تجربة الحرب الفيتنامية (2) متحف بقايا الحرب

بقية القصة نستكملها بالعودة من ساحة المعركة في "كو تشي" إلى قصر الاستقلال ومتحف بقايا الحرب بمدينة "هو شي من" .

نبدأ من قصر الاستقلال الذي مَثَّلَ الفصل الأخير من الحرب ، حيث بسقوطه عام 1975 بعد انسحاب الأمريكان بثلاث سنوات انتهت الحرب وتم توحيد شطري فيتنام الشمالي والجنوبي ، وبالتبعية أعلنت الشيوعية الانتصار في حربها ضد شطرها الجنوبي الموالي للأمريكان ، ومن يومها وفيتنام جمهورية اشتراكية لا تسمح بتعدد الأحزاب ويحكمها حزب واحد ووحيد هو الحزب الشيوعي الفيتنامي حتى وقت رحلتي لها في فبراير 2019 .

أمام القصر ساحة كبيرة تتوسطها نافورة ، وعلى اليمين الدبابات التي اقتحمت القصر وقامت بإسدال الستار عن الحرب ، وبداخله وثائق وصور عن فترة المفاوضات الأخيرة لإنهاء الحرب ، وغرف قيادة العمليات والخرائط والخطط الحربية ، وغرف لأجهزة الاتصال المستخدمة أثناء الحرب ، وخلافه .

وسيرا على الأقدام لسبع دقائق في طقس رطب وحار نسبياً يمكن الوصول من قصر الاستقلال إلى متحف بقايا الحرب .

هذا المتحف حتى عام 1995 كان اسمه متحف (جرائم الحرب الأمريكية) ، وبعد تطبيع العلاقات الدبلوماسية مع الولايات المتحدة وإنهاء الحصار الأمريكي ، تم تغيير اسمه إلى (متحف بقايا الحرب).

وبرغم تغيير العنوان يبقى المحتوى ورسالته واضحة : (جرائم الحرب الأمريكية) . 

تتجول في المتحف من قسم لقسم ، تجد هذا يعرض نماذج من القنابل والصواريخ وكافة الأسلحة المحرمة التي استخدمها الأمريكان ضد الفيتناميين ، وهذا قسم يعرض الخراب والدمار الذي تعرضت له البلاد نتيجة إسقاط آلاف الأطنان من القنابل ، ومنها ما سقط على مدارس وجامعات ومستشفيات وبيوت وجسور ، وهذا يعرض لأبشع أنواع القتل التي كان يمارسها الأمريكان ، فتلك صورة لدبابة تسحل وراءها مقاتليين وأسرى فيتنامين تم ربطهم في مؤخرتها ، وتلك صورة لجندي آخر يحمل أشلاء مقاتل فيتنامي وهو يبتسم للكاميرا ، وأخرى لجندي يحمل رأسا مقطوعة ... ، وقسم يعرض للتشوهات التي أصابت أجيالا من الفيتناميين جراء الأسلحة المحرمة والغازات السامة التي استخدمها الأمريكان ، وقسم يعرض مواقف شعوب العالم الداعمة لنضال شعب فيتنام ، ومنها صورة لمؤتمر معقود في القاهرة لنصرة قضية فيتنام ، وصورة أخرى لمظاهرة في مدينة حلب ، بخلاف الكثير من شعوب العالم بما فيها جزء من الشعب الأمريكي نفسه .

وقسم حول اتفاقية باريس للسلام التي مهدت للانسحاب الأمريكي من فيتنام .

وأخيرا قسم يصور كيف حاولت حكومة فيتنام الجديدة بعد انتهاء الحرب وتوحيد فيتنام الجنوبية مع الشمالية ، إعادة تأهيل الشعب الفيتنامي لمرحلة البناء ، فقد خلفت الحرب ملايين القتلى والجرحى والمعاقين والمشردين ، هذا بخلاف ملف كبير للمتعاونين مع الاحتلال الأمريكي من أهل فيتنام وخاصة الجنوبيين ، وقد هاجر منهم إلى الولايات المتحدة أعداد كبيرة مازالت تشكل جالية لها وزنها في الولايات المتحدة .

تعلمت من خلال هذه الجولة البانورامية لحرب فيتنام ، أن أمريكا والغرب بنوا نهضة بلادهم على سرقة شعوب العالم والاعتداء عليها .

وتعلمت أن الأشرار يتعلمون من أخطائهم أكثر مما يتعلم الطيبون ؛ الحكومات الشريرة تعلمت أن المواجهة بالغزو الناعم أو بحكام محليين بالوكالة أقل كلفة من المواجهة المباشرة ، وبإمكانه أن يحقق نفس الأغراض ، وإن كان ولابد من المواجهة المباشرة فلماذا يقف المعتدي في جانب والعالم كله في جانب آخر كما حدث للأمريكان في فيتنام .؟

إذًا لتكن الحرب باسم تحالف دولي ، وتحت أسماء مطاطة من عينة مكافحة الإرهاب .؟

تعلمت أن الحماسة والإخلاص للوطن أو الفكرة - وحتى البطولة النادرة - وحدها لا تكفي في تحقيق النصر ، ولكنها مجرد رقم في معادلة معقدة لها حسابات متشَعِّبَة ، فالبطولة النادرة التي أبداها المقاتلون الفيتناميون كان وراءها تخطيط ودعم لا متناهي بالعتاد من روسيا والمقاتلين من الصين ، مع توفر عمق استراتيجي في دول الجوار مثل كمبوديا .

فكما كانت فيتنام ضحية صراع الدول الكبرى ، كان انتصارها أيضاً جزءًا من تضارب المصالح بين تلك القوى .

تعلمت أن دولنا العربية والإسلامية التي عانت من جرائم أمريكا وروسيا والغرب لم تُقِم في بلادنا متحفاً لجرائم الحرب لأن إرادتها مازالت مسلوبة .

وتخيلت لو أن الشطر الجنوبي كان هو المنتصر وهو مَنْ قام بإنشاء هذا المتحف ، هل كانت ستصلني نفس الرسالة التي أوصلها لي الشمال الشيوعي المنتصر ، أم أن الجنوب كان سيعرض الفظائع التي ارتكبها الشماليون ومعهم الشيوعيون وعلى رأسهم السوفييت والصينيون .؟

إن لكل حدث عدة أوجه ترسم مشهده الكامل ، ولكن التاريخ يكتبه المنتصر وهو من يختار الوجه المعروض للمشاهدة ، وينبغي على المشاهد الواعي أن يستحضر بذهنه رؤية المشاهد المحجوبة ليتمكن من إصدار أحكام واعية .

وأخيرا لفت نظري لوحة من داخل المتحف مكتوب عليها أن من أغراض إنشاء هذا المتحف توعية الأجيال القادمة للحيلولة دون تكرار هذه الحروب .

فهل استفاد البشر .؟!

الواقع أن المعتدي لم يتوقف عن الاعتداء ، وأن المعتَدىٰ عليه مازال يحلم بالسلام دون بذل جهد واستعداد في عالم يحكمه صاحب المخلب والناب .

في ختام الزيارة كتبت في دفتر الزيارة تمنياتي للشعب الفيتنامي وسائر شعوب العالم بالأمن والسلام ، برغم معرفتي بأنها أمنية حالمة لم ولن تتحقق .

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين