حسن الخط إحدى البلاغتين (2) من طرائف خطاطي المصاحف

حرفة أهل العلم ... نسخ الكتب والمصاحف

الناسخ: هو من ينسخ الكتب بالأجرة، ويقال له «الوراق» بسائر البلاد، وببغداد يقال له «الناسخ»، واشتهر جماعة بهذه الصنعة(32) ؛ حيث احترف مهنة النسخ -إضافة للوراقين والنساخ والمجلدين والتجار- جملة من العلماء الأجلاء، والوزراء والأدباء، والشعراء، والفقهاء والفلاسفة، والقضاة وغيرهم، حتى أطلق عليها اسم حرفة أهل العلم؛ فقال الذهبي –مثلاً- في ترجمة ابن مَحمِش (ت:410 هـ): أملى نحواً من ثلاث سنين، ولولا ما اختُصَّ به من الإقتار وحرفة أهل العلم، لما تقدَّم عليه أحد (33) ؛ يعني بحرفة أهل العلم النسخ، فأكثرهم كان ينسخ بالأجرة ليقوت نفسه. 

نسخ القرآن الكريم:

لا تكاد تخلو مكتبة من مكتبات العالم، أو متحف أو دار آثار من وجود بعض المصاحف المخطوطة. ويوجد في الرياض في المملكة العربية السعودية في مكتبة المصحف الشريف، مجموعة تقدر بـنحو ألفي مصحفاً من المصاحف الخطية النادرة القديمة، تمثل في مجملها تاريخاً للمراحل التي مر بها تدوين المصحف الشريف، ويعود تاريخ أقدم مصحف إلى عام 488هـ، وهو بخط علي بن محمد البطليوسي، مكتوب على رَقّ الغزال.

وقد فصّلت كتب علوم القرآن الكريم المراحل والأطوار التي مرت بها كتابة القرآن الكريم، وللوقوف على أشكال خط المصحف وصوره وطبيعته ينصح بالرجوع لكتاب «رسم المصحف» د.غانم قدوري الحمد.

من طرائف النسّاخين:

ورد في كتب الأدب والتاريخ بعض الأخبار المتعلقة بالخطاطين والنسّاخين والورّاقين، حيث ترجم ياقوت الحموي في معجميه «الأدباء» و«البلدان». والذهبي في «سير أعلام النبلاء». وابن خلكان في «وفيات الأعيان». والصفدي في «الوافي بالوفيات» لهؤلاء الأدباء والشعراء والعلماء ورجال الدولة، الذين اشتهروا بجمال الخط واشتغلوا بالوراقة والنسخ، وربما يكون من أشهرهم الخطاط ياقوت بن عبد الله المستعصمي (ت: 698 هـ)، الذي كان دائم الكتابة، وألَّف بعض الكتب، أهمُّها رسالته في الخط، ونسخ عددًا كبيرًا من الكتب والمصاحف. وكذلك أبو سعيد السّيرافي، الحسن بن عبد الله (ت: 368 هـ) صاحب العربية، وكان ورعاً، يأكل من النّسخ، وكان ينسخ الكراس بعشرة دراهم لبراعة خطه، وغيرهم. ولم تخل بعض هذه الأخبار التي أمدتنا بها المراجع من الطرافة والتميز، وهذا بعضها.

عقبة بن عامر: يكتب مصحفه بخطه.

كتب الصحابي الجليل عقبة بن عامر رضي الله عنه مصحفه بخطه، وكتب في آخره: وكتبه عقبة بن عامر بيده، وعقبة بن عامر الجهني (ت: 58 هـ) أمير من الصحابة، ولي مصر سنة 44 هـ، وعزل عنها سنة 47، ومات بمصر، وكان شجاعًا فقيهًا شاعرًا قارئًا، وهو أحد من جمع القرآن (34). 

مالك بن دينار: كان ينسخ المُصحف فِي أربعة أشهر.

التابعيُّ مالك بن دينار (ت: 131 هـ)، أحد الأعلام الزهاد. وكان من أعيان كتبة المصاحف، وكان من ذلك بُلْغتُه «ينسخ المصحف فِي أربعة أشهر، فيدع أُجرته عند البقّال فيأكله» (35). 

مطر الورّاق: كان يتقن كتابة المصاحف.

مطر الورّاق: أبو رجاء الخراسانيّ (ت: 129هـ) كان من العلماء العاملين، يكتب المصاحف ويتقن ذلك.

كاتب المصاحف: 

اشتهر أصبغ بن زيد الجهني، أبو عبد الله الوراق (ت: 159 هـ) بكاتب المصاحف (36). 

المفضّل الضبي: كان يكتب المصاحف ويقفها فى المساجد.

وكان المفضل الضّبيّ يكتب المصاحف ويقفها في المساجد، فقيل له: ما هذا؟ فقال: أكفّر ما كتبته بيدي من هجائي الناس(37). والمفضّل بن محمد الضبيّ (ت: 168هـ) العلاّمة الكوفي، راوية الأخبار والآداب وأيّام العرب، وأحد القُرّاء البارزين، ويعدُ من أبرز رواة الكوفة، وكان عالمًا بأشعار الجاهلية، وأخبارها وأيامها، وأنساب العرب، وأصولها.

يموت وهو ينسخ القرآن الكريم: 

إمام الفرضيِّين (المواريث) أبو حكيم، عبد الله بن إبراهيم الخَبْريّ الشَّافعيّ (ت: 476 هـ)، كان ينسخ في مصحف، فوضع القلم، وقال: «إنَّ هذا لموت مُهَنَّأ طَيِّب» ثمّ مات وهو يكتب القرآن الكريم(38).

أمير لا ينسخ إلا القرآن الكريم: 

مرشد بن علي بن مقلد بن نصر بن منقذ (ت: 531 هـ) أمير أديب، من آل منقذ أصحاب (شيزر) بقرب حماة، ولد بحلب، ولما مات صاحب شيزر أوصى بإمارتها من بعده لمرشد، فعرضت عليه فأباها، وانقطع إلى الأدب، وكان له خطّ حسن، كتب بخطه سبعين مصحفًا، وكان لا ينسخ سوى القرآن الكريم. سئل يوماً: كم كتبت ختمه؟ قال: الساعة تعلمون. فلما حضرته الوفاة قال: في ذلك الصندوق مساطر كتبت على كل مسطرة ختمة، ضعوها- يعني المساطر- تحت خدي في القبر، فعددناها فكانت ثلاثاً وأربعين مسطرة. فكانت كتب بعدتها ختما تختمه كبيره ختمها بالذهب، وكتب فيها علوم القرآن(39). قال أبو المغيث منقذ بن مرشد الكناني: كنت عند والدي رحمه الله تعالى، وهو ينسخ مصحفًا ونحن نتذاكر خروج الروم، فرفع المصحف وقال: اللهم بحق من أنزلته عليه إن قضيت بخروج الروم فخذ روحي ولا أراهم فمات يوم الاثنين الثامن من شهر رمضان سنة إحدى وثلاثين وخمسمائة بشيزر، ودفن في داره، وخرجت الروم ونزلوا على شيزر، في نصف شعبان سنة اثنين وثلاثين وخمسمائة فحاصروها أربعة وعشرين يومًا ونصبوا عليها ثمانية عشر منجنيقًا، ثم رحلوا عنها يوم السبت تاسع شهر رمضان سنة اثنين وثلاثين وخمسمائة . تاريخ دمشق: لابن عساكر (57/ 219).

الخطاط الأندلسي ابن غطُّوس: انفرد في وقته بالبراعة في كتابةِ المصاحف.

ابن غطُّوس، محمد بن عبد الله (ت: 610 هـ) ناسخ أندلسيّ، انفرد في وقته بالبراعة في كتابةِ المصاحف، ويقال: إنه كتب ألف مصحف، تنافس فيها الملوك وكبار الناس. وكان قد آلى على نفسه ألاّ يكتب حرفاً إلا ّمن القرآن، خلف أباه وأخاه في هذه الصناعة. قال الصفدي: رأيت بخطه مصحفًا أو أكثر، وهو شئ غريب من حسن الوضع ورعاية المرسوم، ولكل ضبط لون من الألوان؛ فالآزورد للشدّات والجزمات، والأخضر للهمزات المكسورة، والأصفر للهمزات المفتوحة. الوافي بالوفيات: الصفدي (3/ 281). 

منقطع بمسجد ينسخ المصاحف: 

وكان أبو العبّاس الحلبي، ثمّ المصرِيّ المعروف بحفنجلة، أحمد بن محمّد منقطعًا بمسجد ينسخ المصاحف، فسئل: كم كتبت مُصحفًا؟ فقال: نحو المائة سوى الأنصاف والأرباع. 

أمير ينسخ المصاحف بخطِّه ويقفها في المدارس الّتي بناها:

صاحب غزنة: غياث الدِّين الغوري، أبو الفتح محمّد بن سام، كان مُظفّرًا، وكان جوادًا، حسن الاعتقاد، بنى المساجد والمدارس بخراسان لأصحاب الشّافعيِّ، وبنى الخانقاهات في الطُّرق (معرب من الفارسية) هو المكان الذي ينقطع فيه المتصوف للعبادة، وأسقط المكوس، ولم يتعرّض إلى مال أحد من النّاس، وكان فيه فضل غزير وأدب مع حسن خطٍّ وبلاغة، وكان ينسخ المصاحف بخطِّه، ويقفها في المدارس الّتي بناها. الكامل: ابن الأثير (10/189).

ينسخ فِي كل رمضان ختمة ويوقفها:

الشّيخ الفقيه الإمام كمال الدّين المغربي (ت: 650 هـ) إسحاق بن أحمد، أحد مشايِخ الشّافعيّة وأعيانهم، ممّن قرأ عليه الشّيخ محي الدّين النّووي، وكان يسرد الصّوم وكان في كل رمضان ينسخ ختمة ويوقفها. طبقات الشافعية: ابن قاضي شهبة (2/ 102).

كتب نحو خمسين مُصحفًا:

العلامة الصّالح الورع الزّاهد القاضي الفقيه عبدالله بن مُحمّد ابن عسين الشّافعي اليمني (ت: 907 هـ)، كان سيدا شريف النّفس كريمًا سخياً مفضالاً وصُولا للطلبة كثير الإحسان إليهم، وكان ينسخ المصاحف ويجتهد فِي ضبطها وتصحيح رسمها، وكتب نحو خمسين مُصحفاً، وحكي أنه كان لا يأكل إلا من كسب يده، وكان حسن الخط. النور السافر عن أخبار القرن العاشر (ص: 43).

كتب ما ينيف على سبعين مصحفًا:

الفقيه المالكي: عبد الله بن عبد الرزاق العثماني (ت: 1027 هـ) كان يعلم الصبيان في عدوة فاس، وكان مع التعليم نساخًا، كتب ما ينيف على 70 مصحفًا. الدرر الكامنة (1/ 344).

كتب تسعين مصحفًا:

ويعدّ الخطاط «درويش مصطفى المولوي السرائي» من أكثر النساخ إنتاجاً؛ حيث ورد في نهاية المصحف المؤرخ نسخة بتاريخ 1075 هـ قوله: «وبإتمام هذه النسخة الشريفة صارت المصاحف تسعون تماماً بخطي»(40).

عثمان طه أشهر خطاطي هذا العصر:

ومن أشهر خطاطي هذا العصر الذين اشتهروا بكتابة القرآن الكريم الخطاط المشهود له بالتفوق أبو مروان، عثمان بن عبده بن حسين بن طه، المولود في ريف حلب سنة 1934م، المعروف بـ«الخطاط عثمان طه» حيث يقوم مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف في المدينة المنورة بطباعة القرآن الكريم بخطه، ويمتاز المصحف الذي كتبه بأن كل الآيات تنتهي مع نهاية الصفحة. وتشرف على كتابة المصاحف وطبعها لجنة علمية من المختصين في علوم التجويد، والقراءات، والرسم، والضبط، وعدِّ الآي، والوقوف، والتفسير، والفقه، واللغة، والنحو والصرف.

مساهمة المرأة بنسخ المصاحف:

ساهمت المرأة المسلمة عبر العصور بكتابة المصحف الشريف، وأبدعت في مجال الخط، وقد حكى ابن فياض في تاريخه في أخبار قرطبة، فقال: كان بالرَّبَض الشرقي من قرطبة مائة وسبعون امرأة؛ كلهن يكتبن المصاحف بالخط الكوفي، هذا ما في ناحية من نواحيها فكيف بجميع جهاتها؟(41). 

ومن النساء اللاتي وقفن كتباً فاطمة بنت حمد الفضيلي الحنبلي الزبيرية (ت: 1247هـ = 1831م) وكانت قد قرأت على شيوخ الزبير، وكان لها عناية بجمع الكتب؛ وكانت تدرّس طلابها من وراء حجاب، كما كانت خطاطة بارعة، كتبت بخطها كتبًا كثيرة، وكتبت نسخة للمصحف الشريف. قال د. محمد بن عبدالله السلمان: ومن شهيرات العالمات من النساء فاطمة الفضيلية، الفقيهة المحدثة واللغوية البارعة, التي رويت لها مناقشات بقلمها انتقدت فيها أبا سعيد الأخفش، ولها تعاليق علـــى شروح المنتهى والإقناع(42).

الحلقة السابقة هـــنا

======-

32 - الأنساب للسمعاني (13/8).

33 - سير أعلام النبلاء: الذهبي ط الرسالة (17/277)

34 - الأعلام: للزركلي (4/ 240).

35 - سير أعلام النبلاء: للحافظ الذهبي، ط. الرسالة (5/ 362).

36 - الوافي بالوفيات (3/263).

37 - إنباه الرواة على أنباه النحاة (3/ 304).

38 - سير أعلام النبلاء: للحافظ الذهبي (36/ 38).

39 - الاعتبار: أبو المظفر، مؤيد الدولة، مجد الدين، أسامة بن مرشد بن علي بن مقلد بن نصر بن منقذ الكناني الكلبي الشيزري (ت: 584هـ) حرره: فيليب حتي. ط. مكتبة الثقافة الدينية، مصر (ص: 53).

40 - المصاحف المخطوطة في القرن الحادي عشر الهجري: د. عبد الرحمن المزيني (ص: 40) مجمع الملك فهد لطباعة المصحف.

41 - المعجب في تلخيص أخبار المغرب: عبد الواحد بن علي المراكشي.

42 - المختصر من كتاب نشر النور والزهر في تراجم أفاضل مكة: عبدالله مرداد أبو الخير (ت: 1343هـ) اختصار: محمد سعيد العامودي، عالم المعرفة، جده. 

و«إسهام المرأة في وقف الكتب» دلال الحربي.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين