الإيغال في الحرام

طبيعي أن يجترح المسلم ذنباً أو يرتكب إثماً ... وواقع في العادة أن يزل فيخطئ أو يتأخر عن العبادة ويبطئ... وليس بغريب أن يكون ضحية خصلة من الصغائر أو الكبائر ... أو لم يقل النبي صلى الله عليه وسلم : «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ لَمْ تُذْنِبُوا لَذَهَبَ اللهُ بِكُمْ، وَلَجَاءَ بِقَوْمٍ يُذْنِبُونَ، فَيَسْتَغْفِرُونَ اللهَ فَيَغْفِرُ لَهُمْ»، رواه مسلم،؟.  لكن ليس من الطبيعي أن يمضي في طريق الإثم بعيداً ، ويكون في ارتكابه شديدأً عنيداً ...

ليس عادياً أن يبالغ في المأثم... ويمعن أكثر فأكثر في المغرم...

ويصر ويتكثر من المحظور ، وكأنه تائه في الصحراء، وعثر على ماء، فهو يعبُّ منه عباً، ويغباً من معينه غباً ، أو كجائع وضعت أمامه مائدة فاخرة فهو يأكل منها بِنَهم، ويتفكه بها ويتنعم . 

وهذا حال بعض الناس اليوم ... لا يكتفي بما يسد رمقه من الحرام، بل يستزيد منه ويدخر ، ويرتكب في سبيله كل ممنوع ، فيقطع الأرحام، ويظلم الأنام، ويعتدي على الحقوق دون خوف من الله أو ورع أو تثبت أو اعتبار لقانون، ولقد مثل لنا هذه الحال رسول الله صلى الله عليه وسلم أروع تمثيل فقال : «مَثَلِي كَمَثَلِ رَجُلٍ اسْتَوْقَدَ نَارًا، فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهَا جَعَلَ الْفَرَاشُ وَهَذِهِ الدَّوَابُّ الَّتِي فِي النَّارِ يَقَعْنَ فِيهَا، وَجَعَلَ يَحْجُزُهُنَّ وَيَغْلِبْنَهُ فَيَتَقَحَّمْنَ فِيهَا، قَالَ فَذَلِكُمْ مَثَلِي وَمَثَلُكُمْ، أَنَا آخِذٌ بِحُجَزِكُمْ عَنِ النَّارِ، هَلُمَّ عَنِ النَّارِ، هَلُمَّ عَنِ النَّارِ فَتَغْلِبُونِي تَقَحَّمُونَ فِيهَا» رواه الشيخان. 

لاحظوا التعبير النبوي ( وأنتم تقحّمون ) إنه صيغة تفعّل ...صيغة مبالغة من الاقتحام ... اقتحام النار وطلب الوقوع فيها استكمالاً للشهوات، وتحصيلاً للملذات، ورغبة في إدراك أكبر قدر منها، إما جهلاً وإما غفلة . 

يعني أن البعض لا يكتفي بنسبة بسيطة في الربا فيرابي بأضعاف مضاعفة ... لا يقنع بظلم شخص واحد فيظلم أشخاصاً كثيرة ... لا يكتفي بالوقوع في عرض امرأة محصنة غافلة فيقع في أعراض مؤمنات محصنات غافلات كثيرات ...لا يكتفي بارتكاب ذنب ويستتر فيه، بل يجاهر بالمعصية، ويشجع عليها، ويندب الناس إليها ...

لا يكتفي ببعده عن الله، وتقصيره في جنب الله، بل يحادد الله ورسوله، ويسعى في محاربة دين الله، والصد عنه، وإيذاء المسلمين، وإيقاع الضر بهم...

لا يكتفي بتضييع حق واحد، بل يضيع حقوقاً عديدة؛ فيضيع حق الزوجة، وحق الأولاد، وحق الأم، وحق الأب، وحق الجار، وحق أخيه المسلم، وحق شريكه في العمل، وحق الوظيفة التي يعمل فيها، وحق الوطن الذي ينتمي إليه . 

فهو لا يملك القناعة حتى في الحرام ... لا يقتنع بأكل الحرام مع علمه أنه محاسب عليه وإن قل ... فسيئة واحدة كفيلة بأن تقضي يوم القيامة على طموحه بدخول الجنة إن لم يتداركه عفو الله.

قال الإمام ابن عابدين في حاشيته الشهيرة : حُكِيَ أَنَّ أَبَا يُوسُفَ وَقْتَ مَوْتِهِ قَالَ: اللَّهُمَّ إنَّك تَعْلَمُ أَنِّي لَمْ أَمِلْ إلَى أَحَدِ الْخَصْمَيْنِ حَتَّى بِالْقَلْبِ، إلَّا فِي خُصُومَةِ نَصْرَانِيٍّ مَعَ الرَّشِيدِ، لَمْ أُسَوِّ بَيْنَهُمَا،  وَقَضَيْت عَلَى الرَّشِيدِ، ثُمَّ بَكَى.

بكى خوفاً من ربه ... بكى لا لذنب ظاهر بل لميل قلبي لا يؤاخذ عليه شرعاً ... بكى لأنه تمنى لو كان الحق إلى جانب هارون الرشيد فيقضيَ له على النصراني ، هذا كل ما ارتكبه من جرم أثناء توليه القضاء لهارون الرشيد ، فهو يخافه ويخاف أن يحجزه عن الجنة ،  فأين ورع كورع أبي يوسف فينا؟ وعلام التقحم في النار تقحماً، ودفع النفس فيها عن سبق إصرار وترصد ، وطلب وتعمد. 

ذات يوم دعا عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه أناساً من بني مروان ليعطيهم درساً عملياً بليغاً في القناعة بالقليل، والخوف من الجليل، والتذكير بيوم الرحيل ، دعاهم إلى وليمة فحبسهم ، وأخر عنهم الطعام وقال لخبازه : إذا دعوتُ بالطعام فلا تعجل به، فتأخر الطعام حتى تعالى النهار، وهم قوم لم يعتادوا ذلك ، فمر به الخباز؛ فقال له عمر: ويحك ائتنا بطعامك، قال : نعم يا أمير المؤمنين الآن ، قال فلما أبطاً لهم : فهل لكم في سويق وتمر؟ يعني مثل مقبلات قبل الطعام؛ قال: فجيء بسويق وتمر، فأكلوا حتى شبعوا؛ فلما فرغوا جاء الخباز بالطعام الشهي، فأمسكوا، فقال عمر: ألا تأكلون؟ قالوا: والله يا أمير المؤمنين ما نقدر عليه ، فقال لهم ذلك غير ما مرة، فأبوا أن يأكلوا، فقال: ويحكم يا بني مروان ففيم التقحم في النار؟؟!!! ، فبكى وأبكى . 

ففيم التقحم في النار ... وعلام الرغبة الجامحة في دخولها ... ولم الإصرار العظيم في ولوجها... وإلام الإلحاح في أن تكون من أهلها؟ فأعد حساباتك أيها المسلم ، واكبح جماح نفسك وفعل فرامل شهواتها تكن من السعداء.

 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين