المقامة المدنية

المدينة ما المدينة، كل يوم لها رواء وزينة، فيها رحمة وسكينة، ومأمن وطمأنينة، النفوس والقلوب إليها ترتاح، وتفدى لها المُهَج والأرواح، إلى النبي المصطفى نسبتها، والملائكة المقربون كسوتها، مثوى المهاجرين والأنصار، ومربع الصالحين الأخيار، هم أهل صفائي ومودتي، وذوو وفائي وخلتي، أواخي من آخاهم وأعادي من عاداهم، وأوالي من والاهم وأقالي من قالاهم، أدعو ربي أن أحيا فيها سعيدا، وأموت بها شهيدا.

كلما وافيتها صباحا أو مساء، وحيدا أو مزاملا لأصحاب لي أصفياء، وأويت إلى مأواي، أقبلت على هواي، وقصدت البقعة التي تشد إليها الرحال، في خشوع قلب وقنوت ظاهر وهدوء بال، أؤدي فيها صلاتي، وأقدم إلى النبي وصاحبيه تحياتي، وإذا خرجت من المسجد عرجت على بقيع الغرقد، وداويت نفسي بزيارة القبور عملا بالحديث المأثور، ثم يممت الكرام، والسادة العظام، وجالست العلماء العاملين، وصحبت الشيوخ الصالحين، لايهمني إلا إسناد عال أصيده، أو معنى غال أستفيده.

وغرس نصيبي أثمر، وليل حظي أقمر، إذ وافقت بها شابا من خيرة الشباب، مجبولا على الشمائل والآداب، لا يرتاب في نُبله مرتاب، قضيت أياما في أثره حتى تبينت فصَّ خبره، عِصامي ذو جمال وكمال، شريف أعماما ومحتدَ خال، أبوه من بني عاشور، معروفة مناقبهم مدى الدهور، وأمه من آل سنبل، صلتهم بالحديث لن تذبل، اسمه أحمد، ذو أصالة وسؤدد، ناصعة جبهته كالدرر، ومكحولة عيناه بالحور، وفي ذهنه توقد وشرر، طلق الوجه باسم محياه، تدلك عليه ثناياه، أطروفة المكان، وأعجوبة الزمان، والمشار إليه بالبنان، في فصاحة النطق والبيان، كريم أغرم به الكرام، نافرا طبعه عن وجوه اللئام، يزيدك نوالا، قبل أن تسأله سؤالا، حافظ للأسرار، حفظ اللئيم للدينار، حام للإخاء، راع للوفاء، له نفس أبية، ذات غيرة وحمية، نال بها رتبا علية، إليه للركب الميمون مرغب، ولأهل الحديث والإسناد فيه مكسب. 

إنه عالم عامل، صالح عاقل، له ذكاء وحسن فهم، وعداء لإخوانِ وهمٍ، في روعة فعال، وجودة مقال، أطيب الأصوات لديه، مالكا نفسه عليه، قول القارئ الشجِنِ، أخبرني أو حدثني، ورواية الراوي للحديث المعنعن، ومتبع في الفروع والجزئيات، للعالم القرشي ذي الآيات الباهرات، بعيد عن تعنت المتعنتين، ونزيه عن تزمت المتزمتين، موسع على الناس في الخلاف، وكاره لمذاهب الجهلة الأجلاف.

أخلاقه عالية فوق السحب، والعلا منهن في تعب، حميد الخصال، جامع للعلوم في اعتدال، ماقت للمراء والجدال، غير مستكبر ولا حسود، ولا متباغض ولا حقود، لم يحسن إلى الناس كاسبا، ولم يساعدهم راغبا، عف عن الخنا، وفيما في أيدي الناس في غنى، يتناسى ما مضى من الإخوان من الذنوب، فحفظ الذنوب إذا قدُمن من الذنوب.

التبحر في العلوم له مطلب، وحبذا الطلب، وما يده منذ نشأ نيط بها إلا اليراع والكتب، يفجر المعاني من الصخور، ويسامي في الفضل البدور، مطبوع على العدل والإنصاف، بريء من الظلم والإجحاف، وناصح للإخوان، باغي الخير لهم صافي الجنان، يرعى الجار ولو جار، ويبذل الوصال لمن صال.

وخلاله بغيتي، ومن أسباب مودتي، محبته لقلبي شفاء، أخفيتها فأذاعها الإخفاء، وهو مخالف لسنن عامة الطلاب، الذين أغلقوا دونهم من النبوغ كل باب، أكسد شيء في سوقهم الأدب، وشعارهم التمويه والكذب، متعرضون للاستماحة في معرض وقاحة. 

دار بي على الشيوخ، المعروفين بثبات في العلم ورسوخ، رشدوا فما ضلوا، وعزوا وما ذلوا، واستقاموا وما زلوا، لا يعلق لهم مبار بغبار، ولا يجري ممار معهم في مضمار، شادوا من الفضل المباني، وتعمقوا في الحقائق والمعاني، منهم المجاهد النسيب، محمد نمر الخطيب، عاملني معاملة أديب أريب، وحاورني محاورة قريب لا غريب، والسنوسي مالك، لنهج بيته سالك، على طلابه رحيم شفيق، وبأصحابه كريم رفيق، ومساعد البشير، عالم بصير، متخشع عابد، ومتواضع زاهد، لنعم ربه شكور، وعلى التسميع صبور، اجتليت منهم ما يزري على الربيع الزاهر، ويغني عن رنات المزاهر، وملأت من فوائدهم أطمارا، واستدررت من كرمهم استدرارا، وإن لكرمهم نشرا تنم به نفحاته، وترشد إلى روضه فوحاته.

ونظمني وإخوانا في كل ناد، يشهده العاكف والباد، ولم يخب فيه مناد، نتدارس فيه حديث الرسول، الفروع منه والأصول، ونتداول من الكتب العوالي، والأجزاء والأمالي، والأوائل والنوازل، وجوههم أبلج من الأنوار، وأخلاقهم أبهج من الأزهار، ومناطقهم أرق من نسيم الأسحار، تقاسموا على حفظ الوداد، وعلى حظر الاستبداد، قد شقوا عصا الشقاق، وارتضعوا أفاويق الوفاق، كأسنان المشط في الاستواء، وكالنفس الواحدة في التئام الأهواء، غير سادرين في اللهو، ولا مختالين من الزهو، يناجون الصحابة والتابعين، ويحالفون المتقين الصالحين، منهم عبد الله التوم، طاهر من دناءة أو لؤم، لين الجانب صروم، شريف نسبا، ماجد حسبا، لا يعرف في الطلب تعبا ولا نصبا، لين المقال، للودود والقال، عالم فقيه، فاق فما له من شبيه، ومنهم حامد البخاري، صاحب الخير الجاري، إلى ابن إسماعيل ينتمي، وبعامة أهل الحديث يحتمي، وهو القارئ الذي يطرب السامع ويلهيه، ويقري كل سمع ما يشتهيه، أخلاقه مرضية جدد، طلق الجوانب ظله رغد، ومنهم الداودي صفوان، عالم نبيل نبهان، ذو حلم راجح وشيم كالشهاب اللائح، خطيب فتيق اللسان، وكاتب دقيق المعاني وحسن البيان، مضطلع من العلوم بارع، ولأنواع الفضائل جامع، هم رفقة ظراف، لديهم من العلوم طراف، ونتائج أفكار سديدة، يفضحن كل قصيدة، ما لم يره الراؤون ولا رواه الراوون.

لأحمد علي من الأفضال، ما يعجز عن وصفه المقال، يهش إذا دعي إلى المكارم، ويتوانى عند المشارب والمطاعم، وجدت منه طبا آسيا، ورفدا مواسيا، وبدائع الفوائد طوع عنانه، والسعد والإقبال من أعوانه، لكل جار حين يجري منتهى، وموائد إحسانه مبسوطة لمن آذى، وشر الأضياف من سام التكليف، وآذى المضيف، له عن مذهب المديح غناء، وكأن المديح فيه هجاء، ومن سنن الهوى المريد أن يرى فيه الرشيد غير رشيد، وأعُدُّ قول عاذليَّ فيه هباء، وهل يجهل ذو الناظرين هذا الضياء.

إذا رأيته لم أحفل بغيبة ماجد، وإذا رحلت عنه لم آنس مشهد شاهد، رفع الله هذا المشتق من الحمد اشتقاقا، والمبني على اسم التفضيل استحقاقا.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين