لا دفاعا عن البخاري

تتبَّعت غالب من كتب في الطعن على أحاديث في البخاري من المعاصرين كشحرور وكيالي وخالد منتصر وغيرهم إلا جمال البنا لم أقف على كتابه، وأنفقت من الوقت في مطالعة كتاب (البخاري نـهاية أسطورة) ما لو قدرت أن أرفع على مؤلفه أو سارقه الذي اختلسه من النت، دعوى للتعويض عن الوقت الذي ضاع مني في مطالعته، لفعلت.. فإنه لا يساوي الــ(ميغا بايت) التي ذهبت في تحميله.!

فأقسم بالذي وهب العلم والذكاء والحفظ للبخاري وسلبَه عنهم، لرأيتهم جميعا كالعرَّاف ينتهب ما تركه اللص، وكلهم سُرّاق ولصوص محترفون يسلخ المتأخرُ منهم كلامَ من تقدّمه إلى هذه الأحموقة بلا فهم ولا مُسكة عقل، ثم يصوغها بأسلوب بليد ركيك يصبغه بنوع من السخرية ليجتذب إلى مقالته الحوشاء كل خَفْثَلٍ يروج عليه الشيءُ وضدُّه.!

وهمة الحاذق منهم أن يُقال: كاتبٌ حر أو شجاع، وإلا فهم مع البخاري كالشعرى العبور تسبح خارج المجرَّة، وليس معهم إلا التهكم والسخرية بما يقتدر عليه صبيان دِحِنْدِحٍ، ثم يُطالبون البخاري وأتباعه بالموضوعية والعلمية وأزواج هذه المصطلحات التي يُلقونـها لإرهاب القارئ حتى يظهر الواحد منهم في صورة الأكاديمي ذي (الطرح العلمي) مع أن أمثلهم طريقة لم يُقم على ضفطاته دليلا علميا بل ولا شبه دليل، وليس معهم إلا السخرية.!

ووالله لقد جهدت أن أجد فيهم من يستحق أن تحاوره بربع عقلك فلم أظفر به، لا لأني أرغب بالحميَّة عن البخاري والذبّ عن كتابه، فالبخاري قد أعيا من يحلم بالطعن عليه، وهؤلاء المهابيت معه كذباب يقول بيده هكذا فيطير وليس يُزعج منه إلا طنينه الفارغ.

بل لأني وددت المشاركة في مؤتمر عن أحاديث البخاري، طُلب مني المشاركة فيه في قسم الطعون الموجَّهة لمتونه بمخالفة الواقع والعلم الحديث، فما وجدت إلى الساعة عاقلا فيهم جاء بما يؤبه له، وكلهم كالصبيان يُخدعون بالزبيب.!

والواقع أن كلامهم من جنس اللعب لا يرجع إلى أصل أو عقل، لأن جُلّهم ليس من أهل الاختصاص الشرعيّ ولم يتلق العلم عن أهله، فهذا مهندس وذاك محام وآخر طبيب ونحو ذلك، والعجب أنـهم يعارضون ما يُسمونه بتدخل علماء الشرع في السياسة، ثم يحشر الواحد منهم خشمه بكل صفاقة في علوم الشرع.

والإشكال عند ضيافن العلوم هؤلاء، أن الواحد منهم يحاكم نصوص البخاري إلى خياله الفاسد، وهو أصل عظيم في تحريف النصوص، زلّ به قبلهم خلائق، فمثلا يعمد الضيفن منهم إلى حديث شنّ قرب الماء البارد في السحر على المحموم، فيورد عليه من طريق السخرية ما يتوهم أنه يسقط الثقة به لسذاجة تصوره وعقله، فيقول: ماذا يريد منا البخاري؟ أن نغمر المحموم بماء بارد يقتله في يوم شات؟! هكذا جزافا دون أن يورد على الأقل من الحقائق العلمية ما يعارضه، ومن سوء طالعه أن البخاري نفسه حمل الحديث على خلاف مقتضى الظاهر ففسره بالكمادات، وخصّه العلماء بالحمى الصفراوية في الصيف دون غيره.!

ويعمد ضيفنٌ آخر إلى حديث كفت الصبيان عند المغرب، فيورد عليه من خيالاته الساذجة ما يتوهم به أنه خبر مكذوب، فيقول: ماذا يريد منا البخاري؟ أن نحبس الأطفال عن التنزه في الحدائق عند المغرب، وهو الوقت الذي يصطحب فيه الرجل عائلته للنزهة بعد انقضاء عمل النهار.؟

وغبي عليه أن النصوص تحكمها دلالات لغوية وعرفية وعقلية لا يدريـها ضيفن مثله لم يزاحم الأقران بركبتيه في مجالس العلماء ولا اصطكت له قدم على عتبات أبوابـهم التي بـها تنفتح مغاليق المعاني، ولو ذهبنا نحاكم النصوص إلى خيالات العقول المتفاوتة لم يسلم لنا نصٌّ لا شرعي ولا وضعي، وتسقط الثقة بالشرائع والقوانين بمثل هذا التصور الساذج، فيعيش الناس في بوهيما.!

وإنما محمل الحديث عند العلماء في الفلوات والقرى التي يغلب على الناس فيها القرار في دورهم بعد العشاء، فتخلوا الطرق وتستوحش مع الظلام بحيث لا يؤمن على الطفل أن يفزع فيها من خيال أو جنّ يتراءى له فيذهب عقله ويصاب بصرع ونحوه، وقد شاهدنا هذا وتحققناه في البدو وسمعنا من هذه الحوادث ما بلغ حد التواتر، والبدو يقولون للصبي الذي فزع بليل (اخترع) أو (مخروع) فهذا الحديث من عام المقال الذي أُريد به خصوص الأحوال.

وودت أن أجد في الباحثيين الغربيين من له كلام في أحاديث الصحيح، لأنـهم عقلاء يمكن أن يكون لكلامهم فيه أصل علميّ يُبحث فيه معهم، فإنـهم لا يطلقون الكلام جزافا كمهابيتنا هؤلاء.!

وهكذا سائر ما يورده هؤلاء المهابيت الضيافن الذين تطفلوا على الكلام فيما لا يحسنونه ويعقلون معانيه، من أحاديث البخاري التي يزعمونـها مناقضة للعقل والعلم، من هذا الجنس الدالِّ على خلل عقولهم وقصور مداركهم وسذاجة تصورهم وشحّ معارفهم، بحيث لا يفرقون بين عام وخاص وعادي وشرعي وطبعي وعقلي، فيستحضرون حديثا خاصا ويتكلفون استنزاله في موضع العموم، دون أن يعقلوا أن النص الشرعي يستوعب الزمان والمكان في أحكامه، فكما يخاطب الحواضر والمدن فهو يخاطب غيرها.

ففي هؤلاء يقال:

أتانا أن سهلا ذمَّ جهلا .... علوما ليس يدريهنَّ سهلُ

علوما لو دراها ما قلاها .... ولكن الذمَّ بالجهل سهلُ

ويقال ويقال:

يا ابنَ الكرام ألا تدنو فتُبصر ما ... قد حدّثوك فما رآءٍ كمن سمعا

وتأمل ما حكاه أبو عمر الحافظ في (العلم) عن أبي إسحاق إبراهيم بن سيّار النظّام المعتزلي يقول: بلغني وأنا حَدَث أن نبيَّ الله صلى الله عليه وآله وسلم (نـهى عن اختناث فَمِ القِربة والشُّرب منه) قال: فكنتُ أقول: إن لهذا الحديث لشأنا وما في الشُّرب من فَمِ القِربة حتى يجيء فيه هذا النهي.؟

فلما قيل له: إن رجلا شربَ من فَمِ قِرْبة فوكعته حيّة فمات، وإن الحيّات والأفاعي تدخل في أفواه القرب علمتُ أن كل شيء لا أعلم تأويله من الحديث أن له مذهبا وإن جهلتُه.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين