حديث عن الأم في يومها

روى الإمام ابن أبي الدنيا في كتابه مكارم الأخلاق عن مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ، قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، أُمِّي عَجُوزٌ كَبِيرَةٌ، أَنَا مَطِيَّتُهَا، أَجْعَلُهَا عَلَى ظَهْرِي، وَأَنْحَنِي عَلَيْهَا بِيَدِي، وَأَلِي مِنْهَا مِثْلَ مَا كَانَتْ تَلِي مِنِّي، أَوَ أَدَّيْتُ شُكْرَهَا؟ قَالَ: «لَا» ، قَالَ: لِمَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ؟ قَالَ: «إِنَّكَ تَفْعَلُ ذَلِكَ بِهَا وَأَنْتَ تَدْعُو اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يُمِيتُهَا، وَكَانَتْ تَفْعَلُ ذَلِكَ بِكَ وَهِيَ تَدْعُو اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يُطِيلَ عُمْرَكَ»...

شتان بين من تريد حياتك... وتريد أنت موتها ...

شتان بين من يريد أن تبقى... وتريد أنت أن يفنى ...

شتان بين ما تفعل بها من خير.... وبين ما كانت تفعل بك من معروف ...

كانت تقول : رب خذ من عمري وزد في عمر ولدي ...

كانت تحبك على دمامة خَلْقك، وقِصر قامتك، واسمرار بشرتك، وتراك في عينها أجمل ما خلق الله ... وتفديك بنفسها وروحها وقلبها ...

وأنت اليوم – ويح اليوم – تبرها نعم ؟ ... تكرمها نعم ... لكن تفعل ذلك وأنت تقول : ما هي إلا أيام معدودات وترحل أمي عن هذه الدنيا ... فلأتحمل ثقلها ولأغالب نفسي على رعايتها ... شتان بين الموقفين ... 

متكرِّمٌ بالطّبْعِ لا متكرِّهٌ* * شَتّانَ بينَ تكرُّمٍ وتكرُّهِ

لشتان ما بين اليزيدين في الندى * * يزيد سليم والأغر ابن حاتم

فهَمُّ الفتى الأزدي إتلاف ماله * * وهَمُّ الفتى القيسي جمع الدراهم 

أيها القراء الكرام: 

تفرض علينا الأم وجودها في حديثنا بين الفينة والأخرى ، وتطل ذكراها برأسها لتذكرنا بحقوقها، وتستدعينا لنعيد لها بعض اعتبارها ، وبخاصة في هذا الزمان الذي دفع البعضَ إلى التقصير في حق الأم إلى درجة العقوق ، والاهتمام بما عداها من زوجة وأولاد إلى درجة النسيان ، هذا إذا لم يكن مدفوعاً إلى ذلك من زوجته ومكرهاً عليه من صاحبته .

ولا أشق على الأم من عقوق ابنها ، ولا أصعب لديها من تناسي أبنائها لها ، رغم ما قدمت لهم وتقدم .

أو لسنا نتداول على لسانها المثل العامي القائل : أنا ربيت ولغيري صفيت .

أوَلم يقل النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه الترمذي في سننه عَنْ سيدنا عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه : «إِذَا فَعَلَتْ أُمَّتِي خَمْسَ عَشْرَةَ خَصْلَةً حَلَّ بِهَا البَلَاءُ» فَقِيلَ: وَمَا هُنَّ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «إِذَا كَانَ المَغْنَمُ دُوَلًا، وَالأَمَانَةُ مَغْنَمًا، وَالزَّكَاةُ مَغْرَمًا، وَأَطَاعَ الرَّجُلُ زَوْجَتَهُ، وَعَقَّ أُمَّهُ، وَبَرَّ صَدِيقَهُ، وَجَفَا أَبَاهُ، وَارْتَفَعَتِ الأَصْوَاتُ فِي المَسَاجِدِ، وَكَانَ زَعِيمُ القَوْمِ أَرْذَلَهُمْ، وَأُكْرِمَ الرَّجُلُ مَخَافَةَ شَرِّهِ، وَشُرِبَتِ الخُمُورُ، وَلُبِسَ الحَرِيرُ، وَاتُّخِذَتِ القَيْنَاتُ وَالمَعَازِفُ، وَلَعَنَ آخِرُ هَذِهِ الأُمَّةِ أَوَّلَهَا، فَلْيَرْتَقِبُوا عِنْدَ ذَلِكَ رِيحًا حَمْرَاءَ أَوْ خَسْفًا وَمَسْخًا»، قال أبو عيسى : هذا حديث غريب .

فتقديم الزوجة على الأم صورة من صور العقوق الذي يتنكر به الإنسان لأمه التي كم شقيت من أجله ... فجاعت ليشبع ... وظمئت ليروى ... وسهرت لينام ... وغسلت عنه الأذى بيديها ليشم منه الناس كل رائحة طيبة .... ودعت ربها في جوف الليل ليتبوأ ابنها أعلى المراتب بين الخلق... ثم كان جزاءها الهجران ... الزجر ... اللوم ... العتاب ... وربما الضرب لترضى الزوجة ...

قالت أم ثواب وهي امرأةٌ من بني هزان في ابنٍ لها عقها :

ربيته وهو مثل الفرخ أعظمه ... أم الطعام ترى في جلده زغبا

حتى إذا آض كالفحال شذبه ... أباره ونفى عن متنه الكربا

أنشا يمزق أثوابي يؤدبني ... أبعد شيبي عندي تبتغي الأدبا

إني لأبصر في ترجيل لمته ... وخط لحيته في خده عجبا

قالت له عرسه يوماً لتسمعني ... مهلاً فإن لنا في أمنا أربا

ولو رأتني في نارٍ مسعرةٍ ... ثم استطاعت لزادت فوقها حطبا

هل جزاء الإحسان إلا الإحسان ... وهل إحسان الأم يكافؤ ؟ وهل جميلها يُرَدُّ ؟ مهما تصدى له الإنسان أو احتشد ... أو تجهز أو استعد ...

يحكون قصة لطيفة تقول : إن فتاة غرها عقلها وخدعها ذكاؤها دلفت إلى المطبخ وبيدها ورقة فيها فاتورة قيدت فيها أعمالها المنزلية التي قامت بها وبجانب كل عمل قيمته المالية ... من كنس للبيت ... وغسل للصحون ... وتجهيز للفطور ... وتنظيف للثياب ... وأداء للواجبات المدرسية ... ودفعتها إلى أمها مطالبة إياها بأداء الفاتورة ودفع الحساب.

فأسرعت الأم وجففت يديها المبللتين، وأمعنت النظر في القائمة ، وراحت تبستم ابتسامة ساخرة ...قلبت على إثرها الورقة وتناولت قلماً وراحت تكتب عليها ...

حملتك تسعة أشهر ....دون مقابل . 

أرضعتك عامين .... دون مقابل . 

أطعمتك ... وسقيتك ... وغسلت عنك الأذى بيميني ... ومرضت لمرضك ...وفرحت لفرحك ... وحزنت لحزنك ... كل ذلك دون مقابل ... ومن غير ما تَطَلُّب مال أو جزاء إلا من الله ... 

الحساب مدفوع سلفاً يا ابنتي ...

قرأت البنت الرد ... فكان رداً قاتلاً وجواباً مسكتاً ... وانضمت إلى صدر أمها تبكي وتستجدي العفو والغفران ...

أُمي ولو طالَ الزمانُ فلم أزلْ *** طِفْلاً يَتُوقُ لضمّةٍ وحنانِ 

ويفيضُ بي همِّي وحُضْنُكِ مَلْجأٌ*** رحْبٌ يُذيبُ تحشُّدَ الأحزانِ

ورضَعْتُ صبْركِ ماردًا لا ينْثني*** همَدَتْ عليهِ مواجعُ الأزمانِ ! 

أمّاهُ: عُذرًا يا أعزّ حبيبةٍ*** ردُّ الجمائـلِ ليسَ بالإمكـانِ !

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين