تقويم جهود ابن حزم ومنهجه في مجال التشريع الإسلامي (1)

يقف أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم (384- 456هـ) بأصول التشريع الإسلامي عند أربعة أصول هي: (القرآن، والسنة، والإجماع والدليل).

فالقرآن الكريم هو مصدر المصادر، فما من أصل شرعي إلا كان اشتقاقه من القرآن، فهو الأصل لكل أصل في الإسلام(1) {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ } [النحل:44]. 

وابن حزم يرى أن أصل (البيان) ثابت في القرآن إما بذاته وإما ببيان السنة أو الإجماع.

ويعتبر ابن حزم من أنواع البيان ثلاثة: الاستثناء، والتخصيص، والتوكيد. فالاستثناء والتخصيص مثلما ورد في آية إهلاك قوم لوط.. (إلا آل بيته)، باستثناء امرأته من بينهم. والتوكيد مثل قوله تعالى: {فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً} [الأعراف:142] بعد أن ذكر تعالى ثلاثين ليلة وعشراً (2).

وألفاظ القرآن تفهم بمقتضى الظاهر فيها، إلا إذا قام دليل آخر من نص آخر على غير ذلك، ويكون بياناً للأول.

أما السنة فهي متممة للقرآن في بيان الشريعة (وابن حزم ينظر نظر الشافعي من حيث إنه يعتبر القرآن والسنة جزءين أو قسمين كلاهما يتمم الآخر، ويسميها النصوص)(3). 

وأقسام السنة عند ابن حزم مثلما هي غيره ثلاثة: قول وفعل وتقرير لكنه يرى أن الحجة هي أقوال النبي صلى الله عليه وسلم.. أما الفعل فلا يكون حجة إلا إذا اقترن بقول أو قامت قرينة على قيامه مقام القول، أو كانت تنفيذاً لأمر.

والسنن عنده –من زاوية أخرى- تنقسم قسمين: سنن متواترة، وأخبار آحاد... فالمتواتر (هو ما نقلته كافة بعد كافة لا تقل عن اثنين لم يلتقيا) حتى تبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم (4)، وهذا أثر لم يختلف مسلمان في الأخذ به، وهو نادر. 

وقد أجهد ابن حزم نفسه في البحث عنه فجمع منه نحو ثمانين حديثاً أوردها في المحلى، الذي اعتبره الأصوليون ثروة كبيرة للمحدثين والفقهاء جميعاً. والمتواتر الذي انتهى إليه ابن حزم قد اعتمده من جاءوا بعده من المشارقة والمغاربة (5) أما حديث الآحاد فهو –عنده- ما نقله الواحد عن الواحد واتصل براويه العدول الثقات إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. ويجب الاعتقاد بصدقه والعمل به، وابن حزم يقدم من سيرة الرسول الأدلة على توثيق هذا الحديث، فقد بعث الرسول عليه السلام معاذاً إلى اليمن، وأبا بكر أميراً للحج وأبا عبيدة إلى نجران... وهم آحاد (6).

أما الحديث الموقوف –وهو ما لم يبلغ به إلى النبي صلى الله عليه وسلم، والحديث المرسل وهو ما كان في رواته مجهول- فلا تقوم بهما حجة (7).

ومن مقررات ابن حزم في هذين المصدرين (القرآن والسنة) أنه لا تعارض بين نصوصهما بل نصوصهما متكاملة، وذلك لأنه لا يتصور تعارض ما دام المصدر هو الوحي الإلهي. وأي تعارض يبدو في الذهن إنما مرجعه إلى أنه تخصيص لعام، أو تتمة لمعنى جديد لم يستوفه النص الأول، أو أمر خاص بعد أمر عام، أو نهي خاص بعد نهي عام (8).

ومن مقرراته كذلك أن الأوامر والنواهي الواردة في القرآن والسنة تؤخذ على ظاهرها، أي الوجوب الحتم أو النهي الحتم... ومن هنا فقد انفرد ابن حزم بآراء منها فرضية الزواج على كل مستطيع الباءة والنفقة ولو لم يخش الزنى. وجعل العمرة فرضاً كالحج، وجعل مكاتبة العبد حقاً له فرضاً لازماً إذا طلبها من سيده، وأوجب ترك البيع وقت النداء لصلاة الجمعة، وأوجب حق الماعون للجار... وهذا كله بتأثير الظاهرية التي يلتزمها.

أما الإجماع، وهو المصدر الثالث للتشريع عند ابن حزم الأصولي: فهو إجماع الصحابة (9) قبل تفرقهم في الأمصار، ثم إجماع من يجيء بعدهم يكون تبعاً لإجماعهم.

وما اختلف مسلمان قط في أن ما أجمع عليه الصحابة رضي الله عنهم دون خلاف هو إجماع متيقن مقطوع بصحته(10) وهو إجماع متواتر متصل برسول الله صلى الله عليه وسلم في أمر علم من الدين بالضرورة لا يمكن إلا أن يكون عن نص، بل هو ما أقوى من النص، وهو التوقيف، والتعليم من الرسول صلى الله عليه وسلم(11) فسند الإجماع في النهاية إنما هو النص.

وهذا القيد يخرج صوراً كثيرة من الإجماع قالت بها المذاهب الأخرى، مثل إجماع أهل المدينة (12)، وإجماع أهل الكوفة، وعرف الناس، والإجماع السكوتي(13)، وإجماع الأكثرية(14)، وإجماع أهل العصر من غير عصر رسول الله صلى الله عليه وسلم(15).

والدليل هو الأصل الرابع من أصول ابن حزم والظاهرية –هو أمر مأخوذ من الإجماع أو النص، مولد منهما مأخوذ من دلالتهما وليس حملاً عليهما. أو قياساً إليهما. وذلك كأن يشتمل النص على مقدمتين تركت نتيجتهما فيكون استخراج النتيجة هو الدليل، أو تطبيق عموم فعل الشرط كقوله تعالى (إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف)، أو نفي معنى ضروري يفهم نفيه من النص، أو عدم النص على الشيء، كما هو في باب الاستصحاب الذي يعني أن ما ثبت في الزمن الماضي فالأصل بقاؤه في الزمن الحاضر والمستقبل(16).

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم 

وللمقال تتمة في الجزء التالي

===- 

(1) انظر ابن حزم: النبذ ص 7.

(2) انظر ابن حزم: الإحكام في أصول الأحكام ج 1 ص 80 وما بعدها، وانظر المحلى 1-86.

(3) محمد أبو زهرة: ابن حزم 297.

(4) انظر الكتاني معجم فقه ابن حزم (56).

(5) الكتاني: معجم فقه ابن حزم 56، 57.

(6) ابن حزم المحلى 1-97 وانظر أبا زهرة ص 297 وما بعدها.

(7)انظر ابن حزم: المحلى 1-65، 66 ود. سلام مدكور، مناهج الاجتهاد في الاسلام 708,

(8)انظر أبا زهرة: ابن حزم 138 وما بعدها.

(9) وقد مثل الاجماع السلطة التشريعية بعد عهد الرسول عليه الصلاة والسلام، وقد اعتمد الصحابة فإجماعهم على صحبتهم وفهمهم لنصوص الكتاب والسنة (انظر استاذنا الدكتور أحمد شلبي، تاريخ التشريع الإسلامي 167، 168)

(10) انظر ابن حزم: المحلى 1-70، 71، ود. عبد الله الزايد: ابن حزم 254-256

(11)انظر النبذ ص 13، ود. سلام مدكور: مناهج الاجتهاد 709، وعبد الله الزايد: ابن حزم الأصولي 253، وانظر أبا زهرة 354، وما بعدها.

(12)انظر النبذ ص 16، والكتاني: المعجم 17.

(13)انظر النبذ ص 15.

(14)انظر النبذ ص 65.

(15) انظر النبذ ص 10-11 وانظر أبا عبد الرحمن الظاهري: مصادر التشريع المرفوضة عند أهل الظاهر مقال بمجلة الدعوة السعودية عدد 419 (20/8/1393هـ). وانظر الكتاني: المعجم 17

(16) انظر أبا زهرة: 364 وما بعدها.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين