إن سعيكم لشتى

يقول مولانا جل في علاه بعد بسم الله الرحمن الرحيم {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى (1) وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى (2) وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (3) إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى (4)} سورة الليل، ويقول عز من قائل :{ وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (148)} سورة البقرة، ويقول نبينا عليه الصلاة والسلام : (كُلُّ النَّاسِ يَغْدُو فَبَايِعٌ نَفْسَهُ فَمُعْتِقُهَا أَوْ مُوبِقُهَا) رواه مسلم.

كل هذه النصوص الشرعية تبين أيها الإخوة بما لا يدع قولاً لقائل أن الناس أهواء متفرقة واهتمامات مختلفة ونوازع متباينة وغايات شتى ، يتفاوتون في ذلك تفاوتاً عظيماً ، ويتمايزون بما يحمل كل واحد منهم من أمنية في قلبه وهدف في فكرع وعقله ، فهذا يتمنى لو زادت ثروته، وثان يرجو لو عادت صحته ، وثالث يأمل لو ذهبت عنه فَقْرته ، ورابع لا هذا ولا ذاك ... يسأل الله أن تحسن خاتمته ... إن سعيكم لشتى .... {مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ 152} من آل عمران .

اجتمع صحابي وثلاثة من التابعين ، كلهم أبناء صحابة ... أما الصحابي فعبد الله بن عمر رضي الله عنهما ... وأما التابعون الثلاثة فأخوان مصعب وعروة ابنا الزبير رضي الله عنه ، وأما الأخير فعبد الملك بن مروان ... اجتمع الأربعة في فناء الكعبة ... المكان شريف والزمان شريف والمجلس شريف ... فقال مصعب: تعالوا نتمنَّ ... ليذكر كل واحد فينا أمنية مما يرجو الله أن يحققها له ويتمنى أن يسعفه الدهر بإدراكها ... قالوا : ابدأ أنت .. فقال: أما أنا فأتمنى أن أحكم العراق، وأتزوج سكينة بنت الحسين، وعائشة بنت طلحة بن عبيد الله التي كان يضرب المثل بجمالها البارع .

انتهى مصعب من ذكر أمانيه ... وانتقل الدور إلى تاليه ... إلى أخيه ... فقال أخوه عروة : أما أنا فأتمنى أن أنال الفقه ويُروى عني حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ...

ولما جاء دور عبد الملك بن مروان قال : أما أنا فأتمنى أن أنال الخلافة ...

وكان ختام الدور عند عبد الله بن عمر رضي الله عنهما الذي كان يلقب بالمتأسي برسول الله صلى الله عليه وسلم فما ترونه يتمنى ويطلب ... وما تتوقعون أن يأمل ويرغب ...قال : أما أنا فأرجو أن أدخل الجنة ... 

انفض المجلس وقام عنه أصحابه ومضت السنون فنال كل واحد ما تمنى ...

أما مصعب فصار أميراً للعراق وتزوج سكينة بنت الحسين وعائشة بنت طلحة، وأصدق كل واحدة منهما خمسمئة ألف درهم وجهزهما بمثله. 

أما عروة فمكن الله في الفقه وصار من أعلام المحدثين ، فحيث فتحت كتاباً من كتب السنة وجدت اسم عروة آخذاً مكانه من السند ، وأين قرأت في كتب الفقه الخلافي سيمر بك قول منقول عن عروة رحمه الله. 

وأما عبد الملك فصار خليفة بعد أبيه مروان بن الحكم . 

وأما عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما فلعله يكون نال الجنة ... إن شاء الله ... 

هؤلاء الأربعة أيها الإخوة يجسدون أماني الأمة اليوم ... وهم صورة مصغرة عن سائر الناس اليوم ... فكل الناس يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها ... فمن أيهم أنت .. اختر لنفسك أي النوع تختار .... 

على أن الاختيار وحده لا يكفي ... والأمنية مجردة عن العمل والتصميم لا تسمن ولا تغني من جوع ... 

وما نيل المطالب بالتمني *** ولكن تؤخذ الدنيا غلابا

روى الترمذي - وقال حديث حسن - عَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْكَيِّسُ مَنْ دَانَ نَفْسَهُ وَعَمِلَ لِمَا بَعْدَ الْمَوْتِ، وَالْعَاجِزُ مَنْ أَتْبَعَ نَفْسَهُ هَوَاهَا، وَتَمَنَّى عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ».

فالذي يتمنى فحسبُ ...عاجز ... متواكل ...مغبون في تقديره ...

يتمنى أن يدخل الجنة ولكن دون أن يعمل بعمل أهلها ... يتمنى أن يسبق الناس في الآخرة ... ولكنه بالأحلام يسابق ...وبالنوم على النمارق ...

فاعمل بجد... وشمر عن ساعد الصدق ... فأنت لا زلت في دار العمل ... عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : مَرَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى قَبْرٍ دُفِنَ حَدِيثًا فَقَالَ : رَكْعَتَانِ خَفِيفَتَانِ مِمَّا تَحْقِرُونَ وَتَنْفِلُونَ يَزِيدُهُمَا هَذَا فِي عَمَلِهِ أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنْ بَقِيَّةِ دُنْيَاكُمْ

أي أنكم ما دمتم في حال الحياة فاعملوا ... كي لا تندموا ... وتتمنوا أماني لا تتحقق ساعتها ... ورغبات لا تجابون فيها هناك .

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين