الإسلام دين الوحدانية

تشكل "الوحدانية" أبرز ملمح من ملامح الإسلام، وهي المحور الناظم للقرآن الكريم كله، وهي القضية الكبرى التي تحتل أوسع مساحة من كتاب الله الكريم، وتتجلى هذه الوحدانية في أمور عدة، من أبرزها: وحدانية الخالق، ووحدة الدين .ووحدة الخليقة

1 - وحدانية الخالق :

وهي العنصر الأول والأبرز في الإسلام، وخلاصة الوحدانية أن الإله الحق هو الله عز وجل لا إله غيره، وأنه تعالى هو الواحد الأحد، العلي الأعلى، وأنه مطلق الكمال، وأنه سبحانه الخلاق لكل ما في هذا الوجود، وكل موجود سواه مغاير له ومخلوق له، بأمره سبحانه وجدت المخلوقات، وبأمره تقع سائر الحادثات، وهو مصدر كل خير ومصدر كل جمال، إرادته هي القانون الذي يحكم الكون كله، وعبادته وحمده واجب كل المخلوقات وعلى رأسها الإنسان الذي خلقه الله تعالى لعبادته كما قال تعالى : "وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ" سورة الذاريات 56 .

وقد وهب الله الإنسان كل القدرات البدنية والعقلية التي بها يعرف ربه، ويدرك عظمة آياته، وقد منح الله الإنسان من الإمكانيات والقابليات الجسدية والعقلية ما يمكنه من التصرف في ما خلق له ليقوم بأمانة الاستخلاف التي قبل القيام بها عن طواعية واختيار، كما قال تعالى : (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ .. الآية) سورة الأحزاب 72 .

وحين يعيش الإنسان واعياً جوهر وحدانية الله عز وجل يحس أنه يعيش في عالم ملؤه الجمال والحيوية، إذ يدرك أن وراء كل شيء في هذا الوجود خالقاً مدبراً حكيماً سبحانه .

وفي ظل الوحدانية يحس المؤمن بالطمأنينة إذ يرى نفسه في عالم يرعاه خالق عليم حكيم خلق كل شيء بقدر، فلا شيء موجود مصادفة ولا عبثاً، بل كل شيء خلقه الله في صورة تحقق للإنسان الراحة والاطمئنان والاستقرار .

وحين يحس الإنسان أنه جزء من عالم هذه صفاته يحس دفء العلاقة بينه وبين خالقه من جهة، وجمال العلاقة بينه وبين هذا العالم من جهة أخرى !

وحين يدرك الإنسان أنه مخلوق لله تعالى، مدين له بوجوده، فعندئذ يدرك واجب محبته لله تعالى وواجب عبادته حق العبادة .

وهكذا نجد أن الله عز وجل في الإسلام هو مبدأ كل شيء، وغاية كل شيء، فوجوده سبحانه وأفعاله هي الأسس الأولى التي عليها يقوم بناء كل المعارف ونظامها، سواء أكان موضوع المعرفة هو عالم الذرة المتناهي في الصغر أم كان موضوعها الأفلاك والمجرات المتناهية في الكبر.. أم أعماق النفس البشرية.. أم سلوك المجتمع .. أم مسيرة التاريخ !

وهكذا نرى في الإسلام أن وراء كل شيء في هذا الوجود حكمة إلهية بالغة؛ وكل شيء فيه يحقق غايةً أرادها الله سبحانه، أو يخدم غاية مرادة لله تعالى، وفي الكون نظاماً للأسباب، ونظاماً من الغايات تقف على قمتها إرادة الله عز وجل التي تحدد غاية كل موجود، وغاية كل منظومة .

2 - وحدة الدين :

لقد شرع الله عز وجل للناس ديناً واحداً هو "الإسلام" وأخبر أنه لا يرضى ديناً غيره، فقال تعالى : (وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ) سورة آل عمران ٨٥، والمقصود بالإسلام الانقياد والطاعة لله تعالى وحده، وهذا هو جوهر التوحيد الذي نصت عليه كل الرسالات السماوية .

وقد نقل القرآن الكريم عن أنبياء الله جميعاً التزامهم بالإسلام ديناً، فقال تعالى: (وَوَصَّىٰ بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَىٰ لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ * أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَٰهَكَ وَإِلَٰهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَٰهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) سورة البقرة 132و 133 . فقد بيّن سبحانه أن عنوان كل الرسالات السماوية وجوهرها : دين واحد هو الإسلام .

ومن هذا المنظور يصف القرآن الكريم مختلف الأمم التي أسلمت لله بأنها "أمة واحدة" : (إِنَّ هَٰذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ) سورة الأنبياء 92 ، فهي أمة واحدة لأنها التقت على كلمة التوحيد وآمنت بالله إلهاً واحداً لا شريك له .. وهذا هو الإسلام في جوهره، وهذا مظهر آخر من مظاهر الوحدانية في الإسلام .

وتجدر الإشارة إلى أن وحدة الدين لا تتعارض مع اختلاف الشرائع بين الرسالات السماوية، فاختلاف الشرائع ما بين رسالة وأخرى اقتضاها اختلاف أزمنة الرسالات، واختلاف بيئاتها وظروفها بعضها عن بعض، وليس في هذا الاختلاف بين الرسالات تعارض بينها، وإنما هو دليل على واقعية الدين، وفيه كذلك دليل على رحمة الله عز وجل بالعباد؛ إذ لم يكلفهم بما لا يطيقون، ولم يفرض سبحانه على الناس تشريعات لا تناسب عصرهم وظروفهم، ولهذا اقتضت حكمته سبحانه ورحمته بالناس أن يشرّع لكل أمة ما يناسب حالها وزمانها، تيسيراً منه على الأمة "يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ" سورة البقرة 85 . ورفعاً للحرج عن الأمة كذلك "وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ" سورة الحج 78 .

3 - وحدة الخليقة :

إن مسألة وحدانية الخالق التي عرضناها آنفاً هي التي تفسر وحدة الخليقة كلها، وهذا ما عبر عنه قوله تعالى : (لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا ۚ فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ) سورةالأنبياء 22 ، فلو كان ثمة آلهة أخرى غير الله لكانت هناك أنظمة مختلفة تحكم الكون فتؤدي إلى اختلاله، واختلاف الخليقة وفسادها !

لكن ما دمنا نرى اتزان الكون واستقرار النظام الذي يحكمه، ففي هذا دليل ساطع على أن خالقاً واحداً سبحانه هو الذي وضع هذا النظام الواحد المعجز، وهو الذي يحكمه؛ لا آلهة عدة كما يدعي الوثنيون والماديون وأهل الضلال !

وقد ترسخ عند علماء الكونيات اعتقاد جازم بوحدة الخليقة وأن الكون كله يخضع إلى قانون واحد أطلقوا عليه اسم "قانون المجال الموحد" كما سوف نرى ، وهم يعكفون منذ سنوات طويلة للوصول إلى نظرية شاملة يطلقون عليها اسم "نظرية كل شيء" (Theory of everything) أو "معادلة الكون" وهي النظرية التي ينتظرون منها تفسير كافة ظواهر الكون .. فهذه المعادلة التي أصبح العلماء قاطبة يؤمنون بها دليل على أن خالق هذا الكون واحد لا شريك له؛ ويطلق بعض العلماء على هذه النظرية اسم نظرية التوحيد العظمى (grand unified theory أو اختصارا GUT) التي تثبت أن مختلف ظواهر الكون تخضع إلى قانون واحد يمكن صياغته في معادلة رياضية واحدة !

وفي هذا دليل قاطع على أن كل ما في هذا الكون يعود إلى خالق واحد سبحانه لا شريك له؛ وصدق الله العظيم الذي يبين هذه الحقيقة الدامغة بقوله تعالى : (لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا ۚ فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ) سورةالأنبياء 22 .

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين