تجربة الحرب الفيتنامية (1)

أ- أنفاق كو تشي

من موقع الأحداث في أكثر النقاط شهرة للمقاومة الفيتنامية ضد الغزاة الأمريكان كان أول أهداف رحلتي إلى فيتنام .

قطعة من الأرض تغطيها الأحراش وتبعد 50 كيلو مترا عن "سايجون" عاصمة فيتنام الجنوبية والتي أصبح اسمها "هو شي من" بعد انتهاء الحرب وتوحيد شطري فيتنام .

يسير بنا دليل سياحي شاب من أهل المكان يستعرض أهم معالم المكان ، ويستدعي معه ذكريات حرب استمرت قرابة العشرين عاماً ، وانتهت أحداثها منذ أربعة وأربعين عاماً ، ولكنه يستعرضها كما لو كانت حدثت بالأمس ، فمعلوماتها حاضرة في ذهنه وملتهبة في مشاعره وهو يشرحها في زهو وفخر ببطولات قومه .

استخلصتُ من حديثه وما شاهدته صدق الأسطورة الإغريقية التي تقول : 

(أنه كان يوجد بطل عظيم لم ينهزم أبدا في أي نِزال ، فذهب أقرانه إلى حكيم من حكماء البلدة طلبا للنصيحة ، فقال لهم : إنَّ سِرَّ قوته يكمن في تثبيت قدميه على الأرض وتشبثه بها ، ومادامت قدماه ثابتتين على الأرض فلن يستطيع أحد هزيمته ، وأنصحكم أن تحتالوا عليه ليرتفع بقدميه ولو قليلا عن الأرض لكي تستطيعوا إصابته في مقتل .)

وللأسطورة مغزاها العميق ، في ارتباط المقاتل بالأرض ، وفي بعدها الفلسفي أن يكون واقعياً بمعنى استثماره لكل معطيات الواقع لتحقيق طموحاته .

هذه الحكمة وجدتها أمامي رأي العين في تلك الملحمة الإنسانية التي صنعها أهل "كو تشي" في صدهم للغزو الأمريكي .

باطن الأرض صار حُضْناً وحِصْناً ومخبأً لهم عبر شبكة معقدة من الأنفاق ، تصميم شبكة الأنفاق مستوحىٰ من العروق الطبيعية المرسومة على ورق الشجر ، أعواد البامبو تتحول أحيانا إلى حِراب يفوق تأثيرها حراب الحديد ، وتتحول أحيانا أخرى إلى أداة لحفر الأنفاق والآبار ، وتتحول أحيانا إلى أسلحة ثابتة داخل حفر مموهة لاصطياد المقاتلين الغزاة ، تضاريس الأرض وتشكيلها وحُفَرُها جزء أصيل من خدع الحرب لاصطياد الجيوش الغازية ، نهر "ميكونج" وأحراشه مهرب يتصل به نهاية الأنفاق ، ما ينبت من الأرض هو فقط غذاؤهم ، وما يجري في الأنهار والآبار من ماء هو مصدر شربهم ، ومن أعواد البامبو وألياف شجر جوز الهند يصنعون بيوتهم .

باختصار ؛ حياتهم هي أرضهم ، وما تحويه هو مصدر كفايتهم ، وتوظيف مواردهم هو سر صمودهم في معركة البقاء .

وقف بنا الدليل أمام مدخل أحد الأنفاق ، فتحة المدخل ضيقة جدا ومغطاة بقطعة من الخشب مغطاة بورق الشجر الجاف لتبدو كأنها جزء من الأرض ، ثم أتاح الفرصة لمن يريد أن يجرب دخول النفق من تلك الفتحة الضيقة فبادرت بالتجربة .

إنها بالكاد تسع أمثالي من أصحاب طول 177 سم ووزن 77 كيلو جرام ، والسر في ضيق تلك الفتحة هو تناسبها مع أحجام أجسادهم النحيلة الخفيفة وصعوبتها على أجسام الأمريكان الضخمة .

تحولت شبكة الأنفاق مع الوقت إلى مدينة تحت الأرض تحتوي على ثكنات عسكرية وغرف عمليات ومستشفيات ومعيشة كاملة ، ووصل بعضها إلى ثلاثة طوابق تحت الأرض .

انتقل بنا الدليل لتجربة أخرى؛ وهي السير داخل تلك الأنفاق ، طلب من أصحاب القلوب الضعيفة وأمراض التنفس الإحجام عن خوض تلك التجربة .

قررت خوض التجربة ، فقد كان لي تجربة سابقة في السير داخل نفق الحياة الذي بناه المقاتلون البوسنيون في صد عدوان الصرب في زيارتي لها عام 2015 ، ولكن شتان بين التجربتين ؛ نفق الحياة كان ارتفاعه حوالي متر ونصف وعرضه أكثر من متر بقليل ، بمعنى أن الإنسان الطبيعي يسير فيه منحني الجذع ، ولكن عرضه مريح ، وجوانب النفق مدعمة بقوائم خشبية ، وخطوط سيره مستقيمة .

الحال هنا مختلف تماما ؛ فارتفاع النفق لا يتجاوز سبعين سنتيمترا وعرضه بالكاد سبعون سنتيمترا ، بمعنى أنك لا تستطيع السير إلا في وضع القرفصاء ، وأثناء السير بهذا الوضع يحتك كتفاك بجدار النفق ، أضف إلى ذلك أن النفق لا يسير في خطوط مستقيمة بل متعرجة .. ، وضع بالفعل في غاية المشقة والصعوبة .

ولكنها المقاومة وضريبة الدفاع عن الأرض والعِرْض .

إنها ملحمة شعب أراد الحياة الحرة ورفض الاستسلام لمعادلات القوة المعروفة بين البشر ، فاحتضنته أرضه وقاتلت معه ، ووضع هو قواعد للنصر لا ترتبط بموازين القوى ، بل ترتبط بإرادة النصر والإيمان بعدالة القضية ، وكانت كلمة السر ومفتاح النجاح هي ما نطق به دليلنا السياحي حيث قال : 

(مع فارق القوة البعيد لم نكن نهاب الأمريكان ، وذلك لسبب بسيط : أننا لم نكن نهاب الموت .)

وللقصة بقية  .

يتبع

 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين