نيوزيلندا: بحثا عن الضالعين في مذبحة البث المباشر 

استقلّ سيارته برشاقة، وبصحبته بنادق آلية أرفقها بأمشاط محشوّة بالرصاص، وتحرّك في شوارع مدينة كرايست تشيرس بحثاً عن وجهته، في رحلة الدقائق المصوّرة التي ستغيِّر وجه نيوزيلندا في عيون عالمها.

قرّر برينتون تارانت، وهو الاسم الذي قدّم به نفسه للجمهور، أن يصنع حدثاً عالمياً مدوياً سيفيق عليه الكوكب صبيحة الجمعة، الذي أدخِل يوم 15مارس/آذار 2019 في سجلّ الترويع والفظائع المشهودة.

اقترف تارانت المذبحة الوحشية بصحبة البثّ المباشر الذي تجاوز ربع ساعة، وحدّد تفاصيل المشاهد بعناية فائقة، فالبنادق الآلية وأمشاط الرصاص تحمل نقوشاً أيديولوجية متطرفة مكتوبة باليد، والموسيقى التصويرية المسموعة منتقاة بعناية لتخدم الغرض التعبوي المطلوب، أمّا الواقعة المصوّرة فسيشاهدها الكوكب برمّته من زاوية التقاط حدّدتها كاميرا محمولة على الرأس.

بدت مشاهد الاقتحام المسلّح أشبه بلعبة شبكية لا تعبأ بكرامة ضحاياها الذين يتساقطون تباعاً ويتكوّمون فوق بعضهم البعض دون أن تظهر وجوههم التي يمكن التعاطف معها، فالإرهابي يضع مشاهدي المقطع المفزع في موضعه هو؛ أي زاوية المُقتحِم الجسور الذي يستسهل اصطياد ضحاياه كما في ألعاب المحاكاة.

أقدم برينتون تارانت على تحويل ضحاياه الأبرياء إلى مادة للفرجة، وحجبت مشاهده المتعاقبة فرصة الإحساس بكرامتهم الإنسانية، فلا تُرى منهم سوى أبدان انْطوَت على أوجاعها.

ينطلق هذا الصنف من المعتدين من مفاهيم عنصرية تنزع الصفة الإنسانية عن ضحاياهم، فالطلقات التي تستهدف الرؤوس والأبدان تندفع مشحونة بسرديات ثأرية ملفّقة ترى في الأبرياء العزل غزاةً معتدين ينبغي حصدهم بلا هوادة، جزاءً وفاقاً على أوزار مفترضة لم يقترفوها أساساً.

لا تنفك هذه الاعتداءات العنصرية عن فكرة مضلِّلة تنبثق عنها، وهي فكرة يشتدّ عودها في أذهان حامليها مستعينة بثقافة التشويه والتحريض المتدفقة في المنصّات الإعلامية والشبكية إلى حدّ الشيطنة، بما يُفسِح الطريق لارتكاب انتهاكات عملية واقتراف فظائع مُفزِعة على النحو الذي صار الآن مرتبطاً بنيوزيلندا الهادئة أيضاً.

تبدو مذابح كرايست تشيرس شبيهة بوقائع سابقة، من قبيل ما شهدته النرويج في صيف 2011، عندما ارتكب أندرس بريفيك واحدة من أفظع الاعتداءات الإرهابية الدامية في أوروبا. في الحالتين حرص المعتدي على توثيق الفظائع التي يقترفها أولاً بأول، فإن كان تارانت قد نقل واقعة 15مارس/آذار 2019 لحظة بلحظة عبر البثّ الشبكي المباشر؛ فإنّ هذا الامتياز التقني لم يكن متاحاً لبريفيك قبل ثماني سنوات، فاكتفى بالتقاط الصور الملوّنة لضحاياه بدم بارد لتوثيق "إنجازاته" الميدانية بحق شبان وشابات قتلهم تباعاً.

ورغم الفارق الجغرافي الشاسع بين النرويج في شمال الكوكب ونيوزيلندا في جنوبه؛ فإنّ بنادق بريفيك وتارانت ظهرت محشوّة بالرصاص عن آخرها، وتحرّكا لإفراغ الذخائر بدم بارد في أجساد الضحايا الأبرياء بعد أن تعبّأ رأساهما بخطابات الكراهية المتطرفة المبثوثة في الشبكات.

ورغم دوافعه الأيديولوجية المتعصِّبة وتصوّراته التاريخية المتطرفة ومهارته الاحترافية في الإعداد للمذبحة، تعاملت التغطيات الإعلامية والمداولات المجتمعية في أوروبا مع النرويجي بريفيك كما لو كان حالة معزولة هبطت من كوكب آخر، مع التركيز على حصر سلوكه باضطراب الشخصية دون مساءلة خلفيات وملابسات ومؤثِّرات أخرى متّصلة بثنايا الواقع، وهو ما أعاق نضوج ثقافة مجتمعية صارمة في مواجهة حمّى العنصرية الانتقائية التي تستهدف المسلمين.

هكذا تعاقبت الهجمات الإرهابية واعتداءات الكراهية التي تستهدف المسلمين ومساجدهم في أوروبا وبلدان غربية، بما يفوق الحصر، دون إطلاق نقاش مجتمعي عميق وجادّ بشأن دوافعها وملابساتها. قضى التقليد المألوف بحصر هذه الفظائع والانتهاكات، غالباً، في نطاق مرتكبيها المباشرين فقط دون مراجعة سياقاتهم الثقافية والاجتماعية التي قد تكون حرّضتهم على اقتراف المذابح والاعتداءات أو تهاونت مع مقدِّماتها على الأقل.

واقع الحال أنّ سلسلة الاعتداءات المتعاقبة التي استهدفت المسلمين في بلدان غربية على مدار السنوات الماضية، بما أوقعته من ضحايا وإصابات وحرائق وأضرار معنوية ومادية وخسائر قيمية جسيمة؛ لم تكن كافية في عيون النخب والمسؤولين لمساءلة السياقات الثقافية والمجتمعية ومناهج التعليم ومضامين الإعلام والشبكات عن مدى تهاونها مع ما يجري، أو ربما عن مدى مساهمتها المحتملة في استنبات حمّى التطرّف العنصري وإذكاء ثقافة الكراهية والإسلاموفوبيا المتفاقمة.

وبدلاً من أن تقرع اعتداءات الكراهية النواقيس في مجتمعاتها؛ أخذت خطابات الإسلاموفوبيا ترسِّخ أقدامها في الساحة السياسية ضمن الديمقراطيات الغربية، وصارت مُستأنسة في أروقة النخب؛ فصعدت بثلّة من السياسيين إلى صدارة المشهد، حتى تقلّد بعضهم مواقع حكومية وبرلمانية متقدِّمة في بلدان عدّة.

أمّا الاعتداءات التي حمل مقترفوها أسماء مسلمة فأسفرت كل واحدة منها تقريباً عن مساءلات تعميمية جارفة وضعت المسلمين ومجتمعاتهم المحلية تحت مجهر الملاحظة، بدعوى أنّ الأعمال الإرهابية "لا تهبط من كوكب آخر". جرى في كل اعتداء من هذا النوع التحرِّي الاستثنائي عن السياقات الثقافية والموروث الديني، مع تصوير المساجد والأحياء ذات الكثافة المسلمة في عواصم ومدن أوروبية في هيئة مفارخ التطرف ومحاضن الإرهاب. لم ينشأ هذا الوصم بصفة مباشرة أو صريحة دوماً؛ إذ يكفي أن تتناول وسائل الإعلام الأوروبية شؤون المسلمين بصفة استثنائية في سياق التطوّرات الصادمة فقط، ليُنشئ هذا ربطاً ساذجاً في الوعي الجمعي بين الإسلام والمسلمين من جانب ودواعي الفزع والريبة من جانب آخر، وهو تقليد تكرّس منذ الحادي عشر من سبتمبر/أيلول 2001.

أمّا الضحايا المسلمون المتكاثرون فلم يحظوا بالأضواء حتى عندما جاءت الاعتداءات العنصرية مذهلة. في إحدى الحالات، مثلاً، تم ذبح الصيدلانية مروة الشربيني داخل مبنى محكمة ألمانية في يوليو/تموز 2009 بشكل بشع، على يد رجل متطرف معادٍ للمسلمين، وهذا بعد أن لجأت الشابة إلى دولة القانون لإنصافها منه جراء تعدِّياته العنصرية عليه. يكاد يكون اسم الضحية "مروة" منسياً اليوم تقريباً في ألمانيا ذاتها، وهو مجهول تقريباً خارجها.

أمّا مدينة درسدن التي شهدت الجريمة المشهودة فتكرّست معقلاً لتيارات عنصرية متطرفة معادية للمسلمين وتقترف ذيولها مزيداً من الاعتداءات العنيفة والقاتلة. وفي حالة أخرى شهدها فبراير/شباط 2015؛ أقدم متعصِّب أمريكي على قتل ثلاثة طلبة جامعيين في ولاية نورث كارولاينا بدم بارد بدافع العداء للمسلمين، وسرعان ما طوى النسيان وجوه الضحايا: ضياء بركاتويُسر أبو صالحة ورزان أبو صالحة. فمن يذكرهم اليوم في الولايات المتحدة والعالم؟

تمتدّ قائمة الضحايا المنسيين لتستوعب المزيد من الذين وقع تجاهُل فواجعهم سريعاً في بلدان أوروبية وغربية، بما حجب فرص التعاطف المُثلى معهم وخفّف من مسؤولية المساءلة الواجبة على الضالعين في إذكاء ثقافة الاعتداء. يشير هذا إلى حقيقة أنّ وفرة من الهجمات الإرهابية واعتداءات الكراهية التي تستهدف المسلمين والمسلمات أو تتعدّى على مساجدهم ومرافقهم، طواها النسيان سريعاً أو لم يُكترَث بها أساساً. ومن المؤشرات المتاحة أنّ بعض الوقائع التي لم تحظَ باكتراث يُذكَر في حينها أخفت وراءها شبكات إرهابية نشطة، من قبيل سلسلة الهجمات الإرهابية وأعمال القتل التي تواصلت في ألمانيا على مدى عقدين من الزمن دون التعرّف على وجود منظمة يمينية متطرفة تدبِّرها، إلى أن تمّ كشف النقاب عنها بعد فوات الأوان في خريف2011. 

ولا يكاد يمضي أسبوع في أوروبا دون وقوع اعتداء كراهية على مسجد بالتحطيم والتشويه أو بمحاولات الإحراق والإهانة، بينما تواجه المسلمات مزيداً من التعديات المادية واللفظية عليهن في الطرقات ووسائل المواصلات العامة الأوروبية، حسب ما توثِّقه تقارير حقوقية. وما كان لهذا كلّه أن يتكرّس لولا مفاهيم وتصوّرات تتفاعل في رؤوس المعتدين لا يروْن معها المسجد دار عبادة كغيره، ولا المسلمين كباقي البشر، ولا أسلوب تغطية الشعر مجرد قطعة قماش كغيرها من اختيارات اللباس المتعددة. وتواطأت في تكثيف هذه التصوّرات الاستثنائية السقيمة قوى وأطراف تدير مؤسسات وأبواقاً وشبكات وتتبعها أحزاب ومنظمات وجمعيات تسهر على التعبئة والتشويه والتحريض والشيطنة.

ما يُفاقِم المأزق أنّ مواصلة تعريف الإرهابي المعادي للمسلمين بأنه مجرّد شخص مأزوم نفسياً أو يعاني من المتاعب والاضطرابات؛ أغرى حتى الآن بتعطيل دواعي التقصِّي المُلِحّ عن بواعث هذه الاعتداءات وملابساتها الواقعية وشبكاتها الأيديولوجية. كما تمّ إعفاء صناعة الإسلاموفوبيا النشطة، بمراكزها ومؤسساتها وأجهزتها الإعلامية وأبواقها السياسية، من المسؤولية عن إذكاء هذه الحالة المتفاقمة وتوفير الذرائع لها.

اندفعت مذابح نيوزيلندا بالصوت والصورة إلى العالم أجمع لتشي بما بلغته حمّى الإسلاموفوبيا المُعولَمة من ذروة غير مسبوقة، وهي تستعمل الشبكات والبثّ المباشر لتضخيم الوعي بحضورها وتأثيرها. يفرض هذا التطوّر الجسيم استجابة عالمية عاجلة وملحّة في مستوى صرخات الضحايا، التي تردّدت أصداؤها في أرجاء الكوكب صبيحة يوم جمعة.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين