دروس من نيوزلندة الحكم .. عدل ومسؤولية

 

منذ أيام وعيون العالم شاخصة إلى نيوزلندا بسبب الجريمة الإرهابية العنصرية الشنيعة التي ارتكبت بحق المصلين في مسجدين من مساجد مدينة كرايستشيرش، حيث فجرت هذه الجريمة مشاعر الإنسانية النبيلة في شتى أصقاع الأرض، وتردد صداها في جنبات المعمورة، وشعر كل إنسان حر أنه هو المستهدف.

وفي زحمة المواقف والمشاعر برز موقف رئيسة وزراء نيوزلندا، (الصبية) الرائعة، والأم المثالية، والسياسية الرائدة، فكانت مثالا للحاكم العادل الذي يشعر بالمسؤولية تجاه شعبه، وكأني بها تتمثل أخلاق نجاشي الحبشة الذي قال فيه نبينا صلى الله عليه وسلم : (لا يُظلم عنده أحد)، ومن حقها علينا وعلى الناس أن تُمتدَح فيها هذه الصفات النبيلة، والقيادة الرشيدة، كما مدح القرآن الكريم قيادة ملكة سبأ الرشيدة يوم جاءتها رسالة من نبي الله تعالى سليمان عليه السلام يدعوها فيها إلى الإسلام، فجمعت أهل الرأي والمشورة، وكلمتهم، وقص علينا القرآن الكريم الحوار الذي دار بينها وبين قومها، والذي يدل على رجاحة عقل وحسن تدبير.

كما مدح القرآن الكريم أيضا الملك الذي كان زمن سيدنا يوسف عليه السلام، والذي رأى الرؤية المفزعة، فلما عبرها له سيدنا يوسف، مبينا له الأزمة القادمة، وشارحا له سبل مواجهتها، أدرك أن من يحمل مثل هذا العقل النير الذي يحسن إدارة الأزمات مكانه بقربه مستشارا لا في السجن ..

إنها مواقف ونماذج مدحها القرآن الكريم ليقول لنا: إن المواقف الجيدة والإنسانية والعاقلة ممدوحة من أية جهة صدرت، وليس شرط الحاكم أن يكون مسلما، إنما شرطه أن يكون عادلا، وهذا ما أرشد إليه القرآن الكريم كما في سورة النساء: ﴿ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كانَ سَمِيعاً بَصِيراً﴾، نعم، الحكم عماده العدل الذي هو إعطاء كل ذي حق وحقه، وهو عنوان الأمانة، وهي مستحقة لأهلها،كائنا من كان أهلها، بغض النظر عن لونهم وعن جنسهم وعن معتقدهم. ويوم اتهم بعض المنافقين يهوديا في المدينة ظلما بالسرقة، أنزل الله تعالى قرآنا ليبرئ اليهودي ويفضح المنافق، وأيضا كما في سورة النساء: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللَّهُ وَلا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً (105) وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (106) وَلا تُجادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ خَوَّاناً أَثِيماً﴾. فلم ينظر القرآن إلى اليهودي باعتبار انتمائه إلى أمة تحارب الإسلام، وإنما نظر إليه على أنه إنسان مظلوم من حقه أن يُنصفَ.

ورحم الله تعالى شيخ الإسلام ابن تيمية القائل: «إن الله ينصر الدولة العادلة وإن كانت كافرة، ولا ينصر الدولة الظالمة وإن كانت مسلمة». 

نعم .. وإن كانت مسلمة .. ذلك أن الانتساب إلى الإسلام شيء، والعمل بممقتضى أحكامه شيء آخر.. 

وهذه هي مشلكتنا في بلادنا، بلاد الإسلام والمسلمين .. التي تقول ما لا تفعل، وتدعي ما ليست عليه.

لقد أظهرت هذه الجريمة الإرهابية المروعة أن الإنسانية ما زالت بخير، وأن العالم مستاء إلى أبعد حد من سياسات التحريض والعنصرية، وأن الناس تواقون، وبلهفة، إلى سيطرة الإنسانية على تصرفاتهم... 

فإذا كان الأمر كذلك، فلم يوجد نوع جفاء بين المسلمين والغرب؟ برأيي أن ذلك له أسباب ثلاثة:

الأول: الإعلام المجرم الذي يشيطن الإسلام والمسلمين خدمة لمشاريع خاصة تستباح بها الأرض من قبل أصحاب رؤوس الأموال.

الثاني: هو الحكام المحسوبون على الإسلام، والذين يعطون أسوأ صورة عن الحاكم المستهتر الذي يفرط بثروات بلده، بل وبشعبه، لأجل أهوائه وأحلامه على القاعدة الفرعونية: ﴿مَا أُرِيكُمْ إِلاَّ مَا أَرى وَما أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرَّشادِ﴾ فما يراه الحاكم هو الصواب والمصلحة الوطنية العليا، وما ينطق به هو الحق مهما كان تافها.. 

الثالث: كثيرون من عامة الناس عندنا ممن ارتبطت مصالحهم بمصالح الحكام، ومنهم من هو في مقام الفتوى والقضاء، يزينون لهؤلاء الحكام ضلالهم، ويبرهجون لهم سوء أعمالهم، فلا ينصحون، ولا يصدقون..

فإذا رأى الغربيون هذه الأوصاف احتقروا أصحابها وازدروهم. وسابقا كانوا يظنون أن هذا هو الإسلام، ولكن ، ولله الحمد، تأتي حوادث، مهما كانت مؤسفة ومكلفة، مثل الجريمة الإرهابية التي حصلت في نيوزلندة، لتبين للغرب أن الإسلام شيء، وأن هؤلاء شيء آخر، وكأني بحديث الصحابي الجليل كعب بن عُجرة رضي الله عنه، ينطق بيننا بهذا الحال، عندما قال: خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: (إِنَّهَا سَتَكُونُ عَلَيْكُمْ أُمَرَاءُ مِنْ بَعْدِي يَعِظونَ بِالْحِكْمَةِ عَلَى مَنَابِرَ، فَإِذَا نَزَلُوا اخْتُلِسَتْ مِنْهُمْ، وَقُلُوبُهُم أَنْتَنُ مِنَ الجِيَف، فَمَنْ صَدَّقَهُم بِكَذِبِهِم وَأَعَانَهُم عَلَى ظُلْمِهِم فَلَيْسَ مِنِّي وَلَسْتُ مِنْهُ وَلَا يَرِدُ عَلَى الحَوْض، وَمَن لَم يُصَدِّقْهُم بِكَذِبِهِم وَلَم يُعِنْهُم على ظُلْمِهِم فَهُوَ مِنِّي وَأَنَا مِنْهُ وَسَيَرِدُ عَلَى الحَوْض) (الطبراني في المعجم الكبير).

فما أكثر الأمراء الذين يتصدرون المنابر محاضرين عن الإنسانية، وعن الرحمة، وعن التسامح، وسجونهم ملئ بالمظلومين، وذممهم طافحة بالدم الحرام والمال الحرام.

وما أكثر المنتسبين إلى العلم والشرع الذين يزينون لهم ضلالهم ليحصلوا منهم دنيا، لو طلبوها من الله تعالى لأعطاهم أمثالها مع الكرامة..

إن دماء الشهداء الخمسين التي سالت في المساجد على أرض نيوزلندا فتحت أبواب الجسور التي كانت مغلقة بين الإسلام والغرب. والسؤال الذي يطرح نفسه: إلى كم مجزرة يحتاج الغرب ليفرق بين الإسلام وبين أدعيائه؟

جاسيندا أردرن (Jacinda Ardern) تحية صادقة لك من كل حر تستهويه الكرامة.

جاسيندا أردرن ... كم تحتاج بلادنا إلى أمثالك...

 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين