نقد أصحاب الحديث

قالوا: أي طائفة من طوائف ذوي العلم تنتمي إليها منخرطا في سلكها وواصلا إياك بسببها؟ 

قلت: هم أصحاب الحديث خاصتي ورهطي، أنضوي إليهم، لاصقا بهم متشبثا، غير عادل بهم فئة ولا عصابة. 

قالوا: القرآن الكريم كتاب الله تعالى وحيا منه لفظا ومعنى، فما لك لم تنسب نفسك إلى أهله؟

قلت: أصحاب الحديث هم المعنيون بشمائل النبي صلى الله عليه وسلم وسيرته وسلوكه وآدابه والمتعهدون بعلومه ومعارفه، وعلومه تشمل القرآن والسنة والفقه وسائر ما يتصل بدين الله وشريعته، منثنين بالمكرمات كثيرها وقليلها ومختصين بالمحاسن صغيرها وجليلها، وإذا زال عز معشر وأفل منع انتماؤهم للنبي صلى الله عليه وسلم عزهم أن يزول ويأفل، فمن اعتنى بالحديث اعتنى بالقرآن والحديث والفقه على طريقة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه والسلف، بينما الذين انتحلوا القرآن منصرفين إليه وحده دون الآثار ظهر فيهم بدع ومحدثات منحرفين عن محجَّة النبي صلى الله عليه وسلم.

قالوا: اشرح لنا بدعهم ومحدثاتهم.

قلت: يحتاج ذلك إلى مقال، وسأحرره إذا نشطت له وتفرغت.

قالوا: نراك تنتقد كل طائفة من طوائف أهل العلم نائلا منهم في غير لين ولا هوادة، إلا أصحاب الحديث.

قلت: دعوني من ذلك، فإني محب لهم مفتونا بهم حريصا على أن أحيا على مذهبهم وأموت على مذهبهم.

قالوا: أليس ذلك من العصبية التي تنكرها أشد الإنكار؟ 

قلت: إن محبتهم راسخة في قلبي رسوخا وثابتة في نفسي ثباتا، فأشيد بفضلهم، وأعلي من شأنهم، وأنوه بمحاسنهم وأعمالهم، وأتغاضى عن معايبهم ومثالبهم، وأستغفر لهم داعيا لهم بمزيد توفيق. 

قالوا: ما هذا المقياس المزدوج؟ تقيس أهل الحديث بمقياس، وتقيس غيرهم بمقياس آخر، ألا تراك زائغا عن مهيع العدل والقسط الذي أمر الله بإقامته. 

قلت: إن الحب يعمي ويصم، فما أراني أرضى بطعنهم والوقوع فيهم.

قالوا: دع إيغالك هذا في الحب مقصرا من صبابة غير مطيل، فأنت كبيرنا وشيخنا، أفدنا طائعا أو كارها، وشائقا أو حزينا، وعاذرا أو عذولا.

قلت: يا ليتكم لم تكرهوني على نقد أصحابي كل هذا الإكراه، أما إذ أبيتم، فاسمعوا مني خمس خصال أستقبحها في أهل الحديث مستنكرا لها ومستبشعا، وسائلا إياكم أن ترفقوا بي رفقا، فمن الجهالة أن تعنِّفوا الأليف المغرم والولوع الهائم:

الأولى: جعل النبيُّ صلى الله عليه وسلم القرآن هو الأصل، وتبعه على ذلك أصحابه، غير مستغنين عنه ولا مفرطين فيه، ومشى على ذلك أصحاب الحديث الأوَّلون، ثم خلف من بعدهم خلف قصروا في كتاب الله تعالى تقصيرًا كبيرًا وتهاونوا به تهاونا غير قليل، غير مدبري التنزيل ولا قاضين لهم فضلا في التأويل، وكأنهم جعلوا الحديث هو الأصل، لا يتلون كتاب الله حق تلاوته، ولا يتأمَّلونه ولا يمعنون فيه نظرا ولا فكرا، ولا يعتبرون معنى بمعنى، ولا يردون الأحاديث إليه رد الفروع إلى أصولها والجزئيات إلى كلياتها.

الثانية: أنهم تقاصروا في فهم منهج المحدثين في تصحيح الحديث وتضعيفه، فراج في المتأخرين منهم مذهب باعد بينهم وبين أئمتهم، وأحدث بين سلفهم وخلفهم فجوة كبيرة، إذ جعلوا كثرة الطرق ذريعة لتغيير أحكام الصحة والضعف والنكارة، فكم من أحاديث حسنها المتقدمون، فصححها المتأخرون، وكم من أحاديث ضعفها الأولون فحسنها الذين جاءوا بعدهم، بل ورفعوا الشواذ والمناكير والموضوعات إلى الصحاح والحسان، ولا أرى طائفة أفرطت في تحسين ما ليس بحسن وتصحيح ما ليس بصحيح مثلما أفرطوا، فأفسدوا هذا العلم إفسادا، وأي علم أفسدوا.

الثالثة: أنهم لم يستوعبوا معنى السماع والقراءة والإجازة وغيرها من المصطلحات، ولم يعلموا أنها وسائل، وليست بمقاصد، فعاملوها معاملة المقاصد، وذلك خطأ منهم كبير، وتراهم يأخذون من شيوخهم مناولة، وهي مناولة لا علاقة لها بالمناولة صورة ولا معنى، وتراهم يجيزهم شيوخهم فيقولون: قبلنا، والإيجاب والقبول يحتاج إليهما في العقود كالنكاح والبيوع، وتلقي العلم ليس عقدا، فأي معنى للقبول هنا، بل هو عبث وجهل، وظهر بينهم تفاخر بكثرة السماعات والإجازات، وإن كان بعض من لم يكثر من السماع والإجازة أفقه منهم وأوعى.

الرابعة: قلة فقههم لمعاني الحديث، وعدم تعمقهم في دراسة الموطأ والصحيحين وسنن أبي داود والترمذي وغيرها، فصاروا حشويين يضحك منهم أهل العلم والعقل، فالمعاني والحقائق أدق وأسمى وأجل من أن تدرك بمجرد السماع والقراءة والإجازة، ولا يعني الحديث عند أكثرهم إلا إسنادا عاليا أو نازلا، أو مسلسلا أو غير مسلسل، متفاخرين بقلة الوسائط بينهم وبين الأمير الكبير أو الشاه ولي الله الدهلوي، وبينهم وبين البرهان الكوراني أو عبد الله بن سالم البصري، وبينهم وبين أبي العباس الحجار أو الفخر ابن البخاري، ولا تعرف الأحاديث عندهم بمعانيها وأبوابها، بل تعرف بكونها مسلسلة بالفقهاء، أو الحنفية، والمالكية، والشافعية والحنابلة، أو بالمكيين والمدنيين والدمشقيين، أو بالمحمدين أو بمن مبدأ اسمه عين، وأمثال ذلك من الملح والطرف والغرائب والنوادر.

الخامسة: أنهم لم يتخلقوا بأخلاق أهل الحديث، قاربة جوانبهم الفواحش، وآتين من السجايا والآداب غير جميلها، وقد تفشى فيهم تحاسد وتباغض، وتقاطع وتدابر، وهجران وتقال، وبخس للحقوق وتنابز بالألقاب ووشاية واغتياب، وحرص على انفراد بالشيوخ دون قرنائهم، وغضبهم على أصحابهم إذا لم يخبروهم بمجالس السماع والشيوخ، ويجهلون أن المجالس ليس من شأنها أن تكون عامة ومأذونا فيها للجميع، والتخلي عن المثل والقيم عيب للعلماء جميعا ولا سيما المتزعمين اختصاصهم بالنبي صلى الله عليه وسلم، فلم يغن اعتناؤهم بالحديث عنهم شيئا، وصار علمهم حجة عليهم.

قالوا: شكرناك على إفادتك.

قلت: فعلتها وأنا لها من الكارهين، واعلموا أنه من اللؤم عتْب الحبيبِ الحبيبَ ولوم الخليلِ الخليلَ، وأوصي نفسي وأصحاب الحديث، وهم علية إخواني وخلص أوليائي، أن نتحلى بالفضائل ونأخذ أطرافا من سائر العلوم فتعدلنا آثارها الباقيات الصالحات، في غير بغي ولا طغيان، ولا ظلم ولا عدوان، وأدعو الله لي ولكم أن ينعم علينا بلب العلم والعمل والإخلاص وأن نستغفره من ذنوبنا وأخطائنا تائبين إليه منيبين.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين