فقه السيرة (39) محاولة اغتيال النبي صلى الله عليه وسلم وإسلام عمير بن وهب (شيطان قريش)

قال عروة بن الزبير: جلس عمير بن وهب الجمحي مع صفوان بن أمية في الحِجْر، بعد مصاب أهل بدر بيسير وكان عمير بن وهب شيطانًا من شياطين قريش، وممن كان يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، ويلقون منه عناء وهو بمكة، وكان ابنه وهب بن عمير في أسارى بدر، فذكر أصحاب القليب ومصابهم، فقال صفوان: (والله ما في العيش بعدهم خير). قال له عمير: صدقت، أما والله لولا دَيْنٌ علي ليس عندي قضاؤه، وعيال أخشى عليهم الضيعة بعدي، لركبت إلى محمد حتى أقتله، فإن لي فيهم علة ابني أسير في أيديهم. 

قال: فاغتنمها صفوان بن أمية فقال: عليّ دينك أنا أقضيه عنك، وعيالك مع عيالي أواسيهم ما بقوا، لا يسعني شيء ويعجز عنهم، فقال له عمير: فاكتم علي شأني وشأنك. قال: أفعل. 

قال: ثم أمر عمير بسيفه، فشحذ وسُمَّ، ثم انطلق حتى قدم المدينة، فبينما عمر بن الخطاب في نفر من المسلمين يتحدثون عن يوم بدر، ويذكرون ما أكرمهم الله به، وما أراهم في عدوهم، إذ نظر عمر إلى عمير بن وهب وقد أناخ راحلته على باب المسجد متوشحًا سيفه، فقال: هذا الكلب عدو الله عمير بن وهب، ما جاء إلا لشرٍّ وهو الذي حرش بيننا، وحزرنا للقوم يوم بدر. ثم دخل عمر على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا نبي الله هذا عدو الله عمير بن وهب قد جاء متوشحًا سيفه.قال صلى الله عليه وسلم: «فأدخله عليَّ» قال: فأقبل عمر حتى أخذ بحمالة سيفه في عنقه فلبَّبَه بها، وقال لمن كان معه من الأنصار: ادخلوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فاجلسوا عنده واحذروا عليه من هذا الخبيث، فإنه غير مأمون. ثم دخل به على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم وعمر آخذ بحمالة سيفه في عنقه قال: «أرسله يا عمر، ادنُ يا عميرُ». 

فدنا ثم قال: انعموا صباحًا، وكانت تحية أهل الجاهلية بينهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أكرمنا الله بتحية خير من تحيتك يا عمير، بالسلام تحية أهل الجنة». 

فقال: أما والله، يا محمد إن كنت بها لحديث عهد. 

فقال: «فما جاء بك يا عمير؟» قال: جئت لهذا الأسير الذي في أيديكم فأحسنوا فيه. 

قال: «فما بال السيف في عنقك؟» قال: قبَّحها الله من سيوف! وهل أغنت 

عنا شيئًا؟!! قال: «اصدقني ما الذي جئْتَ به؟» قال: ما جئت إلا لذلك. 

قال: «بل قعدت أنت وصفوان بن أمية في الحجر، فذكرتما أصحاب القليب من قريش، ثم قلت: لولا دينٌ عليَّ وعيالٌ عندي لخرجت حتى أقتل محمدًا، فتحمل لك صفوان بن أمية بدينك وعيالك، على أن تقتلني له، والله حائل بينك وبين ذلك». 

قال عمير: أشهد أنك رسول الله، قد كنا يا رسول الله نكذبك بما كنت تأتينا به من خبر السماء، وما ينزل عليك من الوحي، وهذا أمر لم يحضره إلا أنا وصفوان، فوالله إني لأعلم ما أتاك به إلا الله، فالحمد لله الذي هداني للإسلام، وساقني هذا المساق، ثم شهد شهادة الحق, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فقهوا أخاكم في دينه، وعلموه القرآن، وأطلقوا أسيره ففعلوا». 

ثم قال: يا رسول الله إني كنت جاهدًا على إطفاء نور الله، شديد الأذى لمن كان على دين الله عز وجل، وأنا أحب أن تأذن لي فأقدم مكة فأدعوهم إلى الله وإلى رسوله، وإلى الإسلام، لعل الله يهديهم, وإلا آذيتهم في دينهم كما كنت أوذي أصحابك في دينهم، قال: فأذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم فلحق بمكة وكان صفوان بن أمية حين خرج عمير بن وهب، يقول: أبشروا بوقعة تأتيكم الآن في أيام، تنسيكم وقعة بدر، وكان صفوان يسأل عن الركبان، حتى قدم راكب فأخبره بإسلامه، فحلف أن لا يكلمه أبدًا، ولا ينفعه بنفع أبدًا».

وفي هذه القصة دروس وعبر منها:

1- حرص المشركين على التصفية الجسدية للدعاة، فهذا صفوان بن أمية وعمير بن وهب يتفقان على قتل النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا يرشدنا إلى أن أعداء الدعوة قد لا يكتفون برفض الدعوة، والتشويش عليها، وصد الناس عنها، بل يريدون اغتيال الدعاة، وتدبير المؤامرات لقتلهم، وقد يستأجرون المجرمين لتنفيذ هذا الغرض الخسيس وقد يستغل الأغنياء المترفون من أعداء الدعوة حاجة الفقراء وفقرهم فيوجهونهم لقاء مبلغ من المال إلى خدمة مآربهم، وإن أدى ذلك إلى هلاكهم، فها هو صفوان قد استغل فقر عمير وقلة ذات يده ودَيْنه ليرسله إلى هلاكه. 

2- ظهور الحس الأمني الرفيع الذي تميز به الصحابة رضي الله عنهم، فقد انتبه عمر ابن الخطاب لمجيء عمير بن وهب وحذَّر منه، وأعلن أنه شيطان ما جاء إلا لشرٍّ، فقد كان تاريخه معروفًا لدى عمر، فقد كان يؤذي المسلمين في مكة, وهو الذي حرض على قتال المسلمين في بدر، وعمل على جمع معلومات عن عددهم؛ ولذلك شرع عمر في أخذ الأسباب لحماية الرسول صلى الله عليه وسلم، فمن جهته فقد أمسك بحمالة سيف عمير الذي في عنقه بشدة فعطله عن إمكانية استخدام سيفه للاعتداء على الرسول صلى الله عليه وسلم وأمر نفرًا من الصحابة بحراسة النبي صلى الله عليه وسلم. 

3- الاعتزاز بتعاليم هذا الدين فقد رفض صلى الله عليه وسلم أن يتعامل بتحية الجاهلية، ولم يرد على تحية عمير حين قال له: أنعموا صباحًا، وأخبره بأنه لا يحيي بتحية أهل الجاهلية؛ لأن الله تعالى أكرم المسلمين بتحية أهل الجنة. 

4- سمو أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم فقد أحسن إلى عمير، وتجاوز عنه وعفا عنه مع أنه جاء ليقتله بل أطلق ولده الأسير بعد أن أسلم عمير وقال لأصحابه: «فقهوا أخاكم في دينه، وأقرئوه القرآن وأطلقوا له أسيره». 

5- قوة إيمان عمير، فقد قرر أن يواجه مكة كلها بالإسلام، وقد أذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفعل، وواجه، وتحدى، وعاد أدراجه إلى المدينة، وأسلم على يديه ناس كثير، وكان حين تعد الرجال يطرحه عمر ممن يزن عنده ألف رجل، وكان أحد الأربعة الذين أمد بهم أمير المؤمنين عمر، عمرو بن العاص -رضي الله عنهم- الذين كان كلُّ واحد منهم بألف.

 ظهور النفاق في المدينة .

حركة الحياة الإنسانية متعددة المجالات، متنوعة الصراعات واسعة الآفاق، تمضي على وتيرة عادية، مالم تحدث تطورات جليلة، وتحديات خطيرة، تضع الأطراف المختلفة على محك الدفاع عن الذات، خصوصاً إذا شعرت بأخطار تهدد وجودها، أو تقلص نفوذها وسلطانها، أو تلغي دورها على الساحة، وهذا يعني أن ما خفي عن الناس عموماً سيظهر أمامهم، مما يجعل جميع الأطراف في مواجهة التحدي واتخاذ ما يضمن لهم وجودهم ومصالحهم، وكان أشدهم إحساساً بذلك أصحاب السيادة والنفوذ.

يعود ظهور النفاق في المدينة بعد الهجرة إلى عنصرين أساسيين هما:

1-اليهود الذين حاولوا خداع رسول الله صلى الله عليه وسلم وتشويه الحقائق الدينية العظيمة والعبث بآيات الله وتشجيع بعض الناس للانضمام إليهم في محاربة الإسلام، وبطريقة النفاق ـ أي إظهار الإيمان وإخفاء الكفر ـ بقصد تحقيق سلامتهم وتمكينهم من تمزيق المجتمع الإسلامي الجديد.

2- والعنصر الثاني عبد الله بن أبي ابن سلول الذي اجتمع الأوس والخزرج على جعله ملكاً عليهم بعدما جرى بينهم في حرب بعاث، وبدؤوا بصناعة تاج من خرز له ليجعلوه ملكهم، وإذا بالرسول صلى الله عليه وسلم يصل إلى المدينة وينفضُّ الناس عنه ويخسر بذلك فرصة سيادته عليهم، فأخذ يتظاهر بالإيمان ويبطن الكفر، يناصره على ذلك عدد من أبناء المدينة.

قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، وسيد أهلها عبد الله بن أبي بن سلول كان من الخزرج لا يختلف في شرفه في قومه اثنان، فلما انصرف عنه قومه إلى الإسلام ضَغِنَ ورأى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد استلبه ملكاً، فلما رأى قومه قد أبَوْا إلا الإسلام دخل فيه كارهاً مُصِّراً على نفاق وضغن، فكان رأس المنافقين وإليه يجتمعون، وكان من ظواهر نفاقه يوم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من قباء يوم الجمعة يريد المدينة صلى الجمعة في الوادي «ثم أخذ عن يمين الطريق حتى جاء بني الحُبْلى فأراد أن ينزل على عبد الله بن أبي، فلما رآه ابنُ أبي وهو عند مُزاحم «وهو أطم» مُحتَبياً قال: اذهب إلى الذين دَعَوْك، فَانْزل عليهم فقال سعد بن عبادة: لا تجد يا رسول الله في نفسك من قوله، فقد قدمت علينا والخزرج تريد أن تملكه عليها، ولكن هذه داري ).» .

ـ ما وقع من أبي عامر الراهب

وكان مع عبد الله بن أبي بن سلول رجلٌ من الأوس هو في قومه شريف مطاع هو: أبو عامر بن صيفي بن النعمان وهو أبو حنظلة - غسيل الملائكة - وكان قد ترهب ولبس المسوح فأبى إلا الكفر والفراق لقومه حين اجتمعوا على الإسلام، وأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قدم المدينة فقال: ما هذا الدين الذي جئت به؟ قال: جئتُ بالحنيفية دين إبراهيم، قال: فأنا عليها فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : إنك لست عليها، قال: إنك أدخلت يا محمد في الحنيفية ما ليس منها، قال: مافعلت، ولكني جئت بها بيضاء نقية، قال والكاذب أماته الله طريداً غريباً وحيداً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أجل، فمن كذب فعل الله ذلك به . 

(فكان هو الذي خرج إلى مكة وحالف المشركين وشاركهم حَرْبَهُم ضد رسول الله صلى الله عليه وسلم ) فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «لا تقولوا الراهب قولوا الفاسق 

وكان أبو عامر أشد الناس معرفة بحقيقة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنَّهُ النبي المنتظر لما قرآَهُ من الكتب وما عَلِمَهُ مِن أحبار يهود ورهبان نصارى الشام، فلما رأى رسولَ اللهِ كَذَّب وادَّعى أنه ينتظرُ النبي الموعود، وستكون له مواقف كثيرة ضدالمسلمين، وقد مات شريداً طريداً وحيداً.

وكان ممن اجتمع إلى رئيس المنافقين عبد الله بن أبي بن سلول: رُوَّيُ بن الحارث، وجُلاس بن سويد بن الصامت وأخوه الحارث، وبِجاد بن عثمان بن عامر، ونبتل بن الحارث، ووديعة بن ثابت، وبشر ورافع ابنا زيد، وأبو حبيبة بن الأزعر، ومعتب بن قشير وغيرهم ..

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين