فقهُ الأمرِ بالمعروفِ والنهيِ عن المنكرِ (3 - 5)

أركان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر 

سبق الحديث عن الركن الأول وهو العلم ، ونتابع الحديث عن الركن الثاني وهو القدرة:

الركن الثاني: القدرة

والأصل في هذا قوله تعالى: {لا يكلف الله نفسًا إلا وسعها} [سورة البقرة 286]، وجاء في الحديث الصحيح عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قوله صلى الله عليه وسلم (من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فمن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان) (1)، وفي رواية: (وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل)، فواضح من الحديث ربط التغيير بالقدرة والاستطاعة، ولقد قال تعالى: { الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ } [سورة الحج 41]، فالآية أشارت إلى التمكين، وهو من أعلى مراتب الاستطاعة، فالقدرة تنتقض بأمرين:

الأول: العجز الحسي الفعلي.

الثاني: بالخوف من المكاره الكبيرة.

وهي المكاره المحققة التي تلحق الإنسان في نفسه أو بدنه أو ماله، ولا عبرة بالضرر اليسير كالكلمة النابية أو السب والشتم، فهذا قد لا يخلو منه إنكار منكر، وهذا المراد في وصية لقمان لابنه: {وأمر بالمعروف وانه عن المنكر واصبر على ما أصابك} [سورة لقمان: 17]، لكن فرّق العلماء بين حالتين:

الأولى: توقع حصول الضرر البالغ عليه وحده، فهنا يكون حكم المكلف مترددًا بين أخذه بالرخصة أو بالعزيمة، فله أن ينكر مع توقع حصول هذا الضرر على سبيل العزيمة، وله الترك من باب الرخصة، وعلى هذا يُحمل قوله صلى الله عليه وسلم: (أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر) (2)، وقوله (سيد الشهداء حمزة، ورجل قام إلى سلطان جائر فوعظه فقتله) (3)، لأنّ الإنسان له أن يتسامح في حقوق نفسه، ولكن يخلص في ذلك كله لله تعالى، لكن في بعض الحالات تنتفي الرخصة في حق العالم المقتدى به كما أشار بعض أهل العلم، إذا كان السكوت يقتضي فتنة كبيرة على الأمة وإضلالًا لها، كما حصل مع الإمام أحمد رحمه الله في امتحانه بمسألة القول بخلق القرآن فكان لا يرى لنفسه رخصة بالسكوت، وهذا ما صرح به.

الثانية: توقع حصول ضرر على أهله أو جماعته أو من ينتمي إليهم فكريًّا، فهنا يمتنع عن النهي إلا بإذنهم، لأنّه ليس له أن يتسامح في حقوقهم، أو يلحق بهم أذى بغير إذنهم ورضاهم، وكما بينت سابقًا كل هذا مبني على أساس اليقين أو غلبة الظن، قال ابن رجب: (من خشي في الإقدام في الإنكار على الملوك أن يؤذي أهله أو جيرانه لم ينبغ التعرض لهم حينئذ، لما فيه من تعدي الأذى إلى غيره، كذلك قال الفضيل بن عياض وغيره، ومع هذا متى خاف منهم على نفسه السيف أو السوط أو الحبس أو القيد أو النفي أو أخذ المال أو نحو ذلك من الأذى، سقط أمرهم ونهيهم، وقد نص الأئمة على ذلك، منهم مالك وإسحق وغيرهم، قال أحمد: لا يتعرض إلى السلطان فإن سيفه مسلول) (4).

المصدر : العدد الرابع من مجلة مقاربات التي يصدرها المجلس الإسلامي السوري 

تنظر الحلقة الثانية هنا 

======-

(1) أخرجه مسلم عن أبي سعيد، بَابُ بَيَانِ كَوْنِ النَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ مِنَ الْإِيمَانِ، وَأَنَّ الْإِيمَانَ يَزِيدُ وَيَنْقُصُ، وَأَنَّ الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاجِبَانِ.

(2) أخرجه أحمد عن أبي سعيد الخدري، وأبو داود في كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وابن ماجه في كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

(3) أخرجه الحاكم في مستدركه عن جابر، قال الحاكم: صحيح الإسناد، ولم يخرجاه.

(4) جامع العلوم والحكم، ص282

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين