القرآن الكريم مؤسس العقلانية

لم يعرف التاريخ كتاباً غير نظرة البشر إلى الكون والحياة كما فعل القرآن الكريم، فقد تفرد هذا الكتاب العظيم بتقديم نظرة جديدة للكون والحياة؛ أسس بها "عقلانية" لم تعرف من قبل حتى في الكتب السماوية السابقة .

فقد كان من أبرز معالم هذا الكتاب الكريم عنايته بالعقل، فقد ميز اللهُ عز وجل الإنسانَ بالعقل عن سائر المخلوقات، وأوجب عليه إعمال عقله في شؤونه المختلفة، وألقى اللوم الشديد على الذين يعطلون عقولهم، فكان يقرع أسماعهم في الكثير من الآيات بقوله تعالى : "أفلا تعقلون" ؟!!

وبناء على هذا التكريم الإلهي للعقل فإننا نعتقد أن الرسالات السماوية السابقة قد اعتنت بالعقل كما اعتنى به القرآن الكريم، لأنها والقرآن خرجت من مشكاة واحدة، غير أن القرآن الكريم مضى بالعقل إلى آفاق أرحب شكلت في مجموعها بنيان "عقلانية" جديدة لم تعرف من قبل، نذكر أبرز معالمها فيما يأتي :

1 – ختم عصر المعجزات والخوارق .

2 – تأسيس المنهج العلمي التجريبي .

3 – التحرر من الآبائية والتقليد والدعوة للتجديد .

4 – تحميل مسؤولية الفعل للنفس البشرية بعد أن كانت تنسب للجن والشياطين .

5 – لفت العقل إلى سنن الله في الخلق .

6 – الحذر من الظن والهوى وغيرها من أمراض العقل

ونتناول فيما يأتي هذه المحاور بالتفصيل، كما عرضها القرآن الكريم .

1 – ختم عصر المعجزات والخوارق .

لقد اقترن تاريخ الرسالات السماوية بالمعجزات؛ و " المعجزة أمر خارق للعادة، مقرون بالتحدّي، سالم من المعارضة، يظهره الله على يدي رسوله" ، فقد جرت سنة الله أن يؤيد رسله بالمُعجِزات الخارقة للعادة؛ لإقامة الحجة على الناس، وحملهم على تصديق الرسول والرسالة، من خلال المعجزات الخارقة التي لا يستطيعها سوى الخالق سبحانه .

غير أن هذه السنة تغيرت مع الرسالة الخاتمة التي أنزلت على خاتم األأنبياء "محمد" صلى الله عليه وسلم، فقد مثلت هذه الرسالة نهاية عصر المعجزات، إذ لم يعرف لهذا النبي الخاتم معجزة يتحدى بها قومه، على غرار ما عرف في الرسالات السابقة، بل كانت معجزته كتاباً يتحدى العقل، كما ذكر النبي نفسه - صلى الله عليه وسلم - فقال : ( مَا مِنْ الْأَنْبِيَاءِ نَبِيٌّ إِلَّا أُعْطِيَ مِنْ الْآيَاتِ مَا مِثْلُهُ آمَنَ عَلَيْهِ الْبَشَرُ، وَإِنَّمَا كَانَ الَّذِي أُوتِيتُ وَحْيًا أَوْحَاهُ اللَّهُ إِلَيَّ، فَأَرْجُو أَنِّي أَكْثَرُهُمْ تَابِعًا يَوْمَ الْقِيَامَة) رواه البخاري (7274) .

فقد كانت معجزات الأنبياء السابقين معجزات مادية محسوسة تقيم الحجة على الذين عاصروها وشاهدوها، دون غيرهم من البشر، بينما كانت معجزة الرسالة الخاتمة كتاباً يدعو العقل للنظر والتفكر والتدبر، فيقيم الحجة على الناس- إلى يوم القيامة - من خلال التفكير، لا من خلال الخوارق !

وبهذه النقلة من "الخوارق" إلى "كتاب" شكلت رسالة الإسلام نقطة فاصلة بين عقلية مضت تدهش العقل أمام الخوارق وتضطره للتصديق اضطراراً، وبين عقلية جديدة تدفع العقل للتفكير والنظر والتدبر في حرية تامة، لا اضطرار فيها ولا إكراه !

ورب سائل يقول : لكن سيرته – صلى الله عليه وسلم – قد شهدت جملة من الخوارق؟ ( مثل الإسراء والمعراج، ومخاطبته أهل القبور، وحنين جذع الشجرة، وتسبيح الحصى بين يديه، وتكثير الطعام بين يديه، وتفجر الماء من بين أصابعه الشريفة وغيرها من الخوارق .. فكيف تزعم أن رسالته كانت خاتمة للخوارق؟

والجواب : أن الخوارق التي حصلت على يديه صلى الله عليه وسلم كانت تحصل في ظروف خاصة، تختلف عن ظروف المعجزات التي حصلت على أيدي الأنبياء السابقين عليهم السلام، التي كانت تحصل رداً على تحدي القوم لرسولهم، أما ما حصل من خوارق على يدي النبي صلى الله عليه وسلم، لم تكن رداً على التحدي، اللهم إلا قصة انشقاق القمر، التي اختلف العلماء في حديثها، ما بين ضعيف أو موقوف أو منقطع . فإذا صح هذا تكون الرسالة الخاتمة لم يصاحبها أية معجزة حسب التعريف الذي ذكرناه آنفاً وأجمع عليه العلماء .

وبعيداً عن هذا الخلاف، جاء القرآن الكريم فقطع الشك باليقين، وأعلن صراحة نهاية عصر المعجزات في قوله تعالى : (وَمَا مَنَعَنَا أَن نُّرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَن كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ .. الآية) سورة الإسراء 59 .

كما نلمح إشارة ضمنية إلى نهاية عصر المعجزات، في رد النبي - صلى الله عليه وسلم - على المشركين الذين كانوا يطالبونه بمعجزة خارقة : (وَقَالُوا لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّىٰ تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنبُوعًا * أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا * أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا * أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِّن زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَىٰ فِي السَّمَاءِ وَلَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّىٰ تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَّقْرَؤُهُ ۗ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إِلَّا بَشَرًا رَّسُولًا) سورة الإسراء 90 – 93 ، فالظاهر من رد النبي أنه لم يستجب للطلب مستلهماً قول الحق تبارك وتعالى : "كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ * فَأَذَاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۖ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ ۚ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ * وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَٰذَا الْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ" سورة الزمر 25 – 27 ، فقد خشي النبي – صلى الله عليه وسلم – على قومه الدمار والخزي، فلم يستجب للطلب، رحمة بهم، كما فعل عندما جاءه ملك الجبال وخيره أن يطبق الجبلين على الذين آذوه – صلى الله عليه وسلم – فكان جوابه : "أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئاً" صحيح مسلم ، كتاب الجهاد والسير، من حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها . 

ومما تجدر ملاحظته أن الرسالة الخاتمة لم تختم عصر الخوارق بوقف المعجزات وحدها، وإنما ختمت أيضاً الأفعال الخارقة الأخرى التي تنسب عادة للجن، فقد صاحب هذه الرسالة الخاتمة منع الجن من لعض الخوارق كالاستماع إلى أخبار السماء، كما أخبر القرآن عن بعضهم الذين قالوا : (وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا * وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ ۖ فَمَن يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَاباً رَّصَداً ...الآية) سورة الجن 8 – 9 ، 

وتأكيداً لنهاية عصر الخوارق نجد إشارة أخرى في القرآن الكريم، ألا وهي الحد من الأفعال الخارقة التي كانت تنسب للجن، وهذه الإشارة نجدها في قصة نبي الله سليمان – عليه السلام - حين طلب إحضار عرش بلقيس : "قَالَ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَن يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ * قَالَ عِفْرِيتٌ مِّنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن تَقُومَ مِن مَّقَامِكَ ۖ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ * قَالَ الَّذِي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ ۚ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِندَهُ قَالَ هَٰذَا مِن فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ ۖ وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ ۖ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ" سورة النمل 38 – 40 . فالذي أحضر العرش في لمح البصر ليس الجن، بل الذي عنده علم من الكتاب، وفي هذا إشارة صريحة إلى الحد من قدرات الجن !

ومن الخوارق التي أنهى القرآن الكريم عصرها كذلك : "السحر" فقد فضح القرآن حقيقة السحر؛ فبين أنه ليس سوى وهمٍ وتخييل، ولا حقيقة له، فالساحر لا يستطيع قلب حقيقة الأشياء، كما يعتقد بعضهم، وقدم القرآن الكريم برهاناً عملياً أظهر حقيقة السحر، وذلك من خلال المناظرة التي حصلت بين نبي الله موسى عليه السلام، وسحرة فرعون الذين كانوا أعلم الناس بالسحر، فقد وصف الله عملهم بالتخييل فقال تعالى : " .. يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَىٰ" سورة طه 66 ، وأثبت في الآية التالية أن عملهم كان مجرد تخييل للعيون، لاحقيقة له فقال تعالى : " .. فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ" سورة الأعراف 116 .

وبهذا الختم لعصر الخوارق شكلت رسالة الإسلام نقلة عقلية نوعية؛ صرفت العقل البشري نهائياً عن الخوارق، ووجهته إلى إعمال العقل والنظر في آيات الله المبثوثة في الكون . 

وقد كان لهذه النقلة القرآنية أثر عميق في نشأة الحضارة الإسلامية الأولى، وتميزها عن سائر الحضارات التي سبقتها .. فهؤلاء العرب الذين لم يكن لهم علم، ولا معرفة بالسنن (=القوانين) التي تحكم حياة الأفراد والمجتمعات، قدم لهم القرآن الكريم تلخيصاً ضافياً لهذه السنن، حتى إذا عقلوها تغيرت نظرتهم إلى الكون والحياة؛ فاكتسبوا من ذلك قدرة باهرة على تسخير ما في أيديهم -على قلة ما كان في أيديهم - فاستطاعوا بفضل الله تعالى الانطلاق في العالم حاملين نور الهداية والرحمة، حتى نشروا راية التوحيد خفاقة في أرجاء المعمورة، وأقاموا حضارة إنسانية فريدة، مازالت شواهدها قائمة حتى اليوم !

2 – تأسيس المنهج العلمي التجريبي :

ومن النقلات العقلية المهمة التي تضمنتها الرسالة الخالدة، لفت نظر البشر إلى دور العلم في الحياة، فقد حفل الكتاب والسنة بنصوص لا تعد ولا تحصى؛ تحض كلها على العلم والتعلم، منها قوله تعالى : " ... قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ ۗ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ" سورة الزمر 9 ، وقوله تعالى : "يَرْفَعِ الله الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ دَرَجَاتٍ وَالله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ" سورة المجادلة 11 ، وورد في الصحيح كثير من الأحاديث التي تعلي من مكانة العلم والعلماء، منها قوله صلى الله عليه وسلم : "فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم"، وغيرها كثير من نصوص الكتاب والسنة .

وثمة ملاحظة بالغة الأهمية لا بد من الوقوف عندها طويلاً في سياق الحديث عن نظرة القرآن الكريم إلى العلم؛ إذ لم يكتف القرآن بالدعوة إلى العلم؛ وإنما دعا كذلك إلى رفض أية دعوى إلا ببرهان "قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ" سورة البقرة 111، بل ذهب القرآن الكريم إلى أبعد من هذا فأسس "المنهج التجريبي" الذي صار فيما بعد حجر الأساس في العلوم التجريبية قاطبة، وذلك من خلال التجربة العملية التي جرت على يدي نبي الله إبراهيم عليه السلام : "وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَىٰ ۖ قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن ۖ قَالَ بَلَىٰ وَلَٰكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي ۖ قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَىٰ كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءاً ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً ۚ وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ" سورة البقرة 260 .

وعلى هذه الصورة انتقل القرآن الكريم بالعقل البشري نقلة حاسمة بوضع أساسين للعلم الجدير بالثقة، هما (البرهان والتجربة) وقد كان لهذه النقلة العقلية تأثير كبير في إنجازات العلماء التجريبيين المسلمين الذين أهدوا العالم كنزاً لا يقدر بثمن في العلوم المختلفة، نذكر منهم على سبيل المثال لا الحصر أعمال "ابن سينا" في الطب، و "الحسن بن الهيثم" في الفيزياء، و "البيروني" و "الكندي" في الفلك، و"الخوارزمي" في الرياضيات، وغيرهم كثير، مما مهد الطريق إلى العلوم الحديثة المعاصرة التي غيرت وجه الأرض، كل هذا بفضل العقلانية العلمية التي أسسها القرآن الكريم، ففتحت للعلم كل الأبواب !

3 – التحرر من الآبائية والدعوة للتجديد :

عندما بعث الله نبيه محمداً – صلى الله عليه وسلم - في مكة كان أهلها يعبدون الأوثان، فوقفوا في وجه النبي وحاربوه، بحجة أن ما جاء به يتعارض مع ما تعودوه وألفوه من العبادة التي وجدوا عليها آباءهم وأجدادهم "وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَا أَنزَلَ اللّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُواْ حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ" سورة المائدة 104 .

ويخبرنا القرآن الكريم وتاريخ الرسالات السماوية أن هذه "الآبائية" مرض مزمن عرفته البشرية منذ زمن بعيد، فكان الناس كلما جاءهم رسول، رفضوا دعوته وحاربوه، والحجة دائماً هي نفس الحجة : "أجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا" سورة الأعراف 70 .

وبما أن الآبائية مرض يوقف الحياة عند زمن مضى .. زمن الآباء .. ويعطل العقول، فقد كان علاج هذا المرض هدفاً مركزياً من أهداف القرآن الكريم الذي أعلن حرباً شعواء على الآبائية، في آيات كثيرة؛ لأن الآبائية تقوم على التقليد الأعمى واعتقاد الصواب المطلق في تراث الآباء والأجداد، وترفع هذا التراث إلى مرتبة العصمة والقداسة، وفي هذا وقف لعجلة الحياة، وتحنيط للمجتمع عند زمن عاطل عن الفعل والعطاء !

ولهذه الأسباب تكررت إدانة القرآن الكريم للآبائية، وحذر من التوقف عند تراث السابقين مهما اعتقدنا فيهم العلم والإخلاص والتقوى؛ لكي يظل المجتمع نابضاً بالحياة، ويظل الدين على نقائه الأول، فلا يختلط بعمل البشر، كما حصل في الرسالات السابقة التي اختلط فيها الوحي المعصوم بالعمل البشري غير المعصوم، فانحرف القوم، ووقعوا في الضلال والكفر !

وليس تراثنا الإسلامي بمنأى عن هذا المرض، فتراثنا كذلك عمل بشري معرض لما يتعرض له كل عمل بشري، من خطأ، أو سهو، أو غلو، أو سوء تأويل، وهذا ما يوجب إعادة النظر فيه ما بين فترة وأخرى، وهذا ما عبر عنه قول النبي صلى الله عليه وسلم : "يحملُ هذا العلمَ من كل خَلَفٍ عًدولُهُ يًنفونَ عَنهُ تَحريفَ الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين" رواه البيهقي، تحقيق العلامة الألباني / مشكاة المصابيح كتاب العلم - الفصل الأول الجزء1 ص 53 ، ومن رحمة الله بالأمة وحفظ دينها، إنه يقيض لهذا التراث من يجدده بين الحين والآخر، كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم فقال : "إِنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ عَلَى رَأْسِ كُلِّ مِائَةِ سَنَةٍ مَنْ يُجَدِّدُ لَهَا دِينَهَا" رواه أبو داود (رقم/4291) وصححه السخاوي في "المقاصد الحسنة" (149) .

فهذه النصوص من الكتاب والسنة تنبهنا – نحن المسلمين – أننا لسنا في عصمة عن مرض الآبائية، وهذا ما يوجب علينا العمل على تجديد الدين بتحريره مما يلحق به – مع مرور الزمن - من علل أو أدواء تتعارض مع أصوله ومقاصده .

4 – تحميل مسؤولية الفعل للنفس البشرية بعد أن كانت المسؤولية تنسب للجن والشياطين :

فقد ساد في العصور الغابرة تأثير الجن والشياطين في حياة الإنسان، وفي مسيرة الأحداث، حتى ساد الاعتقاد بقدرة الجن على علم الغيب، وقدرتهم على فعل أي شيء، وتدخلهم في كل عمل بشري، فلما جاءت الرسالة الخاتمة أعلنت تقييد الجن والشياطين عن بعض الأفعال والحد من قدراتهم، وأولها الحيلولة بينهم وبين غيوب السماء، كما ذكرنا آنفاً .

وقد وردت في القرآن آيات عديدة تحصر تأثير الجن بحياة البشر في "الوسوسة" دون غيرها من الأفعال التي ينسبها البشر عادة للجن والشياطين لتبرير أخطائهم، وتبرئة أنفسهم من الأفعال القبيحة !

ومن أجل سد هذه الذريعة الشيطانية؛ جاء القرآن الكريم لتغيير هذه النظرة، فنفى أن يكون للجن تأثير في حياة الإنسان سوى الوسوسة، وحمل الإنسان مسؤولية أفعاله، من ذلك مثلاً قوله تعالى : "وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ" سورة الشورى 30 ، ويؤكد القرآن الكريم هذه الحقيقة مرة أخرى في قوله تعالى حكاية عن إبليس : "وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ ۖ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلَّا أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي ۖ فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنفُسَكُم ۖ مَّا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنتُم بِمُصْرِخِيَّ ۖ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ ۗ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ" سورة إبراهيم 22 .

وهكذا حرر القرآن الكريم العقل البشري من النزعة التبريرية التي تمنعه من الاعتراف بأخطائه، وتجعله يكرر أخطاءه وفشله، مما ينتهي به إلى الخسران المبين في الدنيا والآخرة !

5 – لفت العقل إلى سنن الله في الخلق :

لقد اتُّهِم العقلُ المسلم من قبل بعض الباحثين؛ أن السبب في عجزه وانحساره الحضاري هو اعتماده في النظر والتفكير على المنهج القياسي الاستنباطي، فيزعم هؤلاء الباحثين أن العقل المسلم محكوم دائماً بأصل يقيس عليه، أو نص يحول بينه وبين الطلاقة في التفكير، فهو فرع لأصل، يدور في إطاره، ولا يمتلك الاستقلالية ولا الحرية !

ويزعم هؤلاء بالمقابل أن السبب في انطلاقة العقل الأوروبي اعتماده على المنهج الاستقرائي الذي يحرر العقل من القيود المسبقة، من الأنموذج الحاكم، أو المثال السابق، أو "الآبائية" كما يعبر عنها قوله تعالى : "إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَىٰ أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَىٰ آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ" سورة الزخرف 23 ، كما أفضنا الحديث عنها آنفاً .

غير أن هذا الفارق ما بين العقل المسلم والعقل الأوروبي لا يعود إلى النصوص، كما زعم هؤلاء، وإنما يرجع هذا الفارق إلى ملابسات تاريخية أخرى لا مجال لعرضها هنا، ولعلنا نقف على تفاصيلها في بحث لاحق إن شاء الله تعالى .

ونكتفي هنا للتدليل على براءة النصوص من تهمة ما أصاب العقل المسلم من عطالة في القرون المتأخرة؛ بأن نشير إلى النصوص المستفيضة من الكتاب والسنة التي تطلق العقل للنظر والتفكير بلا حدود، منها قوله تعالى : "قُلِ انظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ" سورة يونس 101 . وقوله تعالى: "وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ " سورة الجاثية 13 ، فالنصوص تفتح الباب واسعاً للعقل البشري لكي يستكشف السنن الناظمة لحركة الكون والحياة، ليس في الأرض وحدها، بل في السماء كذلك، لأن معرفة هذه السنن – بمنظور القرآن الكريم - تعد شرطاً لعمارة الأرض، والتبصر بالعواقب، وتؤهل معرفة هذه السنن تحقيق واجب الاستخلاف في الأرض على الوجه الذي يرضي الله عز وجل .

ويجد الباحث الجاد في الكتاب والسنة، خلاصة ضافية للسنن التي تحكم الكون والحياة، وأسباب نهوض الأمم والحضارات وسقوطها، وربط الأسباب بالمسببات، والمقدمات بالنتائج، ويلاحظ الباحث كذلك أن الكتاب والسنة يقدمان هذه الخلاصة للسنن بما يشبه المعادلات الرياضية الصارمة التي تشكل زاداً غنياً للعقل البشري لكي يسير في هذه الحياة على بصيرة .

ويرجع اهتمام الكتاب والسنة بمعرفة سنن الله في الخلق، لأن التعرف عليها لا يمنح الإنسان القدرة على تسخير الكون فحسب، وإنما يمنحه قدراً كبيراً من التحكم بالنتائج، والتخفيف من الآثار السلبية، ومغالبة قدر بقدر، والفرار من قدر إلى قدر، وفي هذا فتح للباب واسعاً أمام طاقات الإنسان، وتمكينه من التحكم في الكون الذي قدر الله له أن يكون فيه سيداً، بتذليل هذه السنن وتسخيرها له: كما جاء في قوله تعالى "وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ" سورة الجاثية 13 .

ومن الجدير بالملاحظة هنا أن القرآن الكريم لم يكتف بالحديث نظرياً عن السنن، وإنما عرض مثالاً حياً عن ثمرة المعرفة بالسن؛ وذلك من خلال قصة "ذو القرنين" التي تمثل أنموذجاً متجسداً لربط الأسباب بالمسببات، والمقدمات بالنتائج، "إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِن كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا (84) فَأَتْبَعَ سَبَبًا (85)" سورة الكهف .

6 – التحذير من الظن والهوى وغيرها من علل العقل :

يعد الظن والهوى من أسوأ الأمراض التي إذا خالطت العقل أعمته عن رؤية الحق، وأهلكت صاحبه، ولهذا نجد الكتاب والسنة قد حفلا بالنصوص التي تحذر من هذين المرضين احتراماً للعقل، وحماية له من الضلال والهلاك، من ذلك قوله تعالى: (وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَنًّا إَنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا) سورة يونس 36، وقول النبي صلى الله عليه وسلم : "إياكم والظنَّ، فإنَّ الظنَّ أكذب الحديث" متفق عليه، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وإنما كان الظنُّ مرذولاً لأنَّه مخالف للواقع، ولا يستند إلى برهان، فكان أكذب الحديث .

وإذا كان الظن مخالف للواقع، فإن "الهوى" قريب من ذلك؛ فهو تحكيم للعاطفة بدل العقل، وتجاهل للواقع، وازدراء للعواقب .

وهكذا نجد أن الهوى والظن لا يخالطان أمراً إلا أفسداه، فإن دخلا على العلم أخرجاه عن اليقين، ونزعا عنه الثقة . وفي هذا ما فيه من ازدراء للعقل واستخفاف، ولهذا كان للكتاب والسنة موقف حاسم في رفض الظن والهوى، واعتبارهما من المهلكات، كما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم الذي قال : "ثلاث مهلكات : شح مطاع، وهوى متبع، وإعجاب المرء برأيه" أخرجه الطبراني في الأوسط، والبيهقي في الشعب، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة .

فاتباع الظن والهوى يَطمِسُ نورَ العقل، ويُعمي بصيرة القلب، ويصد عن الحق؛ كما أن اتباع الظن والهوى يفسد العقل؛ فيصير الحَسَن عنده قبيحاً، والقبيح حسَناً؛ ولهذا كان الظن والهوى من أهم أسباب الفساد في الأرض كما قال تعالى: ﴿ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السموات والأرض ومن فيهن .. الآية ﴾ سورة المؤمنون 71. وحرصاً من القرآن الكريم على سلامة العقل، جعل البعد عن الظن والهوى من أسس العقلانية الراشدة .

( وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين )

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين