يو غابت القدوة ـ 1 ـ

 

الحلقة الأولى من:(يوم غابت القدوة).اا

 
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
 
وبعد:
أيها الإخوة المؤمنون الأكارم، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وأسأل الله العلي العظيم أن يجعلني وإياكم ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأن يجعلَ لهذه الكلمات مستقرًّا في قلوبِكم، آمين.
أيها الإخوة والأخوات:
إنها لمصيبةٌ كبيرةٌ أنْ يفقد النشءُ الجديدُ حقَّه من القدوة الصالحة في الآباء والمعلمين، فيحتاجَ إلى أن يتدربَ على منهج الفصل بين كلام المربِّي وسلوكِه، فيتعودَ على ألاَّ يتأثرَ بالفعل إذا جاء مخالفًا للقول عند المربي، ويتدربَ على طريقة الفصل بين النظرية والتطبيق، بحيث يَقبل النظريةَ ويؤمنُ بها ويعملُ بها، دون أنْ يجد أثرَها في المربين، وهـذا في الحقيقة تكليف بما لا يطـاق؛ فأنى للصغار أن يتمكنوا من هذه القدرة الفائقة في حسن الانتقاء عن المربين؟! فيأخذون - بدقة - ما حَسُن من أقوالهم وأفعالهم، ويتركون الشائنَ من أخلاقهم وسلوكياتهم، وقاعدتُنا في كل زمان ومكان أنّ فاقدَ الشيء لا يعطيه.
أيها الأخُ المسلم، هل صدمتَ يومًا في قدوتك؟ هل أحسستَ يومًا أنك أخطأتَ في اختيار قدوتك؟
هل أنت اليوم بلا قدوة؟ هل افتقدتَ القدوة؟ هل كوَّنتَ شخصيتَك بنفسك دونَ الاعتماد على قدوة؟ هل قلتَ لقدوة خذلتك يومًا: آسف، الآن لا أستطيع أنْ أتخذَك قدوتي ومَثَلي؟ ولمن تقول: اسمح لي أنْ اقتدي بك؟
أيها الإخوة والأخوات:
تختلف كلمات رجال التربية وقادةِ الإصلاح، ورموزِ التغيير في الوسائل التي ترتقي وتصلحُ الرعيةَ وتَبثُّ الروح في القلوب الميتة، ولعلَّ القدوةَ هي الكلمةُ التي نحتاج إلى أنْ تكون نموذجًا فعليًّا لا حرفيًّا في هذه المرحلة التي تمر بها الأمة.
أيها الإخوة:
بحثتُ عن رموزٍ في الكتب فوجدتهم كُثْرًا، كانوا هم سُلَّمَ المجد لأمة الإسلام عَبْر دقائقِِ الزمن، وكانوا بحقٍّ نجومَ السماء في ظلمات الجهل، فأين الأشباه والنظائر؟! لنرحل إلى حياة العلماء، ولنفتحْ تاريخَهم، فماذا سنقرأ؟ أخبرني ماذا سنجد؟ إننا سنجد أعلى صور العزة في أقوى أزمنة الذل، وسنرى أروع المواقف في حياة الهوان، فأين الأشباه والنظائر؟! ولندخلْ إلى حياة الأبطال الذين هدموا بالهمم كلَّ آثار الكسل، وحطموا بقوة الإرادة جبال الخوف والوهم، فأين الأشباه والنظائر؟!
فيا عجباً لهم، كانوا في حياتهم رموزًا وقدوات، ووالله إنهم بعد مماتهم قدواتٌ ورموزٌ، فأين الأشباه والنظائر؟!
كانت حياتهم عظة ومدرسة لكل مقصر، والآن حياتهم لنا أجملُ عظةٍ، فأين من سيقرأ لعله يرقى؟
القدواتُ، أعمالُهم أعلى من كلماتهم، وهمتُهم حياةٌ لأمتهم، وتاريخُهم صانعٌ لحضارات قادمة، فأين المتشبه بهم؟!
القدواتُ صامتون، ولكنَّ أعمالَهم تنطق عبرَ أثير الزمن لتكتبَ بماء الذهب في ديوان التاريخ "نحن صناع الحياة".
القدواتُ سيرتهم تنبئ عن سريرتهم، وذكرُهم يحيي أقوامًا موتى، فما أعجبَهم!
أيها الإخوة والأخوات:
تشتد حاجة المسلمين اليوم إلى مُثُل عليا، يقتدون بها، ويقتفون أثرها، ويحذون حذوها؛ وذلك بسبب ضعف فهمِ الناس للدين، وقلةِ تطبيقهم له، ولغلبةِ الأهواء، ولإيثارِ المصالح العاجلة، مع قلةِ العلماء العاملين، والدعاة ِالمصلحين؛ ففي هذه المرحلة من الزمن - وقد بدت آثارُ الصحوة الحقة تظهر في مجتمعنا المسلم - تتضاعف حاجةُ المسلمين في مختلف أوساطهم وطبقاتهم إلى قدوات وريادات تكونُ نموذجًا واقعيًّا، ومثالاً حيًّا يرى الناسُ فيهم معانيَ الدين الصحيح؛ علمًا، وعملاً، وقولاً، فيُقبلون عليهم، ويَنجذبون إليهم، إنَّ التأثيرَ بالأفعال والأحوال أبلغُ وأشدُّ من التأثير بالكلام وحده، وقد قيل: شاهدُ الحال أقوى من شاهد المقال.
ويشهد لأهمية ذلك أنَّ الله - جلَّ وعلا - جعل نبيه - صلى الله عليه وسلم - أُسوة لمن بعده؛ فقال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 21]، كما أمره أن يقتديَ بمن سبق من الأنبياء؛ فقال سبحانه: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ} [الأنعام:90]، وهذا خليلُ الله إبراهيمُ - عليه السلام - لما جعله الله إمامًا للناس يُقتدى به قال: {وَمِنْ ذُرِّيَّتِي} [البقرة: 124]، أخبره الله - تعالى - أنَّ فيهم عاصيًا وظالماً لا يستحقُّ الإمامةَ؛ فقال: {لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} [البقرة: 124]، قال ابن جرير - رحمه الله -: {قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ}: هذا خبرٌ من الله - جل ثناؤه - عنْ أنَّ الظالم لا يكون إمامًا يَقتدي به أهلُ الخير؛ لأنَّ الإمامةَ إنما هي لأوليائه وأهلِ طاعته دون أعدائه والكافرين به.
ورأسُ الأمر في القدوة والأسوة الحسنة أنْ ندعوَ الناس بأفعالنا مع أقوالنا، يقول عبدالواحد بنُ زياد: "ما بلغ الحسنُ البصري إلى ما بلغ إلا لكونه إذا أمر الناسَ بشيء يكون أسبقَََهم إليه، وإذا نهاهم عن شيء يكون أبعدَهم عنه"، ولما نبذ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - خاتمَه وقال: ((إني اتخذت خاتمًا من ذهب)) فنبذه وقال: ((إني لن ألبسَه أبدًا))، فنبذ الناس خواتمهم، فدلَّ ذلك على أنَّ الفعلَ أبلغُ من القول.
ونحن - كما أسلفت - في هذه الفترة العصيـبة التي تمر على الأمة من الضعف والهزيمة - نحتاجُ أنْ نحققَ في أنفسنا نموذجَ التطبيق الصحيحِ لهذا الدين؛ لكي يحقق الله لنا النصر والتمكين، ونسدَّ على المتربصين أعداءِ الدين منافذَ تسلطهم وسطوتهم باسم الإصلاح وحفظ الحقوق؛ إذ إنَّ المسلمَ القدوةَ أشدُّ على أعداء الدين من كل عُدَّة، ولذلك لما تمنى الناس ذهبًا ينفقونه في سبيل الله، كانت مقولة عمرَ بنِ الخطاب: "ولكني أتمنى رجالاً مثلَ أبي عبيدة بن الجراح، ومعاذِ بنِ جبل، وسالمٍ مولى أبي حذيفة، فأستعين بهم على إعلاء كلمة الله"، فعسى إنْ كنَّا على مستوى حُسنِ الأسوة والتأسي أنْ يمكِّن الله لنا في الأرض، وأنْ يجعلَنا أئمة ويجعلَنا الوارثين.
أيها الإخوة والأخوات:
وفكرةُ القدوة مبنية في الطبيعة الإنسانية على مبدأ المحاكاة والتقليد المتأصلةِ في الطبيعة الإنسانية، فالكلُّ يقلِّد ويحاكي، كبارًا كانوا أم صغارًا، فأما الكبارُ فإنهم يقلدون في ملابسهم، وأثاثهم، ومراكبهم، وأنواعِ طعامهم، ومناهجِ تفكيرهم، ومذاهبِهم، وتصوراتِهم ونحوِها، وأما الصغارُ فإنهم يقلدون في حركاتهم، وألعابهم، وكلماتهم ونحوها، وكل ذلك لا يخرج عن التقليد والمحاكاة، سواءٌ كان من الكبار أم الصغار، إلا أننا لاعتيادنا؛ نتعجب من تقليد الصغار ومحاكاتهم، التي تخلو عادةً من المنطق، ولا نتعجب من أنفسنا حين يحاكي بعضُنا بعضًا في أنواع اختياراتنا المختلفةِ في سلوكِنا وفكرِنا وتوجهاتِنا، والتي تخلو أحيانًا - بل ربما في كثير من الأحيان - من المنطقِ العقلي، والنظرِ الشرعي الصحيح، وإلا فأيُّ نظرٍ شرعي، أومنطق عقلي يبررُ تقليدَ المسلمين للكفار في مذهب فكري ضال، أو سلوك خُلقي شائن؟!
ولما كان تأثيرُ القدوة مؤكَّدًا في ميدان التربية، جاء التحذيرُ الشديدُ من الله - تعالى - للمؤمنين بأنْ يحذروا الازدواجية السلوكيةَ في مخالفة الأعمال للأقوال؛ حيث يقول - تعالى -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} [الصف: 2، 3] ، نعم، كبُر مقتًا أنْ يقولَ المربِّي ويدَّعيَ ما لا يفعلُ؛ لأنَّ هذا القولَ وهذا الادعاءَ الذي يُكذبه الواقعُ العملي له تأثيرٌ سلبيٌّ على النشء من المربَّين، فهم لا يستطيعون أنْ يوفقوا بين أقوال المربِّين الحسنة، وبين أعمالهم القبيحةِ، وقدراتِهم العقليةِ لصِغرِ سنِّهم، وقلَّةُ خبراتهم لا تسمح لهم بقبول القول والتغاضي عن العمل، فهذا صعب في عالَم الطفولة، في حين كم هو سهل في عالم الكبار، فكلُّنا - أو جلُّنا - لا يتعجبُ من مسلكِ النفاق الذي استشرى في الحياة الإنسانية، فقد أصبح مقبولاً في حياة الكبار أنْ يجمعَ الشخصُ في وقت واحد بين المتناقضات، فلا مانعَ من المناداة بالحق مع العمل بالباطل، ولا مانع من الأمر بالتقوى والمناداة بها، مع التفريط في الواجبات، لقد أصبح مستساغًا مقبولاً عندَ جمهرة الناس أن أقوال الناس لا تطابقُ أعمالهم، وأنهم يقولون ما لا يفعلون، فلا إنكارَ فيما بينهم، الكلُّ قد تلبَّسَ بهذا المسلك الشائن، وكما قال الحكيم: "افتُضحوا فاتفقوا".
أيها الإخوة والأخوات:
وبعض الناس يحبُّ أنْ يكون قدوةً يُقتدى به في الخير؛ لِما يعلمُ من عظيم الأجر والثواب الذي يصله من تأثّر الناس بفعله ولقوله؛ كما قال تعالى: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا} [الأنبياء: 73]، قال الحسن البصري - رحمه الله -: "من استطاع منكم أن يكون إمامًا لأهله، إمامًا لحيِّه، إمامًا لمن وراءَ ذلك، فإنه ليس شيء يؤخذ عنك إلا كان لك منه نصيب"، ومن دعاء الصالحين: "واجعلنا للمتقين إمامًا"، قال البخاري - رحمه الله -: " أئمة نقتدي بمن قبلنا، ويَقتدي بنا مَن بعدَنا "، وبعضُ الناس يريد أن يكونَ رأسًا في الدين ليشارَ إليه بالبنان، ويُعبِّدَ القلوبَ إليه، ولينالَ بذلك حظوظاً دنيوية - والعياذ بالله - فهذه رياسة في الدين مذمومة؛ بخلاف الرياسةِ المحمودة التي لا تريد شيئًا مما في أيدي الناس، وإنما تـتمنى الازدياد من الأجر بقدر استفادة الناس منها، وكونُ الإنسان قدوةً يتطلب منه أن يتخلق بأخلاق الأنبياء، وهذه تحتاج مجاهدة عظيمة، ومن صدَقَ اللهَ وفَّقه وأعانه، وبلَّغه مقصودَه.
أيها الإخوة والأخوات:
انتَهت حلقةُ اليومَ، في الحلقة القادمة - إن شاء الله تعالى - سنتعرف على معنى القدوة وأنواعها، وموقفِ الناس منها، أودعكم على أمل اللقاء بكم، إن شاء الله تعالى، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين