الحكمة والموعظة والجدال

قالوا: ما معنى قوله تعالى: {ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن}؟ 

قلت: أصبتم محالفا لكم التوفيق إذ حفزكم حافز لتفقه معنى الآية، فقد أساء الناس فهمها، وأخطأوا في تأويلها وتطبيقها.

اعلموا أن الدعوة إلى سبيل ربنا تبارك وتعالى تتحقق بخصلتين اثنتين: الأولى: الحكمة، وهي كلها محمودة مرضية فلم يقيدها بشيء، والثانية :الموعظة، ووصفها بالحسنة، لأن منها ما ليس بحسن، ويجب اجتناب الجدال، وإن كان لا بد منه، فلا يرخص إلا في جدال بالتي هي أحسن.

قالوا: من أين قلت: يجب اجتناب الجدال؟ 

قلت: لأن الله تعالى ذكر أمرين في نسق واحد، وهما الطريقان للدعوة إليه، وليس الجدال طريقا للدعوة إليه، بل له منفعة أخرى، ومن ثم لما ذكر الجدال خالف بينه وبين الأولين.

قالوا: أخبرنا عن معنى الحكمة؟ 

قلت: هي كل ما كان محكما متينا، ومعناها هنا الأمور المبنية على الفطرة التي فطر الله الناس عليها، المؤيّدة بالعقل السليم، إذا كان الأمر أساسه الفطرة ويعضده العقل الصحيح، فهو الأمر المحكم، ويجب على المؤمنين أن يدعوا غيرهم إلى سبيل الله تعالى مؤنسا إيّاهم بالأمور الفطريّة العقليّة، وتتلخص في تذكير الناس بآلاء الله ونعمه، وآياته وصفاته، فهي كلها فطرية عقلية، مثل الشكر للرب وعبادته والطاعة له، وإنكار الكفر والشرك، والإحسان إلى الناس والبر بالوالدين، ومن ثم كان أول القرآن هو الحمد لله رب العالمين، لأن الحمد أول الفطرة ورأسها.

وإن كثيرا من المبلغين اليوم أفسدوا الدعوة لأنهم لم يدركوا معنى الحكمة، فيركزون في دعوتهم على إثبات وجود الله تعالى وتقرير ربوبيته بالدلائل العقلية، ويرتكبون أخطاء جسيمة، لأن الله تعالى أودع في جذر طبائعنا محبته والشكر له، وهو أمر يدعمه العقول، وإن ما يقرر هؤلاء بمقدماتهم الوضعية يمكن نقضه بسهولة، ثم لا فائدة فيما يقررونه، فإنه ليس من دعوة الأنبياء والرسل عليهم السلام في شيء، والشيطان مقر بربوبية الله تعالى وهو أكفر الكافرين، وهذا هو منشأ خطأ المتكلمين والمتصوفة في بيانهم لمعنى التوحيد.

واعتماد الأمور الفطرية العقلية هو أوثق البراهين، وأقوى الحجج، وأوفق الأدلة، وإذا انتهج الإنسان منهج الحكمة في أموره كان ذلك أوقع في النفوس، زعموا أن شخصا ظمآن مر بعجوز جالسة على بئر، فقال: يا أم! إني عطشان فلو سمحت لي بشرب الماء، ففرحت بحُسن أدبه وأعطته حلوى يأكلها، وسقته ماءًا عذبا، ومر آخر بها، فقال لها: يا زوج أبي أعطيني ماءًا، فرفعت عصاها وضربته بها. إن احترام الكبار وخطابهم بما يليق بشأنهم أمر مودع في الفطرة يقره العقل، وكذلك الإعجاب بمن تأدب في السؤال وأحسن في التوسل فطري عقلي.

قالوا: أخبرنا عن معنى الموعظة.

قلت: هي تذكير الناس بأيام الله، أي قصص الأمم الماضية التي أثابها أو عذّبها، وتذكير الناس كذلك بالموت وباليوم الآخر وسائر تفاصيله، وهذا الوعظ قد ينكر منه إذا غلب عليه الإنذار إلى حد يدخل الناس في اليأس والقنوط من ربهم، فيجب تجنبه، ويسمى الموعظة السيئة، وكتاب الله عز وجل حافل بالتذكير أيام الله تعالى والموت والبعث والحشر والنشر والجنة والنار.

قالوا: أخبرنا عن معنى الجدال بالتي هي أحسن؟

قلت: اعلموا أولا كما ذكرت لكم أن الجدال ليس بمنهج في سبيل الدعوة، ولكن إذا دخل المدعو أو المدعوون في جدال، وجب على الداعي أن يستبصر أنهم يسعون لصرفه عن دعوته وإلهائه عنها، فيعمل عقله: إما يتغافل عن جدالهم، أو ينبّههم على ضعف حُججهم يدحضها دحضا ثم يعود إلى دعوته، فمثال التغافل في كتاب الله تعالى:{ قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ، قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِن كُنتُم مُّوقِنِينَ، قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلَا تَسْتَمِعُونَ، قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ، قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ، قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ} (سورة الشعراء 23-28)، ومثال التنبيه على وهن حجة الخصم ودحضها دحضا بينا قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ } (سورة البقرة 258).

قالوا: ما منفعة الجدال؟ 

قلت: منفعته أن بعض الناس ممن أوتي متاع الحياة الدنيا يغتر بحجته ولا ينتبه إلى ما فيها من ضعف ووهن، فإذا جاء الحكيم العاقل وأظهر له وهاء قوله سقط في نفسه وبهت وضعف أمره أمام قومه وعجز عن مقاومة الداعي.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين