الإسلام وفكرة التطور

موضوع الدين والحضارة يستدعيني أن أقول في المبدأ: أنني مهما تحدثت كانت هذه قضيَّة مفروغ منها عن الحضارة بإجلال أو بتحقير، ومهما تكلمت عنها بنقد أو تحليل، فإنَّ الدين على وجه العموم لا يعارض قط، التقدم العلمي لإسعاد الإنسانيَّة: 

لا يعارض التقدم الصناعي لإسعاد الإنسانيَّة - على أيَّة صورة كانت ما دام الأمر أمر إسعاد الإنسانيَّة، وإذا كانت هذه قضيَّة مفروغاً منها فإنني أتجه إذن لتصوير نشأة الحضارة. 

نشأة الحضارة:

الحضارة نشأت في فترة معينة من التاريخ، وفي زمن محدد نعلم ابتداءه، ونعلم العوامل التي أنشأتها والتي كانت الأساس في هذه النشأة.

وكلنا يعلم أنه في فترة من الفترات، كانت الكنيسة مسيطرة على العالم الأوربي سيطرة تامة: ما كان هناك شيء يُفْعلُ، أو شيء ينتهي فيه الأمر، ولا شيء يقام أو يهدم، وما كان إنسان يقدم على أمر، وما كان إنسان يحجم عن أمر، إلا باستئذان الكنيسة، وباستئذان رجال الدين. ولكن الكنيسة ورجال الدين تعسفوا في استعمال سلطتهم، حتى لقد أنشأوا محاكم التفتيش. 

وقد كتب الأوربيون والمسيحيون عن محاكم التفتيش كثيراً، وصوروها في أبشع مظاهرها وفي أسوأ صورها، كتب الكاثوليك. والبروتستانت، وكتب الفرنسيون، وكتب الإنجليز... كتب كل هؤلاء - وهم رجال المسيحية - فيهما من يتعلق بهذا الأمر. 

ولقد وضحوا وبيَّنوا أن الكبت الذي كان يغمر أوربا في ذلك العصر ولَّد الانفجار، واتخذ الانفجار اتجاهاً معيناً. 

اتخذ الاتجاه الإنساني.

وأخذ قادة الحضارة مبتدئين من هذا الاتجاه الإنساني - يقررون أن الإنسان له كيانه، له شخصيته، له ذاتيته، له حدوده، له تقديراته، له مكانته التي يجب أن يحتلها. يجب أن يحتل الإنسان المكانة التي تليق به.

ومن هنا كانت كلمة الإنسانيَّة التي تطلق – كرمز مميَّز – على هذه الحضارة ومن هنا كان تمجيد الإنسانيَّة.

ولكن حينما بدأوا يتحدثون عن الإنسان في ثورة عواطفهم القويَّة وفي غمرة نفورهم الشديد من رجال الدين، كانت كلمة الإنسانيَّة توحي – عند قادتهم – بانفصال الإنسانيَّة عن الإلهيَّة، أو انفصال الإنسانيَّة عن الكنيسة، أو انفصال الإنسان عن الدين، أو بالتعبير الحديث انفصال الدين عن الدولة.

يجب أن يكون له موقفه أمام الدين وتجاه الألوهية، تجاه النص المقدس، تجاه الكنيسة، ويجب أن يخضع كل ذلك لإنسان.

فالإنسان له عقله، له منطقه، يجب أن يسير بهذا العقل، وبهذا التفكير وبهذا المنطق. 

وتصوروا جماعة من الجماعات كانت السيوف مصلتة عليها من جميع النواحي ثم انفجرت هذه الجماعة فقضت على السلاح الموجه إلى نحرها...

ماذا يكون تفكيرها بالنسبة لهذا السلاح، وبالنسبة لحامليه: بالنسبة لهذا المصدر الذي كان عاملاً للكبت؟

إنَّ تفكيرها في أهدأ حالاته - يكون معارضاً منتقداً، ومتحمساً في معارضته، وفي انتقاده، ولكن يشعر أحيانا بشعور السفاك النهم لإسالة الدماء.. 

هكذا كان الأمر في بدء الحضارة الحديثة: لقد أراد زعماؤها: أن يتخلصوا من الدين من رجال الدين، لتحتل الإنسانيَّة مكانتها دون معارضة لها أو كبت أو تنكيل.

وحينما أقول (الإنسانيَّة) يختلط الأمر نوعاً ما، إذ أن معنى هذه الكلمة اكتسب من الآلام التي نزلت بالإنسانيَّة في كثير من فترات التاريخ نوعاً من التقديس وكثير من التمجيد والعطف، ولذلك فإني دون إخلال بالمعنى سأستعمل كلمة (البشريَّة)، وإذا استعملت كلمة البشريَّة كان المعنى الذي أريده أدق فيما يتعلق بصلة الثورة الأوربية، أو الحضارة الأوربية في بدء نشأتها، وفي ثورتها ضد رجال الكنيسة.

كان هناك إذن الدين من جانب، وكانت هناك البشريَّة من جانب آخر، وأرادت هذه البشريَّة أن تقف في وجه الدين، وأن تستقل بنفسها في وضع أصولها وقواعدها، ونظمها، وأن تنتهي في النهاية إلى أن تكون مستقلة كل الاستقلال عن جميع النواحي التي تتعلق بهذا الجانب الروحي.

***

وتلفتت الحضارة أو ممثلو الحضارة أو الذين يقومون على الحضارة... تلفتوا يميناً وشمالاً على الأصول والقواعد التي يمكنهم أن يقيموا عليها نظمهم البشريَّة، وتساءلوا: ماذا يمكن أن يحل محل الدين؟

إن الدين نظام اجتماعي، وتشريعي، وأخلاقي، فما الذي يمكن أن يحل محل هذه النظم؟ إذ أردنا أن نتخلص من هذه النظم لأنها نظم دينية يقوم عليها رجال الكنسية، ورجال محاكم التفتيش، فما هي المصادر والمنابع التي نستقي منها إذا أردنا أن يسود الاطمئنان في المجتمع؟!.

أما المصادر فما كان يمكن وما كان يتأتى إلا أن تكون مصدرين:

1 – العقل: في ناحية ما وراء الطبيعة.

2 – والضمير: في ناحية الأخلاق.

إذن لجأت الحضارة الحديثة فيما وراء الطبيعة إلى العقل، ولجأت في الأخلاق إلى الضمير، فالعقل: هو الذي يؤسس ما وراء الطبيعة، والضمير هو الذي نرجع إليه في الأخلاق.

ولكن.. تخبط العقل: لأنه يختلف من إنسان لآخر، ومن بيئة لأخرى، ومن زمن لزمن، ومن مكان لمكان، ومن ثقافة لأخرى. 

وأخذ الضمير من جانبه أيضاً يوحي بإيحاءات مختلفة: فالضمير ليس إلا أثرا للبيئة، والثقافة، وللوسط الذي يعيش فيه. ليس الضمير معصوماً قط وإنها: لفكرة خرافية: كون الضمير معصوماً، والضمير إذا تخلص من سيطرة الدين فإنه يوحي بالفساد، كما يوحي بالصلاح، لأنه ابن البيئة، فإذا كانت البيئة صالحة فالضمير صالح، وإذا كانت البيئة أوروبية فالضمير أوربي، وإذا كانت البيئة شرقية فالضمير شرقي.

ومن الواضح أن ضمير الأوربيين لا يؤنبهم قط على السفك الذي يستبيحونه في كل قطر يسيطرون عليه، إنه يبيح إذن - لو اتخذناه مقياساً -السفك، والتنكيل والاستعمار. 

ليس هناك إذن شيء ثابت مستقر معصوم اسمه الضمير.

وليس هناك قضايا يتفق عليها العقل فيما وراء الطبيعة.

ومتخبط بضميره في أمور الأخلاق؟ فيما وراء الطبيعة. وتخبط العقل، وتخبط الضمير فما المخرج إذن؟

أسطورة التطور الإنساني:

رأى رجال الحضارة أن يلجأوا إلى شيء يبعد عنهم وصمة العجز، فلجأوا إلى فكرة التطور: الإنسان متطور، الأفكار متطورة، وإذن المسألة ليست مسألة خطأ صريح، وإنما هي مسألة تطور، فيما يتعلق بالأفكار، وفيما يتعلق بالمعاني، ومادام هناك قانون للتطور إذن لا عيب عليهم إذا أخطأوا أو تخبطوا في كل مرحة من مراحلهم، وفي لكل فترة من فتراتهم... ونادى الحضاريون البشريّون بفصل الدين عن الدولة، وحينما فصل الدين عن الدولة رأت نفسها تتخبط حينما تستند إلى العقل في نظمها الدينية والاجتماعية، وحينما تستند إلى الضمير في نظمها الأخلاقية فاخترعت أسطورة التطور الإنساني فيما يتعلق بالفكر.

وكانت كلمة التطور هي الطلسم السحري، الذي يحاولون التعلل به، لإخفاء عجز العقل والضمير الإنساني لإخفاء هذا العجز المطلق الذي يجعل الإنسان متخبطاً بعقله في أمور ما وراء الطبيعة، ومتخبطاً بمصيره في أمور الأخلاق؟

لقد أخفوا كل ذلك بفكرة التطور.

ليس في الأحكام القاطعة تطور: 

ولكن إذا نظرنا إلى فكرة التطور في الدين والأخلاق فما معناها حقيقة؟ ما معنى فكرة التطور، إذا أدخلناها في الفكر على وجه العموم؟

- إن فكرة التطور ما هي إلا عودة إلى السوفسطائية القديمة، إنها عودة إلى آراء اليونان القدماء - السوفسطائية منها - لأن معنى التطور في الفكر أنه ليس هناك قضيَّة ثابتة - وإنما جميع القضايا الفكرية متطورة، وهذا التطور لا ينتهي إلى حد: وإذن هناك النسبية باستمرار، هناك النسبة المطلقة، هناك إذن الخطأ المستمر، وهذا الخطأ لا علاج له ما دمنا نقول بالتطور، لأنه ما دمنا نقول بالنسبة وبالتطور فليس هناك الثبات، وإذن لا يكون هناك ثبات في الدين ولا يكون هناك ثبات في الأخلاق.

فإذا أدخلنا فكرتهم بالتطور في الدين فقد قضينا على الدين وإذا أدخلنا فكرة التطور في الأخلاق فقد قضينا على الأخلاق.

هذه الفكرة التي أتحدث عنها: فكرة إدخال التطور في الدين، فكرة سمعناها من الكثيرين، لقد ألفنا لذلك كلمة إدخال التطور في الدين إلى درجة أنه يخيَّل إليَّ وأنا أتحدث فيها: أنَّ الأمر غريب على بعض الأذهان التي تتساءل: لِمَ لا يكون في الدين تطور؟

ولكن إذا فهمت فكرة التطور على حقيقتها: وإذا فهمت فكرة الدين على حقيقتها: كان لا مناص من الإقرار بأنَّ الدين لا يدخله قط ولا شروى نقير، لا، ولا قلامة ظفر فكرة التطور.

إنَّ التطور الفكري تغيير من حال إلى حال، وهو تغيير مستمر دائم، إنه تغيير لا ينتابه هدوء ولا سكون.

إنها إذن النسبية، إنها إذن السوفسطائية القديمة، إنها عود إلى هذه الفترة القديمة التي لم يكن فيها دين ثابت، ولم يكن فيها خلق ثابت، فالأمر فيهما حينئذ عند السوفسطائيين، ليس أمراً ثابتاً مطلقاً.

وليس أمر عصمة، وليس أمر قضايا محققة، وإنما الأمر أمر تغيير باستمرار وأمر نسبية.

وبذلك يقضى على الدين، ويقضى على الأخلاق.

وإنه لمن المؤسف حقيقة – أننا نجد فكرة التطور تتسرب إلى الناحية الدينية وإلى المحيط الديني في الأقاليم الإسلامية، وهذه الفكرة لخطورتها، ولأني أعلق على إزالتها كثيرا من الأهمية: أريد أن أضرب بعض الأمثلة حتى نكون على بينة من الأمر:

- قرأت في بعض المجلات مقالاً يقول كاتبه: إن فضيلة الشيخ (...) رجل متطور واسع الأفق، ومن مظاهر تطوره - في رأي الكاتب - أنه يأبى إلا أن يقيم صلاة الغائب على روح فلان.. وفلان هذا الذي ذكره الكاتب، لا يدين بدين الإسلام، وما من شك في أن ذلك لا يجوز إسلامياً، وما من شك في أن فضيلة العالم الكبير، لا يفعل ذلك ولا يبيحه، ولكن ذلك إن دلَّ على شيء فإنما يدل على جهل الكاتب بمعنى الحقائق الدينية التي لا تتغير بتغير الأهواء والعواطف، ويدل من جانب. آخر على الخطورة التي يتعرض لها الدين حينما تدخله فكرة التطور، وحينها تتناوله أقلام الذين لا يعقلون دين الله على الوجه السليم.

ومثل آخر: 

إننا جميعا نُجِل الشيخ محمد عبده، ونحترمه وندين له بكثير من تخليص الدين من الخرافات والأساطير، ولكن حينما نقرأ له تفسير قصة آدم فتراه لا يمنع احتمال أنها تمثيل ؛ ونتساءل: لما ذكر الشيخ محمد عبده هذا الاحتمال؟ وحينها نتساءل حقيقة عن السر العميق في الشعور - أو في اللاشعور - نجد أن الشيخ محمد عبده رأى أنَّ فكرة التطور منتشرة في جميع أرجاء أوربا، بل والعالم، وهي- فيما يرى بظاهرها تتعارض مع التعاليم التي تنبئ أن آدم هو أول البشر، وهو الذي خلقه الله وسواه، وخاطب الملائكة في شأنه وأمرهم أن يسجدوا له: 

رأى الشيخ محمد عبده أنَّ كل ذلك لا يتلاءم كثيرا مع فكرة التطور المزعومة فماذا صنع ؟ ذكر هذا الاحتيال، وبذلك يمكننا أن نؤولها كيفما شئنا، وما كنا نود أن يجيز ذلك إذ أنه يفتح للناس باب التأويل في صورة من الاستفاضة الضارة.

كما رأى الشيخ محمد عبده أن يفسر اختلاف رسالات الرسل وتعاقبها. موسوية وعيسوية وإسلامية، بتطور الإنسانيَّة، إنَّ الإنسانيَّة - حسبا يرى -حسية في زمن موسى فكانت رسالة سيدنا موسى حسية، ثم تطورت الإنسانيَّة من الحس إلى العاطفة، فكانت رسالة سيدنا عيسى عاطفية. ثم تطورت الإنسانيَّة من الحس والعاطفة إلى العقل، فكانت رسالة سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام: عقلية!!.

ورأيي أنَّ الإنسانيَّة لم تتطور هذا التطور: وأنَّ الإنسانيَّة أينما سرنا وعند أي فرد رأينا، وفي أي مجتمع شاهدنا، فإنما يتمثل فيها جوانب ثلاث: 

الحس، والعاطفة، والعقل.

ولكن فكرة التطور وأنَّ الإنسانيَّة متطورة انتهت بأنْ أصبحت مسيطرة على الكثيرين فانقادوا لها، وأدخلوها في المحيط الديني، فأفسدت كثيراً من القضايا، ونعود فنترحم على الشيخ محمد عبده، وإذا كنا ننتقده ونحن نحاضر في قاعته، فذلك أننا نعلم أنه رحمه الله تعالى، كان من سعة الصدر، ومن سعة الأفق بحيث لا يضيق بنقد، ونعتقد أنه لا يضيق الآن بنقدنا.

ونأتي إلى شخصية أخرى نمجدها أيضاً ونحترمها: شخصية محمد إقبال. وإن جهاده بالنسبة للإسلام، وجهاده بالنسبة للمسلمين لا ينكر. 

ولكنه لم يستطع أن يتخلص من فكرة التطور في بعض المسائل كما رأى! فليراجعها من شاء في آرائه وفلسفته.

أيها السادة:

كلكم تعلمون أنَّ الدين عقيدة وأخلاق وشريعة، وتصوير التطور في العقيدة أن نقول مثلاً: اليوم، ربنا واحد... أما غداً فإنه – سبحانه وتعالى عن ذلك – يكون اثنين!!!

وتصوير التطور في الأخلاق، أن نقول مثلاً: إنَّ الصدق اليوم فضيلة، وغداً يكون رذيلة، أو الصدق فضيلة اليوم وهو غداً ليس بفضيلة ولا رذيلة!!

فأنتم ترون أنَّه لا تطور في العقيدة، ولا في الأخلاق...

لكن الشُبه تخلق في بعض الأذهان حول التطور في التشريع، والذي يوجد الوهم بهذه الشبه هو: باب الاجتهاد، والمنطق يقول: إنه ما دام هناك اجتهاد في – التشريع فسيكون هناك تطور فيه، ولكن الذي يقول هذا الكلام لا يفهم معنى الاجتهاد أو هو يفهم معناها ويحاول أن يتجاهله! معنى الاجتهاد وحقيقته، إنما هو المحاولة الجاهدة المستمرة للوصول إلى ما كان عليه الرسول صلى الله عليه وسلم من أجل اتِّباعه ومن أجل إدخال المسائل الجديدة تحت القواعد القديمة التي استنتجت من كلام الرسول صلى الله عليه وسلم ومن القرآن، وليس للاجتهاد معنى آخر غير هذا.

وكل المجتهدين: الإمام الشافعي، الإمام أحمد بن حنبل، الإمام أبو حنيفة، الإمام مالك... كلهم يقولون:

إذا صح الحديث فاضرب برأيي عرض الحائط: أي أنه إذا رأي رأياً من الآراء، ملتمساً في هذا الرأي أن يكون موافقاً لكلام الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم تبيَّن فيما بعد أنه أخطأ، لأنَّ الحديث يُفيد غير ذلك، فإنَّ كلامه ورأيه لا قيمة لهما، ويجب أن يُطْرَحا ويهملا وأن يؤخذ بكلام الرسول صلى الله عليه وسلم.

وإذن ليس في الاجتهاد تطور...

إنَّ العقل: كمنبع لما وراء الطبيعة، والضمير: كمنبع للأخلاق...

كل هذه هي البشريَّة في مقابلة الألوهيَّة، في مقابلة النص، واعتمدت إذن الحضارة الحديثة على البشريَّة في مبادئها وقواعدها، فكانت النظم الاجتماعية المختلفة، والنظم الأخلاقيَّة المختلفة، وكان الهدم في كل يوم!!

وانتهت في بعض الميادين الفكريَّة الاجتماعيَّة إلى ما كان يمكن أو يتصور أن تنتهي إليه:

لقد انتهت بتفسير أو تصوير رائع، لآية قرآنية كريمة هي:{وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آَتَيْنَاهُ آَيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الغَاوِينَ(175) وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ}. [الأعراف]. 

وأريد أن أشرح هذه الآية في إيجاز: إن آيات الله تعالى محيطة بالإنسان من جميع أقطاره، فالسموات من آيات الله، والأرض من آيات الله، والأشجار من آيات الله، والأنهار والجبال، والمحيطات والنجوم والكواكب: كل ذلك من آيات الله تعالى. هذا الإبداع المحكم، الذي يُحيط بالإنسان من جميع أقطاره، هذه الآيات التي تُحيط بالناس أينما كانوا والتي تنادي بجلال الله سبحانه وعظمته.. حاول بعض الناس الانسلاخ منها - فلم يُقروا بالألوهية الإقرار السليم، والتعبير بالانسلاخ من أحكم وأدق وأروع ما يكون!!

لقد حاولوا الانسلاخ منها وهي ملتصقة بهم التصاق جلد الإنسان بالإنسان وانسلخوا منها - بعد لأي، وعلى خلاف الفطرة، وعلى وضع لا يتلاءم مع النظام الطبيعي، وانسلخوا بذلك من محيط الألوهية! إنهم خرجوا عن سرادق الألوهية، وخرجوا عن أن يكونوا من عباد الله، فتهيأوا بصنيعهم هذا ليكونوا من أتباع الشيطان، وسهل على الشيطان غزوهم، فغزاهم بخيله ورجله فكانوا من الغاوين، ولو شاء الله لرفعهم بآياته ولكن العيب جاء منهم هم، إذ أخلدوا إلى الأرض!

وما من ريب في أن الإخلاد إلى الأرض في أبشع صورة: هو الشيوعية!

واتبعوا أهواءهم:

وما من شك في أنَّ اتِّباع الهوى في أسمج صورة: هو الفلسفة الوجودية! 

وسواء كنا بصدد الشيوعي، أو بصدد الوجودي: فمثله كمثل الكلب، إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث!.

ولكن لِمَ يلهث سواء أحملت عليه أم تركته؟

إنَّ الشيوعي: ليس همه إلا المادة والاخلاد إلى الأرض، ومهما بسط الله تعالى له في الرزق: فهو ضيق بذلك، وإذا ضيَّق الله تعالى عليه الرزق، فهو ضيق بذلك أيضاً، إنه لا يطمئن إلى شيء روحي يقنعه، والمادة – مهما أوتي الإنسان منها – فإنها – مادام جشعاً – لا تنتهي إلى إرضائه.

وكذلك الأمر فيما يتعلق بالوجودي.

فإنه: وقد آثر اتِّباع الهوى – وليست الوجودية إلا إيثار اتَّباع الهوى – فإنه لا يعتمد على هادٍ يطمئنه، ولا على اطمئنان يسكنه، وهو ضيق بالحياة ذرعاً، سواء كان سعيداً أو شقيَّاً، فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث!!

انتهت الحضارة إلى أمثال هذه النظم التي لا ترى إلا المادة، أو لا ترى إلا البشريَّة الهاوية أو الغاوية، وانتهى الأمر بالشيوعي والوجودي: إلى ما كان لا مفر من أن ينتهي إليه، وهو انفصال الشيوعي وانفصال الوجودي عن المحيط الإلهي، عن السرادق الإلهي.

ومما لا شك فيه، أن هذه النظم التي لا تتصل بالعصمة إنما تتخبط وتكون باستمرار متأرجحة متقلبة، ولا تستقر استقراراً نسبيَّاً، إلا بالحديد والنار، وبالسلاح، وبسفك الدماء وبالقتل، وأن ما وراء الستار الحديدي يمكن أن يكون صورة لكل هذا الانفصال عن الألوهية الذي لا يستقر إلا بالحديد والنار!؟

تلك أُسس الحضارة ومنابعها، ومصادرها: عقل، فضمير، فتطور، فانتهاء إلى أمثال هذه النظم التي خرجت بالإنسان عن الجادة. 

والدين – إذن – لا يعارض التقدم في سبيل إسعاد البشريَّة، هذه قضيَّة نحن مسلِّمون بها.

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم 

المصدر: مجلة الأزهر، السنة الخمسون، شوال 1398، سبتمبر 1978م - الجزء 6

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين