5) ملخص إبطال القياس 26 وما بعدها.

(6) ملخص إبطال القياس 27 وما بعدها وانظر أبا زهرة ابن حزم 418 وما بعدها.

(7) المحلى 1-73.

(8) انظر الإحكام 8-1086، 1087.

(9) انظر مخطوطة إبطال القياس ورقة 22.

(10) د. أحمد شلبي: تاريخ التشريع الإسلامي 171.

(11) ملخص إبطال القياس 50.

(12) المكان السابق.

(13) د. عبد الله الزايد بن حزم الأصولي 318.

(14) الأحكام 8-1127.

(15) المكان السابق.

(16) انظر الإحكام 8-1114، 1118، وانظر مخطوط إبطال القياس في الورقة 20 وما بعدها.

(17) انظر الإحكام 8-1129.

(18) د. عبد الله الزايد: ابن حزم الأصولي 542.

(19) محمد أبو زهرة ابن حزم 429.

(20)انظر د. عبد الله الزايد: ابن حزم الأصولي 558-565.

(21) انظر ج 12 ص106.

(22) حسب طبعة مكتبة الجمهورية بمصر بتصحيح زيدان أبو المكارم حسن، وحسن زيدان طلبة سنة 1972 م (ومنها أكثر من ستة آلاف صفحة كتبها ابن حزم بخط يده، والباقي اختصره من الايصال ابنه أبو رافع).

(23)انظر المحلى 1-3 بتصرف.

(24) انظر 

(25) انظر محمد رواس قلعجي: ابن حزم في المحلى مقال بمجلة حضارة الإسلام الدمشقية عدد 6 شعبان 1386هـ.

(26) أكثر أصحاب الآراء ف يالمحلى هم على الترتيب: عمر بن الخطاب وله 623 رأياً، وعطاء وله 602رأياً، والحسن البصري وله 595رأياً، وإبراهيم النخعي وله 560 رأياً، وأبو سليمان وله 540 رأياً. انظر المرجع السابق

(27) انظر الشيخ محمد أبو زهرة: ابن حزم 480.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين