حدث في الخامس من رجب: أزمة أغادير والمواجهة الألمانية الفرنسية في المغرب

في الخامس من رجب من عام 1329 الموافق 7 يوليو من عام 1911، أرسلت ألمانيا الطرّاد البحري بانثر إلى ميناء أغادير المغربي الواقع على المحيط الأطلسي، بحجة حماية المصالح والرعايا الألمان من عواقب الاضطرابات التي اجتاحت المغرب، وكان ذلك في الواقع تلويحاً بالقوة لفرنسا بعد احتلالها فاس عاصمة المغرب بدعوى المحافظة على الأمن والنظام، وكان لهذه الحادثة، التي تسمى أزمة أغادير، انعكاسات هامة على صعيد الاستعمار الأوربي في أفريقيا، وتعد إحدى المعالم المؤدية للحرب العالمية الأولى.

ويبدأ السياق التاريخي لهذا النزاع بين الدولتين من احتلال فرنسا للجزائر منذ سنة 1830، وإعلانها في سنة 1870 أن الجزائر جزء من فرنسا وبدئها في توطين الفرنسيين فيها، وكان من الطبيعي لدولة بنت سياستها الخارجية على الاحتلال والاستعمار أن تخطط للتوسع الاستعماري جنوباً في تشاد وغرباً في المغرب الأقصى الذي كان يدعى آنذاك مراكش.

ولم تكن فرنسا تتوسع في فراغ فقد كان الاستعمار والتسلط على الشعوب الضعيفة أساس سياسة الدول الأوروبية الكبرى في تلك الحقبة، وكانت فرنسا تنافس بريطانيا وألمانيا وأسبانيا وإيطاليا وبلجيكا في احتلال البلاد وبسط سيطرتها عليها، ولذا فقد كانت هذه الحادثة حلقة في سلسلة متصلة من المنافسة بين الدول الأوروبية الاستعمارية في أواخر القرن التاسع عشر الميلادي، والتي ابتدأت بين ألمانيا وبين بريطانيا من جهة، وبين كل منها وبين فرنسا من جهة أخرى، وتوصلت بريطانيا وألمانيا إلى تفاهم توجتاه في سنة 1890 بعقد معاهدة لتخطيط الحدود بين مستعمراتهما في أفريقيا، ثم عقدت بريطانيا وفرنسا في سنة 1898 معاهدة لتحديد مستعمراتهما في حوض النيجر وغرب إفريقية، ثم عقدتا معاهدة أخرى في سنة 1899 على إثر حادثة فاشودة في السودان وفيها تنازلت فرنسا عن دعاويها في أعالي النيل.

وفي نيسان/أبريل من سنة 1904 عقدت فرنسا معاهدة سرية مع أسبانيا تقاسمتا فيها المغرب، ثم توصلت مع بريطانيا إلى ما سمي بالاتفاق الودي Etente Cordiale، والذي اتفق بموجبه البلدان على تحديد مناطقهما الاستعمارية في شمال ووسط وغرب أفريقيا وفي جنوبي شرق آسيا، وتضمن الاتفاق فيما يتعلق بالمغرب ألا تعارض فرنسا الاحتلال البريطاني لمصر مقابل إطلاق يدها في المغرب، مع تعهدها بمراعاة المصالح الأسبانية فيه.

وجرت هذه الأحداث وسلطان المغرب هو المولى عبد العزيز بن الحسن الأول العلوي المولود سنة 1298=1881، والذي تولى الحكم بعد وفاة والده سنة 1894= 1311 تحت وصاية الوزير القدير الداهية أحمد بن موسى، وكان وزيراً ابن وزير ابن وزير، وهو الذي حكم لوحده البلاد فعليا، وبقي المولى عبد العزيز كالمحجور عليه في قصره رغم ظهوره أمام المغاربة في المناسبات الدينية والرسمية.

ولما توفى الوزير سنة 1318= 1900 باشر مولاي عبد العزيز الحكم بنفسه، وكان مشغوفاً مسحوراً بالمخترعات الغربية مثل السيارة والكهرباء والتصوير والسينما والمناطيد والألعاب النارية، يقضي جزءاً كبيراً من وقته لاهياً فيها، وينفق عليها الأموال الطائلة دون حساب، وأحاط نفسه بمستشارين مغاربة وأوروبيين كان همهم الأكبر إثراء خزائنهم على حساب الدولة، فأثار بذلك غيرة الطبقة الحاكمة ونقمة الشعب، وبخاصة أنه كان يسخر من رجال الدين ويحتقرهم، فمهد هذا السلوك الأجواء لاندلاع تمردين خطيرين استنفدت مواجهتهما خزينة الدولة، وأغرق السلطان البلاد في الديون التي اقترضها من البنوك الأوروبية لقمعهما وكذلك لمصاريفه الخاصة.

وكان العرش العلوي يواجه تمرداً داخلياً ينمو ويشتد منذ أن قام به في سنة 1901 متمرد تمتع بالحنكة والدهاء والخبرة بالسلطة وهو عمر بن إدريس الجيلالي الزرهوني، المولود سنة 1860، والذي لقب بوحمارة لأنه في بداية دعوته كان يتنقل على حمارة.

وكان هذا المتمرد قد عمل من قبل في القصر السلطاني فعرف دخائل الأمور وكيف تدار الدولة، وانتهز فرصة المشاكل الداخلية والخارجية التي أحاطت بالسلطان الشاب عبد العزيز، فدعا لنفسه قائلاً إنه محمد ابن السلطان الحسن الأول، والذي كان مسجوناً عند أخيه، واستخدم بوحمارة الإرهاب والإمعان في التنكيل والقتل مع خصومه، واستطاع في سنة 1902 هزيمة جيش السلطان فصار كيانه محترماً معتبراً، وبسط سلطته على أواسط المغرب بتأييد وإمداد من فرنسا وإسبانيا اللتي رأت فيه خير وسيلة لإضعاف السلطان الشرعي، وبخاصة عندما منح شركات فرنسية وإسبانية امتيازات مناجم الرصاص والحديد.

وكان التمرد الثاني هو تمرد الشريف أحمد بن محمد الريسوني، المولود سنة 1270=1854، الذي خرج على السلطان في سنة 1904 ودعا إلى ثورة عامة على حكومة المخزن وعلى الفرنج، واستولى على ما حول طنجة من الريف الخاضع للسلطة الفرنسية، واختطف الريسوني رعايا أجانب مقيمين في طنجة ونواحيها، فأرسلت الولايات المتحدة وبريطانيا سفنها الحربية إلى السواحل المغربية، فاضطر السلطان عبد العزيز إلى مصالحته اتقاء لشره وليتفرغ لمواجهة ثورة بوحمارة، وانتهى الأمر بتعيينه معتمدا للسلطان عبد العزيز في طنجة، فأعاد الأمن إليها وإلى ضواحيها، وكان له شبه استقلال فيها، يحكم باسم السلطان عبد العزيز ولا سلطان لعبد العزيز عليه.

وكان عبد العزيز في خضم هذه الأحداث يركن إلى بريطانيا ودعمها ليوازن بها المطامع الفرنسية في بلاده، فلما صار الاتفاق الودي بين بريطانيا وبين فرنسا كان ضربة قاصمة له، فمال لتنمية العلاقات مع ألمانيا، فقد كان الاتفاق الودي وما يمهد له من توسع استعماري يتعارض مع مصالح ألمانيا السياسية والاقتصادية، فمن الناحية السياسية كان من شأن التفاهم البريطاني الفرنسي أن يزيد من عزلة ألمانيا ويضعفها في مواجهة منافستيها اللتين لا تكنان لها مشاعر المودة، ومن الناحية الصناعية كانت ألمانيا آنذاك الدولة الأولى أو الثانية في العالم، وكانت أسواق المستعمرات البريطانية والفرنسية موصدة الأبواب أمام المنتجات التي لم تصنعها الدولة المستعمرة، ولذا نادت ألمانيا بسياسة الباب المفتوح التي تسمح لمنتجاتها بالدخول إلى المستعمرات دون عوائق.

ولتظهر ألمانيا عدم موافقتها على الاتفاق الودي، استعرضت قوتها، وقام الإمبراطور الألماني وليلم الثاني بزيارة ميناء طنجة المغربي، والتقى فيه بمولاي عبد العزيز، وفي يوم 31 آذار/مارس 1905 ألقي القيصر من على متن يخته خطبة ندد فيها بسياسة فرنسا الاستعمارية، وأيد فيها استقلال المغرب وسلامة أراضيه، ودعا إلى تسوية المسألة في مؤتمر دولي، فاستنكرت فرنسا فعله واعتبرته عملاً عدائياً وعارض الرأي العام فيها المشاركة في المؤتمر، ودفع ذلك ألمانيا للتهديد بتوقيع اتفاق تحالف دفاعي مع السلطان المغربي، فزاد ذلك في توتر الأجواء الدولية وتلبدت سحب الحرب في سماء أوروبا، ولكن الرئيس الأمريكي روزفلت تدخل بعد تردد ليدرأ خطر الحرب، وأقنع فرنسا بالمشاركة في المؤتمر وبخاصة أن بريطانيا دعمت الموقف الفرنسي إذ لم ترغب في أن يكون لمنافستها الأقوى، ألمانيا، نجاح في طموحاتها السياسية الدولية.

وعقد المؤتمر في مدينة الجزيرة Algeciras في جنوب شرقي إسبانيا، وذلك في أول سنة 1906، وشاركت فيه ألمانيا والنمسا وبريطانيا وفرنسا وروسيا وإسبانيا وأمريكا وإيطاليا وهولندا والسويد والبرتغال وبلجيكا وأخيراً المغرب، وبعد قرابة 3 أشهر من انعقاده انفض المؤتمر على غير النتائج التي توختها ألمانيا، فقد أظهر المؤتمر عزلة ألمانيا الأوروبية، وقرر الألمان القبول باتفاق يبدو في ظاهره استجابة لمطالبهم، ولكنه من الناحية العملية تمخض عن امتيازات جديدة لصالح فرنسا وإسبانيا، جاءت تمهيداً لاحتلالهما للمغرب. 

فقد أعلنت الدول الأوربية المجتمعة التزامها باحترام سيادة سلطان مراكش، ووحدة بلاده، وبقائها بلاداً مفتوحة لتجارة الدول، وميداناً للنشاط الأممي، ولكن بحجة منع تهريب السلاح الذي قد يستعمل في قتل الأجانب، أعطى المؤتمر فرنسا وإسبانيا حق تنظيم الشرطة في الموانيء المغربية الست التي يوجد فيها رعايا أجانب، وأن يكون المفتش العام للشرطة من سويسرا، وبحجة ضبط الإنفاق الحكومي على أساس متوازن، لا يتم فيه إصدار النقد إلا إن كان مغطى بالذهب، أنشأ المؤتمر بنك المغرب الحكومي الذي سيقوم عليه مصرفيون أوربيون من البنوك المقرِضة لمدة 40 سنة، وبحجة تشجيع الاستثمار منح المؤتمر الأوروبيين حق تملك الأراضي المغربية، ولضبط موارد الدولة أوكل المؤتمر إلى فرنسا مراقبة مصلحة الجمارك المغربية كما قرر فرض الضرائب لتمويل المنشآت العامة كالطرق والجسور والسكك الحديدية.

ورفضت البعثة المغربية المصادقة على قرارات المؤتمر التي أثارت غضب الأوساط الدينية والشعبية لما تضمنته من فرض وصاية مقنعة على مقدراته الاقتصادية، ولا تزال مضرب المثل اليوم في المغرب للشروط التعجيزية القاسية، فيقال: مثل شروط الخزيرات، وعمَّ الاستياء من الملك الشاب القليل الحنكة والضعيف التدبير، وبدأت سيطرته على الدولة والبلاد في التفلت، وبخاصة بعدما أصدر مرسوماً بالموافقة على قرارات المؤتمر في يوليو 1906، وقامت فرنسا بعد المؤتمر بشهر بتوقيع ميثاق قرطاجة مع إسبانيا وبريطانيا الذي التزمت فيه هذ الدول بعدم تغيير الأوضاع القائمة في غرب المتوسط وشواطئ الأطلسي، وتحت ستار الاتفاق احتلت فرنسا وجدة في سنة 1907، ثم قام 6000 جندي فرنسي في سنة 1908 باحتلال الدار البيضاء.

وكان عبد العزيز في سنة 1904 قد عين أخاه الكبير المولى عبد الحفيظ، المولود سنة 1280=1863، عاملاً له على مراكش، فلما عم الغضب والاستياء دعاه الزعيم المدني الكلاوي والقبائل التي معه لتولي السلطنة في سنة 1325=1907، وانقسمت الدولة بين عبد العزيز في فاس وأخيه عبد الحفيظ في مراكش، واتخذ عبد الحفيظ من الفرنسيين أولياء، وكان عبد العزيز كما رأينا يستند إلى الألمان، وأنعمت فرنسا على عبد العزيز بوسام جوقة الشرف ومنحته قرضاً كان بأمس الحاجة إليه لمقاومة أخيه، فزادت المشاعر المعادية له بين العلماء والناس، وقام علماء فاس بخلعه في آخر سنة 1326=1908 وبايعوا أخاه مولاي عبد الحفيظ، وأراد شن حملة سارت من الرباط إلى مراكش بعد ذلك بشهور، ولكن جيشه انفض من حوله وهرب هو إلى القوات الفرنسية في الدار البيضاء، ثم اتفق مع أخيه على أن يتنازل له عن العرش، في أواخر سنة 1326=1908، وقضى بقية حياته في طنجة حتى توفى سنة 1362=1943.

ومما ورد في بيعة السلطان عبد الحفيظ التي أنشأها علماء فاس: ويسعى جهده في رفع مـا أضر بهم من الشروط الحادثة في الخزيرات، حيث لم توافق الأمة عليها ولا سلمتهـا، ولا رضيت بأمانة من كان يباشرها، ولا علـم لها بتسليم شئ منها، وأن يعمـل وسعه في استرجاع الجهات المأخوذة مـن الحدود المغربية، وأن يباشر إخراج الجنس المحتل من المدينتين اللتين احتل بهما، ويزين صحيفته الطاهرة بحسنة استخلاصهما، وأن يستخير الله في تطهير رعيته من دنـس الحمايات، والتنزه عن اتباع إشارة الأجانب في أمور الأمة، لمحاشاة همتـه الشريفة عن كل ما يخل بالحرمـة، وإن دعت الضرورة إلى اتحاد أو تعاضد، فليكن مع إخواننا المسلمين كآل عثمان وأمثالهـم ببقية الممالك الإسلامية المستقلة، وإذا عرض ما يوجب مفاوضة مـع الأجانب في أمـور سياسية أو تجـارية، فلا يبرم منها إلا بعـد الصدع به للأمة، كما كان يفعله سيدنا المقـدس الحافظ للذمة، حتى يقـع الرضا منها بما لا يقدح في دينها ولا في عوائدهـا ولا في استقـلالها وسيادة سلطانها، وأن يوجـه أيده الله وجهتـه الشريفة لاتخاذ وسـائل الاستعداد، للمدافعـة عـن البلاد والعباد، لأنها أهم ما تصـرف فيه الذخائر والجبايات، وأوجب ما يقدم في البدايات والنهايات.

وكان لشابين من علماء الأسرة الكتانية في المغرب دور هام بين علماء القرويين في خلع السلطان عبد العزيز، فقد كتب محمد عبد الحي بن عبد الكبير الكتاني، المولود سنة 1305=1888 والمتوفى سنة 1382=1962، وصاحب الثبت المشهور: فهرس الفهارس، كتاباً أسماه: مفاكهة ذوي النبل والإجادة، قال فيه عن السلطان عبد العزيز: استبدل مجالسة أهل العلم والاقتباس بالأرذال المتجردين عن المعارف واللطائف! وأدان الكتاني تلاعب الوزراء بميزانية الدولة واختلاسهم وتسلطهم على أموالها، وكان عاقبة ذلك أن سجنه السلطان سنة 1907، ولعل ذلك سبب ما يقوله عنه الأستاذ الزركلي في الأعلام: وكان منذ نشأته على غير ولاء للاسرة العلوية المالكة في المغرب ... ولما فُرضت الحماية الفرنسية على المغرب انغمس في موالاتها.

والشاب الآخر هو أخوه أبو الفيض الكتاني، محمد بن عبد الكبير، المولود سنة 1290=1873 والمتوفى سنة 1327= 1907، ومؤسس الطريقة الكتانية بالمغرب، والذي كتب شروط البيعة للسلطان عبد الحفيظ، والتي تضمنت كما رأينا تقييد السلطان بالشورى، فحقدها السلطان عليه، فساءت حالة وضاقت معيشته فخرج من فاس سنة 1327 قاصدا بلاد البربر، ومعه جميع أسرته من رجال ونساء، فأرسل السلطان الخيل في طلبه وأعيد بالامان، فلم يلبث أن اعتقل مصفدا بالحديد هو ومن كان معه حتى النساء والصبيان، وسجن حتى مات.

وحشد السلطان الجديد ما توفر لديه من قوات وهاجم القوات الفرنسية في الدار البيضاء، ولكن الفرق كان شاسعاً بين جيشه وبين الحامية الفرنسية ففشل الهجوم، وكان هذا أول فشل يعترضه، وكان الفشل الثاني والأهم هو عجزه عن معارضة قرارات مؤتمر الجزيرة الخضراء، فقد تعرض لتهديد الدول الأوربية التي قررت عدم اعترافها به إلا بعد اعترافه بتلك القرارات، مما أجبره على قبولها، وتمكن السلطان عبد الحفيظ من الحصول على قرض من فرنسا بمبلغ 104 مليون فرنك مما مكنه من تمويل الجيوش التي سيرها للقضاء على ثورة بوحمارة وقتله في سنة 1909، واتصل السلطان بالدولة العثمانية التي كانت تحت سيطرة جمعية الاتحاد والترقي، واستقدم بعثة عسكرية منها قوامها 11 ضابطاً يرأسهم جمال بك الغزي، ولكنها لم تحقق أهدافها في الحلول محل البعثة العسكرية الفرنسية وتدريب جيش مغربي حديث، فلم يتعاون معها القادة المغاربة وعملوا على إفشالها، وكلفوها بقيادة حملات لقمع بعض المناطق المتمردة دون أن يكون لدى أفرادها خبرة في الأرض وأهليها، ففشلت هذه الحملات وعادت البعثة من حيث أتت.

وفي سنة 1911 قام أخو السلطان المولى زين العابدين بثورة في مكناس ونجح في الاستيلاء عليها، وألف حكومة، ودعا إلى نفسه، وحاصرت قواته العاصمة فاس، ولم يكن لدى عبد الحفيظ ما يستطيع به دفع هذا التمرد، فطلب من الحكومة الفرنسية التدخل، وسرعان ما أجابت وساعدته في القضاء على ثورة أخيه، فعفا عنه.

وإزاء هذا التوسع الفرنسي في بسط النفوذ والسيطرة على المغرب، قامت إسبانيا باحتلال كل من العرائش والقصر الكبير وأصيلة، واعتبرت ألمانيا ذلك خرقاً لمعاهدة مؤتمر الجزيرة الخضراء، وكما أشرنا في البداية بادرت بإرسال الطرّاد بانثر لسواحل أغادير بحجة الاستجابة لنداء مُقاوِلِين ألمان بِوادي سوس كان عددهم أربع أشخاص فقط، ثم لحقت به البارجة برلين، وطالب القيصر الألماني أن يكون لألمانيا مكانة تحت الشمس تناسب قوتها الاقتصادية والعسكرية.

وكانت ألمانيا تقدر أن بريطانيا ستقف إلى جانبها مستنكرة خرق معاهدة مؤتمر الجزيرة، وأن هذا بدوره سيضعف التقارب الفرنسي البريطاني الذي أسسه الاتفاق الودي، ولكن رياح السياسة جرت بما لا تشتهي برلين، فقد أعلنت بريطانيا مساندتها لفرنسا بعد اندلاع الأزمة، فلم يكن من مصلحتها البتة أن يكون للحكومة الألمانية نفوذ أو وجود قريب من مضيق جبل طارق، ورفضت الحكومة الفرنسية بصرامة أية تنازلات، ولم تستبعد إمكانية إعلانها الحرب على ألمانيا، وحشدت فرنسا أسطولها بالقرب من سواحل المغرب في البحر المتوسط والمحيط الأطلسي، وحرك البلدان قواتهما إلى مناطق الحدود بينهما، وتصاعد قرع طبول الحرب حتي قيل إنها وشيكة لا ريب فيها.

ولكن الحكومات الواعية تتجنب خوض الحروب إلا مع خصم ضعيف ضمنت انتصارها عليه، وأدركت الحكومة الفرنسية رغم تصلبها مخاطر وتكاليف اندلاع الحرب بين فرنسا وبين ألمانيا، فأجرت الدولتان مفاوضات انجلت عن تخلي ألمانيا عن موقفها من الوجود الفرنسي في المغرب مقابل أن تتخلـى لها فرنسا عن قسم من مستعمراتها في أفريقيا الوسطى، ووقع الطرفان الاتفاق في 4 تشرين الثاني/نوفمبر 1911، وغادرت السفن الألمانية خليج أغادير بعد 3 أسابيع.

ولتضفي فرنسا على احتلالها شكلاً قانونياً، أجبرت عبد الحفيظ في 30 آذار/مارس 1912 على توقيع معاهدة جعلت المغرب محمية فرنسية، ولا يزال المغرب يعاني من آثارها إلى يومنا هذا في الصحراء المغربية، فقد قامت فرنسا في تشرين الثاني/نوفمبر من نفس العام بتوقيع اتفاقية مع إسبانيا تقاسمتا فيها المغرب، وحصلت بموجبها إسبانيا على محمية في شمال المغرب تضم الريف في المنطقة الشمالية المحيطة بطنجة، وإفني على ساحل الأطلسي في الجنوب الغربي، والصحراء الغربية في الجنوب، وما عدا ذلك يبقى تحت الحماية الفرنسية باستثناء مدينة طنجة التي خضعت لحماية دولية.

وعلى إثر معاهدة الحماية انتفضت مدن المغرب واستطاعت جيوش قبائله في الشمال أن تهدد المحتل الفرنسي تهديداً خطيراً، وكان السلطان عبد الحفيظ على اتصال بالثوار، فقد كان عدوا لدودا لمعاهدة الحماية، وحاربها طويلا، ووضع أمامها العقبات، ولذلك أجبره المقيم العام الفرنسي الجنرال ليوطي على التنازل عن العرش لأخيه يوسف، وكان السبب الرسمي: انحراف صحته، ورحل على طراد فرنسي إلى مرسيليا، ومنها ذهب إلى فيشي، ففرساي، وعاد إلى طنجة، وذهب إلى الحج في سنة 1913 فنشبت الحرب العالمية الأولى في إبان ذلك، فحرمت عليه فرنسة العودة إلى بلاده، فاستقر في أسبانيا إلى سنة 1925 حيث سمحت له فرنسا بالسكنى في قرية فرنسية تدعى أنجيان لو بان فبقي فيها حتى وفاته سنة 1356=1937، وحمل إلى المغرب ودفن بفاس.

وكان عبد الحفيظ فقيها أديبا، له مؤلفات في مصطلح الحديث والأصول والفقه، وله قصيدة من ستين بيتا في كتابه براءة المتهم، يصف فيها إحباطه من إعراض قومه عن الجهاد وإقبالهم على الدنيا، يقول فيها:

أآمر بالقتال وجُلُّ قومي ... يرى أن الحماية فرض عين

أآمر بالجهاد ومال قومي ... تلاشى في لذائذ خصلتين

فإسراف النكاح وشر أكل ... فلا ترجى الكنوز لغير ذين

وهكذا تولى عرش المغرب في سنة 1330=1912 المولى يوسف، وهو أصغر إخوته وولد سنة 1297=1880، الذي بويع له وهو في الرباط، فنقل العاصمة إليها من فاس، ثم جاءته بيعة مكناس وفاس، ولكن الهيمنة الفرنسية دعت ثائراً آخر ليعلن الجهاد وإنقاذ البلاد في أطراف مراكش، وهو أحمد الهيبة ابن الشيخ ماء العينين الشنقيطي، الذي كان والده شيخا للسلاطين من قبل ثم واليا على تندوف، ثم ثار على الفرنسيين وقاتلهم حتى وفاته سنة 1910، وأعلن الهيبة أن اتفاقية فاس تنقض بيعة السلطان ودعا إلى نفسه فلبته أسر عريقة وقبائل قوية، فحاصر مراكش ودخلها عنوة، بعد بيعة المولى يوسف بأربعة أيام، وبويع فيها سلطانا للمغرب الأقصى، فأرسلت الحكومة الفرنسية جيشا قاتله في معركة سيدي بوعثمان، ففر من أمامهم، ومالبث بعض حلفائه أن خانه واستجاب لإغراءات للفرنسيين وانفض من حوله، فانسحب الهيبة إلى سوس، ولم يتوقف عن مقاومة الاحتلال حتى وفاته في سنة 1337=1919، ليتابع أخوه الجهاد من بعده.

واندلعت في سنة 1921 ثورة في شمال المغرب الذي يسمى الريف، وهو أغلب سواحل الشمالية المطلة على المتوسط والأطلسي، قادها الأمير محمد عبد الكريم الخطابي، المولود سنة 1299=1882، والذي كان سليل بيت علم وجهاد، من قبيلة ورياغل إحدى كبريات القبائل البربرية في جبال الريف، وكان حافظاً للقرآن ومن خريجي القرويين بفاس، ودرس القانون في إسبانيا كذلك، وتولى قضاء مليلة للإسبان، ولما بدأت إسبانيا في استعمار الشمال على الطريقة الفرنسية التي تهدف لمسخ الهوية العربية المسلمة تحول آل الخطابي من التعايش مع الإسبان إلى مقاومتهم، وكان والده أول من عارضهم، وتوفي والده بعدها بقليل فآلت لمحمد رئاسة قبيلة ورياغل، فقاتل الإسبان، وكانت نقطة التحول في ثورته عندما انتصر على الإسبان في معركة أنوال في أواخر 1339= يوليو 1921، فظفر بهم ظفراً أذلهم بعد أن تبجح الجنرال سلفستري أنه سيهزم الخطابي ويشرب الشاي في بيته.

وتتابعت معارك الخطابي مع الإسبان المستعمرين، وانضمت إليه قبائل البرير حتى قدر جيشه بمئة ألف، وفي سنة 1340=1921 أسس جمهورية الريف، وأدارها كدولة حديثة فيها معالم الدول المستقلة كالدستور والبرلمان والإدارة والجباية والتعليم والمستشفيات، وأرسل الوفود لدول العالم يشرح قضية الريف ويطالبها بالاعتراف بجمهوريته، وهو في الوقت ذاته يدعو الإسبان للتفاوض على الانسحاب من بلاده، ولما تلكأت إسبانيا في التفاوض، كان من جواب حكومته: إن الحكومة الريفية - التي تأسست على قواعد عصرية وقوانين مدنية - تعتبر مستقلة سياسيا واقتصاديا آملة أن تعيش حرة كما عاشت قرونا وكما تعيش جميع الشعوب ... وإننا نعجب أيضا كيف أنكم تجاهلتم أن مصالح إسبانيا نفسها هي مسالمة الريف والاعتراف بحقوقه واستقلاله والمحافظة على علائق الجوار وتمتين عرى الاتحاد مع الشعب الريفي عوضا عن التعدي عليه وإهانته وهضم حقوقه ... ولا يسعني إلا أن أصرح لكم تصريحا نهائيا أن الريف لا يعدل ولا يغير خطته التي سار عليها الوفد وهو أنه لا يفتح المخابرة في الصلح إلا على أساس اعتراف إسبانيا باستقلال الريف.

وخاف الفرنسيون امتداد الثورة إلى داخل المغرب فحالفوا الإسبان، وأطبقت عليه الدولتان، واستعملت إسبانيا في حربه الأسلحة الكيماوية، فاستسلم مضطرا إلى الفرنسيين في 12 ذي القعدة سنة 1344= 25 مايو 1926، بعد أن وعدوا بإطلاقه، ولكنهم نكثوا وعدهم ونفوه مع أخ له وبعض أقربائهما إلى مستعمرة جزيرة رينيون في بحر الهند، شرقي إفريقية حيث مكثوا عشرين عاما، وأريد نقلهم إلى فرنسا سنة 1366، فلما بلغت باخرتهم قناة السويس في مصر كان شباب من المغاربة قد هيأوا لهم أسباب النزول من الباخرة في بور سعيد فنزلوا واستقروا في القاهرة، واتصل الخطابي بدعاة مصر وفضلائها وكبارها، وعلى رأسهم الأستاذ حسن البنا وأعجب به وبدعوته، ولم يتوقف من التردد عليه حتى اغتياله، وتوفي الخطابي بسكتة قلبية في رمضان من سنة 132= 1963، رحمة الله عليه.

وسار الفرنسيون في ترسيخ الحماية والسيطرة على المغرب على هدي خبرتهم في الجزائر وتونس، فنزعوا جلائل الاعمال من أيدي المغاربة، فأزيلت وزارة البحر والخارجية لأن المقيم العام الفرنسي صار وزير الخارجية والحربية للسلطان، وتولى إدارة المالية موظفون فرنسيون، ووضعت فرنسا يدها على الحبوس والأوقاف، وانتزعت أملاك الدولة لتوزعها على المستعمرين من الفرنسيين، وبقي السلطان المولى يوسف لا حول له ولا طول حتى توفي سنة 1346=1927.

ولكن كانت هناك فروق هامة بين المغرب وبين الجزائر وتونس، أولها أن المغرب تمتع باستقلال عريق دام قرابة 1000 سنة، ولم يخضع حتى للسلطنة العثمانية رغم علاقاته الودية معها بناء على آصرة الإسلام، والأمر الآخر أن العلم الشرعي كان مزدهراً لقرون طويلة في المغرب، فأوجد طبقة من العلماء وفيرة العدد وئيقة العلاقة بالسلطان وقوية التأثير في قيادة المجتمع، وثالثها أن مؤتمر الجزيرة الخضراء على ازدواجية مقرراته أكد على استقلال المغرب وسلامة أراضيه، ولذا اضطر الفرنسيون للمحافظة على خرافة أن السلطان يحكم مستقلاً وهم يقدمون النصيحة لا غير!

وتلا المولى يوسف ابنه الملك محمد الخامس، المولود سنة 1329=1911، ولم يكن محمد أكبر إخوته وإنما قدَّمه للعرش توهم الفرنسيين فيه الانقياد إليهم، لهدوء طبعه وصغر سنه، فعكف على الدرس، يأخذ عمن في قصره من العلماء، والتفت إلى إصلاح القرويين بفاس وتنظيم خزانته وترميم بعض المساجد، وأنشأ مدارس، منها كلية ابن يوسف بمراكش، ولما اكتمل شبابه اتصل في الخفاء بأهل الوعي من حملة الفكرة التحررية في بلاده، متجاوبا معهم في نجواهم وشكواهم.

وأصدر الفرنسيون سنة 1930 ما يسمى الظهير البربري، جاعلين للبربر حق التقاضي على أساس العرف عندهم والعادات، إبعادا لهم عن محاكم سائر المسلمين، فكانت احتجاجات المغاربة عليه، عربا وبرابر، أول مظاهر اليقظة العامة في المغرب، ولما نشبت الحرب العالمية الثانية في سنة 1939 وهزم الألمان الجيوش الفرنسية هزيمة مخزية، وأنشأوا حكومة فيشي العميلة في فرنسا، قوّى ذلك من عضد الملك محمد الخامس فاتخذ عدداً من القرارات عصى فيها رغبة فرنسا الفيشية، منها قرار للتمييز ضد اليهود، ولما نزلت القوات الحليفة على سواحل المغرب في سنة 1942 رفض أمر المقيم الفرنسي أن يرحل إلى الداخل، والتقى في سنة 1943 بالرئيس الأمريكي روزفلت في زيارته للمغرب لحضور مؤتمر الدار البيضاء، وذكّره بالعلاقات الوطيدة بين البلدين وأن المغرب كان أول دولة اعترفت بالولايات المتحدة الأمريكية عند ثورتها واستقلالها عن المستعمر البريطاني، وترك هذا اللقاء أثراً طيباً في نفس الرئيس الأمريكي الذي أصبح من أنصار استقلال المغرب وزوال الاستعمار الفرنسي.

وألفت مجموعة من الوطنيين المغاربة كتلة العمل الوطني السرية التي ظهرت إلى العلن في سنة 1937 تحت اسم حزب الاستقلال، وكان من أبرز رجاله الزعيم المغربي علال بن عبد الواحد الفاسي، المولود سنة 1326=1908 والمتوفى سنة 1394=1974، وكان محمد الخامس يؤيد الحزب سراً، وفي سنة 1944 قدمت الشخصيات الوطنية المغربية عريضة إلى السلطان والحكومات الحليفة بما فيها فرنسا تطالب فيها بالاستقلال، فرفضتها فرنسا وزجت بالوطنيين في السجون، وانتقل محمد الخامس إلى العلن في تشجيعه لحركة الاستقلال، يحرض على الفرنسيين وينصر المطالبين بجلائهم، ويمتنع عن إمضاء ما يعرضون عليه من مراسيم، فخلعوه في 20 أغسطس 1953، ونفوه إلى إلى جزيرة أجاكسيو في كورسيكا، ثم إلى مدغشقر، ونصبوا على العرش صنيعة لهم من الأسرة العلوية هو ابن عم الملك محمد بن عرفة.

ورفض العلماء والشعب مبايعة السلطان الذي أتى به الفرنسيون وثار المغرب حواضره وبواديه مدة سنتين، فعاد الفرنسيون إلى مفاوضة محمد الخامس في منفاه، وأخرجوا ابن عرفة إلى طنجة، وعاد محمد الخامس إلى المغرب وأعلن استقلال المغرب في 3 مارس 1956، ليبدأ صفحة جديدة في تاريخه العريق.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين