كونوا

في ظلّ ما يحدث في هذا العالم الذي نعيش فيه، نسأل محتارين: لماذا أغلب ما نراه لم يعد مألوفاً لدينا؟ هل هذا العصر الغريب، غير مألوف الملامح، قد ورد ذكره في نصوصنا المحفوظة؟ هل غرابته علامة؟ وهل غربتنا فيه علامة؟ وما هو زادنا في هذه الغربة؟ 

إننا لا نكاد نتوازن، ونحافظ على رشدنا بعد ظاهرة غريبة نراها، حتى نصطدم بمشهد أو ملمح آخر، يصيبنا بالصدمة من جديد، ويكرس غربتنا في هذا الزمن العجيب!

محطات محلية وعربية، وإسلامية وعالمية، تشخصُ لها أبصارُنا، وتتجمّد بسببها أطرافنا، وترتجفُ منها قلوبنا، لا خشيةً مما نراه أو نسمعه فحسب، بل خوفًا من أن لا نعرف ماذا يدور حولنا، فنجمع بين مصيبتين: العجز والجهل، وتكتسحنا غربتان: غربة عن الدين (في الابتعاد عنه)، وغربة في الدين (تحريف فيه وتبديل)!

إنه فعلًا عالم غريب! وأغرب ما فيه نحن!

"غرباء" مدعوون للصلاح والإصلاح في زمن الفساد والإفساد..

"غرباء" هكذا بدأ تاريخنا، وها هو يعيدُ نفسه..

"غرباء"، إلا أننا لا نستغرب هذا الحال، وكيف نستغرب ونحن نقرأ الحديث الذي ورد عن نبيّنا صلى الله عليه وسلم، وقوله: "إن الإيمان بدأ غريبًا، وسيعودُ غريبًا كما بدأ، فطوبى يومئذ للغرباء إذا فسد الناس".

غرباء كانوا، وغرباء عدنا: في بيئتنا، في مجتمعنا، حتى بين أهلنا!

لكن أليس المطلوب من الغريب أن يُحسن وقت إقامته، حتى يحين موعد رحيله؟! استفهام يستدعي التفكير.

وإننا لسنا غرباء فقط، بل نحن غريبون أيضًا!

"غريبون" لظننا بأننا إذا تخفّفنا من التزامات شريعتنا، وضوابط ديننا، فسنكون مقبولين ومألوفين ومحبوبين!

"غريبون" لأننا لم نتعلّم دروسًا من تاريخنا، بأنَّ ضعفنا وعزلتنا ووحشتنا ليس سببها الشعور بالغربة، وعدم التآلف مع الفاسدين، بل السبب الذي أدى إلى ما نعاني منه من انقسام وتشرذم، هو تسابق كثيرين للخروج من حالة الغربة عبر تقرّبهم من المبدّلين، الذي بدلوا ديننا، وتنكّرهم للعلماء المخلصين، وإدارة الظهر لهم، والتطاول عليهم، ومجاملة المتهاونين، والارتماء في أحضان المتنكّرين!

وعلامةُ هذا الزمن العجيب ما ورد في حديثِ نبيّنا صلى الله عليه وسلم الذي دعا فيه أن لا يدركه، فقال عليه الصلاة والسلام: "اللهم لا يدركني زمانٌ – أو قال: لا تدركوا زمانًا- لا يُتَّبع فيه العلم، ولا يُستحيى فيه من الحليم، قلوبهم قلوبُ الأعاجم وألسنتهم ألسنة العرب".!!

ونحن إذ نعيش مع من يستغربون منّا ثباتنا، ويتعجّبون من تمسّكنا بعُرى ديننا، لن نتفاجأ من صنيعهم، أولئك الذين يجذبوننا بطلتهم البهيّة، وكلماتهم الزكيّة، ونبراتهم النديّة، ثم يصدموننا بتعاملاتهم المخزية، وتصرفاتهم المؤذية!

أقوال أؤلئك دررٌ وجواهر وتحف، أما أفعالهم فدمارٌ وجور وحيف!!

تلك زمرة ظهرت جرّاء التبديل والفرقة، وهم سببُ الغُصّة والحرقة، وحتى نتعلم ما لم يكن يتخيّله أحد، ولكي لا نصاب بالخيبة فنيأس ونرقد، ذكرهم نبينا صلى الله عليه وسلم في حديثه، وجلّاهم لنا بأنّهم سيكونون، لنحذر أن نكون منهم، وبأنهم سيحسنون، لننتبه من الاغترار بهم، وبأنهم سيسيؤون، لننهض لرفع الغطاء عنهم..

للأسف، لقد كثُر الذين تنطبق عليهم تلك الصفات، وأصبحوا بيننا بالمئات، وفي كلّ المجالات: في الدين والسياسة، في الفكر والثقافة، في الاجتماع والاقتصاد، في البيع والشراء، في الطب والمحاماة، في الإعلام والتعليم، بتنا نعرفهم بسيماهم: أقوالٌ مبهرة، وأفعال تجرُّ علينا الاستهزاء والمسخرة!

هم المذكورون في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: " سيكون في أمتي اختلاف وفرقة، وقومٌ يحسنون القيل ويسيؤون الفعل". ولسنا محتاجين لإمساك السّراج للبحث عنهم، فليس انفضاض الناس عنّا اليوم إلا نتيجة انفصامهم، وسوء تعاملهِم!

وحتى لا يُفهم عكس المقصود، أودّ أن أشير إلى نقطة مهمة، فليس عيبًا أن يحسّن أحدنا كلامه، ويُجمّل بيانه، ويصحّح لسانه، لكنّ العيب أن لا يجوّد أفعاله، ولا يصوّب أخلاقه، ولا يطابق بين لسانه وجوارحه، لأن الانفصام بين ما يجري على اللسان، وبين ما تشاهده العينان، هو علامة على التردي والخذلان، وعلينا أن نكافحه، حتى لا تزداد الوحشة والغربة بيننا وبين قومنا..

وإذا أردنا أن نكون العلامة الفارقة التي يأنس بها السائرون، علينا أن نلتزم بالقاعدة التي تضمن لنا درجة الوسط الموزون: 

"إن فعلتَ، فليس شرطًا أن تقول، ولكن إن قُلتَ، فنصحتَ، ووعظتَ، وأرشدتَ، ووجّهتَ، فلزامًا ثم لزاماً عليك أن تفعل، وإلا كنت أنتَ شرطًا من أشراط الساعة"!!

وللذين يأكلون بما يقولون- أي ينتفعون بألسنتهم ويتكسبّون منها- فيبيعون الكلمة بالجُّملة والمفرّق، ويشترون، نذكّرهم بعلامة محرجة، لعلهم يرتدعون، فقد ورد من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله: "سيكونُ قومٌ يأكلونَ بألسنتهم كما تأكل البقرة من الأرض".. وكفى به حديثًا لا يحتاج إلى تفصيل!!

وإننا لنسمع في الآونة الأخيرة لازمةً، يكرّرها كثيرون، عندما يتعاملون مع شريحة من المسلمين، يردّدون (أسمع كلامك أصدقك، أشوف عمايلك أستغرب!)، والتي صارت ظاهرةً تحتاج منا إلى "نهضةٍ" و"نفضة". 

"نهضةٌ" قوامها العلم الصريح والفهم الصحيح، والسلوك المتوازن المريح، لنعيش "غرباء"، لكن صادقون، أمناء على ديننا، ثابتون.. 

أما الـ "نفضة" فنحتاجها حتى نُسقط بها حجة (الجميع يفعلون)، ونعطّل نغمة (ماذا بيدي، وأنا وحدي)، لنلقي عن أكتافنا رداء الاتكالية، ويتحمّل كلّ واحد منا المسؤولية، ونبدأ الخطوة الأولى، كلٌ بنفسه، لا لنكون علامة من علامات يوم القيامة، بل لنصير علامة فارقة، تدلّ على قيامةٍ جديدة، ومرحلة رشيدة، نفتخر بأننا ساهمنا بالتجهيز لها، يوم يسألنا الله تعالى عما قدّمنا في حياتنا..

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين