في الحديث الموضوعي، المنهج وآلية الدرس

إنَّ انتقال البشرية من عصر انتشار المعرفة وتداولها وذيوعها، إلى عصر تصنيف المعلومات وتبويبها وتنظيمها، لا بدَّ أن يكون له أثر في العلوم الإسلامية، وعلوم السنة النبوية بوجه خاص، فلقد درجت البحوث سابقاً على دراسة الحديث الشريف من زاوية تحليلية تتناول الحديث الشريف الفرد بالبحث المعمّق على أنه وحدة مستقلة، فتجمع طرقه وشواهده ومتابعاته، وتكون النتيجة الحكم عليه بالصِّحة أو الضعف، والعمل أو الترك. فظهَرت حديثاً الدراسات الموضوعية في الحديث الشريف، والتي تتناول موضوعاً معيناً من السنة النبوية بالجمع والتأصيل. وقد ينازع في اعتبار الحديث الموضوعي فناً حديثاً من فنون التصنيف، من يرى جذوراً وأصولاً تاريخيةً له في كتب المتقدمين كالجوامع والمصنفات والسنن، وفي كتب الأجزاء الحديثية كالأدب المفرد، والقراءة خلف الإمام للبخاري، وهي الكتب التي صنّفت الأحاديث على المواضيع والأبواب، إلا أن هذا العمل بحسب مصطلحات ومعايير البحث الموضوعي قد خطا الخطوة الأولى منه فحسب، فماذا عن باقي مراحله، وما المقصود بالدراسة الموضوعية للسنة النبوية؟

الدراسة الموضوعية تعني جمع الأحاديث المتعلِّقة بموضوع محدَّد من مصادرها المتعدِّدة، ثم تحليلها ونقدها سنداً ومتناً وموازنة دلالتها والبحث في تعارضها، ثم بذل الجهد في استنتاج النظرية العامة التي تنتظم تفاصيلها، لتكون صالحةً للتطبيق والعرض، على أنها من أصول المنهج النبوي.

وهذا يعني أنَّ الدِّراسة الموضوعية للسنة تتألف من أربع محطات:

أولاها: اختيار الموضوع، ولا تُقبل فيها إلا مواضيع متصلة بواقع الحياة واحتياجات الناس، وتأتي المجالات التربوية الاجتماعية والاقتصادية المعاشية والسياسية في مقدمتها، ولا يقبل فيها المواضيع التقليدية ولا المواضيع العامة والشاملة كالبحث في السيرة النبوية مطلقاً، والسَّبب وراء ذلك أنَّ البحث الموضوعي ينطلق من إشكالية واقعية محددة ضمن اهتمامات العصر ومواضيعه الساخنة، فيدرس فيها الباحث جميع ما أثير عنها، ويستوعب كل ما قيل فيها، ثم يعرض ما تحصَّل لديه من أفكار على الأحاديث النبوية، وعليه فإن من سيكتب في حق الطفل في التعلم في السُّنة أو الدستور النبوي أو المواطنة في العهد النبوي، سيقرأ جميع الوثائق والتشريعات التي سَنتها الأنظمة الوضعية، ويطلع على النظريات والأفكار التي عالجتها، ويتمكّن من تفاصيلها وجوانبها المضيئة والمظلمة، لتكون هذه الدراسة معيناً مهماً عند عقد الموازنات، ثم يتوجه إلى الأحاديث النبوية مفتشاً جامعاً لكل ما يتصل بموضوعه وفكرته، وهي المرحلة الثانية.

ثانيها: جمع المادة الحديثية من خلال استقراء تام لمصادر السُّنة المعتمدة، والتوسُّع في ذلك مع التأني والصبر، والاعتماد على المطبوع والمخطوط، والاستفادة من البرمجيات الإلكترونية ومواقع الشابكة ومن سائر أدوات البحث العلمي الحديثة، ويلاحظ هنا أنه كُلَّما كان الموضوع دقيقاً محدّداً فسيسهل التوسع فيه عمودياً في مصادر السنة المتنوعة. فالبحث في "حق المرأة في التصويت في السنة والسيرة" أفضل من البحث في حقوق المرأة عموماً "في الصحيحين فحسب"، فنتائج البحث الأول ستكون أكثر عمقاً وتحديداً. وفي هذه المرحلة تبرز قدرات الباحثين في تتبع واستقراء الأحاديث المتعلِّقة بالموضوع، مهما خَفِيت أو دَقَّت درجة اتصالها والصبر على ذلك.

ثالثها: الدراسة التحليلية للأحاديث التي تجمعت لدى الباحث، والبحث في أسانيدها ورجالها من جهة، وفي متونها وألفاظها من جهة ثانية، من حيث الثُّبوتُ والدّلالةُ، ويمحّص الباحث النظر في الأحكام النقدية التي أطلقها رجال الجرح والتعديل والعلل على الأحاديث، ولا بأس أن يطيل الباحث هنا النَّفَس في قضايا الصحة والضعف والمتابعات، والرفع والوقف، وزيادات الثقات والشذوذ والإدراج، وإزالة الإشكال والتعارض الظاهري في دلالاتها، كل هذا ضمن حدود ما يخدم غاية بحثه وهو متون ودلالات الأحاديث، بمعنى أن يلجأ الباحث إلى أدوات المحدثين وما تقتضيه أصول الصناعة الحديثية، بحيث يرجِّح من الأسانيد والألفاظ والدلالات بحسب تلك الأدوات، فيكون واضحاً أمامه "القدر المشترك والمتفق" من الروايات والألفاظ التي رجّحها الباحث، بعد أن دفع التعارض والإشكال، وربط الأحكام بعللها، فتكون النتيجةُ حفظَ الوحدة الموضوعية للحديث النبوي.

رابعها: بناءُ النظرية الشاملة التي ينتظم عقدها جميع المعاني السالفة، واستنتاجُ الموقف النبوي العام الذي تقع تحته جميعُ التَّفاصيل، وفهم الرابط الذي يجمع المفردات التي استقراها الباحث واعتمد عليها في المرحلة الثانية والثالثة، فهي المرحلة الختامية والأهم في العمل الموضوعي، والتي سيربِطُ فيها الباحثُ نتائجَ بحثه الحديثي الموضوعي، بمنطلقه الأول من النظريات الحديثة والإشكاليَّات التي ابتدأ بحثه منها، وسيعرض نتائجه التي خلص إليها، ويوضِّح الإجابة الموضوعية المستمدة من الهدي النبوي عن تلك الإشكاليّات، ويعقد الموازنات فيما بينها، مستفيداً من آراء من سبقه من الفقهاء والمحدثين والشُّراح، فتكتمِلُ بذلك عناصرُ البحث، وتصل الرحلة إلى محطتها النهائية.

ولعلَّ هذه المرحلة هي أمتع المراحل، لأنها مرحلة جني الثمار وحصاد الجهود، فيها يتنقل الباحث من النظر إلى التطبيق، ومن القواعد إلى النتائج، لذا فإن الحذر الشديد والتأني في إطلاق الأحكام مطلوب في هذه المرحلة، بأكثر مما هو مطلوب في سائر المراحل، لأن الخطأ في القواعد والأصول أخطر من الخطأ في التفاصيل والجزئيات، يجب عليه التعمق في مطالعة أدلتهم ومسالك أقوالهم، والعودة إلى أهل العلم واستشارتهم، وقبلها الاتكال على الله والنية السليمة في خدمة الحق والدين وأهله، فكم ترك الأول للآخر!.

كذلك فإن من محاذير العمل الموضوعي، أن ينغمس الباحث في الدرس النبوي، بما قد يفقده السياحة في باقي مصادر التشريع الأصلية والتبعية، ويفقده بوصلة البحث العلمي المتزن، فيؤثر سلباً في نتائج بحثه، ويحمله على التّسرع في قبول ورد أقوال من سلفه، فهذا مما يجب أن يتنبه عليه الباحث في مرحلة اختيار الموضوع، بأن يختار من المواضيع ما يتعلَّق بمواقف النّبي -صلى الله عليه وسلم- التشريعية والبيانية ويتصل بالسنة والسيرة النبوية والسيرة اتصالاً عميقاً، فتتحقق بذلك الفائدة المرجوّة من البحث الموضوعي في السُّنة النبوية. أخيراً لا بأس أن يصوغ الباحث بحثه بأسلوب يجمع بين طرفين، أسلوب يفهمُه المثقفون من غير المختصين من جهة، ويثير التَّفكر والتأمل لدى المختصين من جهة ثانية، وبذلك يحوز الحُسنيات كلها.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين