ما فائدة الدين؟

هل يمكن أن تذكر لنا بعض فضائل الدين؟ منذ الأزل نشأت بين البشر صراعات وحروب لأسباب اقتصادية وسياسية، فلما جاءت الأديان صارت سبباً جديداً للعنف والكراهية، بل إن الحروب الدينية كانت أكثر وحشية من كل ما سبقها. فما الفائدة التي حصل عليها البشر من الدين؟

هذا تعليق كتبه أخ كريم على مقالة "ظاهرة الإلحاد" التي نشرتها قبل عشرة أيام، وفيه سؤالان، أولهما عن فائدة الدين بالمطلق، والثاني عن علاقة الدين بالحروب والصراعات. سأجيب عن النصف الأول في هذه المقالة وأترك النصف الثاني لأجيب عنه في مقالة آتية إذا يسّر الله.

* * *

لما كنت صغيراً ساقني أهلي إلى المدرسة قسراً وحبسوني فيها بضعَ عشرةَ سنة، وسيق إليها ملايينُ من أمثالي وهم لها كارهون. قال لي أهلي: حتى لو كرهتها اليوم فسوف تدرك فائدتها بعد أن تكبر في يومٍ آتٍ من الأيام، فاستسلمت وسلّمت بما سمعت لأن الصغير لا يفكر كثيراً ويقبل ما يقوله له الكبار. ثم كبرت وعقلت واستقلّ تفكيري فاستغنيت عن الإملاء، فقد اقتنع عقلي بما كان يُملَى عليه وأدرك أن النجاح في الحياة الآتية بعد التخرج في المدرسة يعتمد بدرجة كبيرة على النجاح فيها، فلم أعد بحاجة إلى مَن يُكرهني على ركوب مركب الدراسة الصعب، ركبته بنفسي رجاء أن يوصلني إلى بَرّ الأمان والنجاح، وقد كان بفضل الله.

وماذا عن الدين؟ أخبروني أيضاً أن طاعة الله في هذه الدنيا تنجيني في الآخرة التي صوّروها لي بأبهى الصور ورغّبوني في الفوز فيها بأعلى الدرجات، فاستسلمت وسلّمت بما سمعت لأن الصغير لا يفكر كثيراً ويقبل ما يقوله له الكبار. ثم كبرت وعقلت واستقل تفكيري ولم أعد بحاجة إلى إملاء، فقد اقتنع عقلي بما كان يُملَى عليه وأدرك أن الدين حق والموت حق والبعث حق والحساب حق، ثم يأتي بعدَه نعيم أبدي أو شقاء طويل. علمت أن السعادة في الحياة الآخرة الآتية بعد الخروج من الدنيا تعتمد بدرجة كبيرة على النجاح فيها، فلم أعد بحاجة إلى من يُكرهني على سلوك طريق التدين الثقيل، سلكته بنفسي رجاء أن يوصلني إلى بَرّ الأمان والنجاح، وأرجو أن يكون بفضل الله.

* * *

فلو سألني سائل عن فائدة الدين سيكون جوابي البديهي الحاضر أنه طريقٌ إلى السعادة الأبدية في دار البقاء، وكفى بهذا الجزاء دافعاً إلى التديّن والالتزام بما أمر الله به واجتناب ما نهى عنه، ولكنه ليس كل شيء. إنه جزاء عظيم يعدل كل ما يلقاه المؤمن المتدين من صعوبة في التدين والالتزام، ولكن هذا الجزاء العظيم تأتي معه "هدايا مجانية" لا تُحصى، أعطيات معجَّلة في الحياة الدنيا ريثما نصل إلى "الجائزة الكبرى" في الحياة الآخرة الباقية في دار الجزاء.

إن الدين يمنح المتدين اطمئناناً وراحة بال يتناسبان تناسباً طردياً (كما يقول الرياضيون) مع درجة الإيمان واليقين، فكلما ازداد يقينُ المتدين وإيمانه صار أكثرَ اطمئناناً وهو يعبر رحلة الحياة الصعبة المضنية الطويلة، فلا يُشقيه شقاؤها لأنه يعلم أن ذرة من نعيم الآخرة تمحو قناطير من شقاء الدنيا، ولا يؤيِسُه ما فيها من حرمان لأنه ينتظر في الآخرة العِوَض والفوز الكبير، ولا يحبطه ما فيها من ظلم لأنه مطمئن إلى عدل الله الذي سينتصف لكل مظلوم من ظالمه يوم الحساب.

ربما عاش غير المؤمنين في سعادة واطمئنان لبعض الوقت، ولكن المؤمن الحقيقي يعيش فيهما الوقتَ كله، وهو يعرف من درجاتهما السامية المحلّقة ما لا يعرفه أصحابُ القلوب التي لم تعرف الله ولم تهتدِ بهداه.

* * *

هذه فائدة يستفيدها الفرد من الدين، أما الفائدة التي تستفيدها الجماعة فأكبر بكثير، لأن المتدينين الصادقين يلتزمون بقوانين الدين الطوعية ولو غاب سيفُ قانون الأرض القاهر، لأنهم يوقنون بأن الله الذي يؤمنون به وبالمعاد إليه والحساب بين يديه مطّلع على ظواهرهم وسرائرهم في كل حال وأنهم محاسَبون على كل عمل يعملونه، حتى مثقال الذرة من خير وشر، فيُقبلون راغبين طائعين على كرائم الأخلاق التي تُصلح المجتمع وتُسعد أهله: الكرم والعطاء والمروءة والتضحية والإيثار والعفو والرحمة والإحسان والصبر والصدق والوفاء والعدل والأمانة والإخلاص، ويجتبنون الموبقات والجرائم التي تُشقي الجماعات وتدمّر المجتمعات: الظلم والحقد والحسد والكِبر والأثرة والقسوة والبغضاء وسوء الظن والاستغلال والسرقة والغش والرشوة والقذف والقتل والعدوان.

لعل الأدلة العقلية التي تثبت صحّة الدين كافية ليُقبل عليه ويدخل فيه كثيرون من غير أهله، ولكنْ لا ريب أن الذين يجذبهم إليه ويقنعهم به نظامُه الأخلاقي الرفيع أكثرُ بكثير، فما يزال هؤلاء مفتونين مبهورين بما يقدمه الدين من سعادة للفرد والجماعة وما يزالون يتدفقون عليه في سيل لا ينتهي من المهتدين في كل مكان وآن، فيجد المضطربون الخائفون فيه السلام والأمان والاطمئنان، ويجد فيه الضعفاءُ رحمةَ الأقوياء والأقوياءُ وفاءَ الضعفاء والمحرومون عطاءَ الأغنياء والأغنياءُ شكرَ الفقراء، ويجد فيه الآباء بِرّ الأبناء والصغارُ عطفَ الكبار والكبارُ توقيرَ الصغار ويجد فيه الجارُ حقَّه عند الجار، وفي ظلاله تتوطد صلة الأرحام وتتأكد الأمانة في التجارة والإتقان في العمل والوفاء بالوعد، ويتمتع فيه كل مسلم في أدنى الأرض بأخوّة المسلمين جميعاً في أقاصي الأرض ولو اختلف اللون واللسان.

* * *

الخلاصة: إن الدين كله خير وفائدة، فائدة مؤجَّلة تنجي المتدين في دار البقاء، وفائدة معجلة في الدنيا، للفرد اطمئناناً في نفسه وسعادةً وراحةَ بال وللجماعة تراحماً بين أفرادها وتعاوناً على البِرّ والخير.

على أن هذه الفوائد الجليلة تتحقق بمقدار صدق أصحاب الدين والتزامهم بدينهم، فتزداد إذا ازداد التديّن وتنقص إنْ نقص، فإن الدين لا يعمل في حياة الناس ولا يغير الواقع بعصا سحرية ولا بالدعاوى والتمنيات، إنما يعمل الدينُ عملَه ويترك أثره ويحقق نتائجه الجليلة وفوائده المذهلة بمقدار حرص أهله على تطبيق أحكامه والالتزام الصادق بأوامره والابتعاد الحريص عن نواهيه، وهذا كله من المسلَّمات التي لا يجهلها إنسان.

هذا هو الفرق الجوهري بين الدين والقانون، فإن القانون الأرضي الصارم يستطيع أن ينظف المجتمع من السرقة والغش والاحتيال والاستغلال والاحتكار وسواها من الموبقات، كلياً أو جزئياً، ولكنه لا يستطيع -مهما وضع من جوائز وعقوبات- أن ينشر في المجتمع الرحمة والتكافل والبِرّ والصدق والاستقامة والوفاء والإحسان وسائر الخصال الحميدة التي تُسعد الأفراد وتُصلح المجتمعات، والتي يرغب فيها المتدينون ويُقبلون عليها رجاء الفوز والسعادة والفلاح في عالم غير منظور، عالم غيبي لا تدركه حواسهم ولكنهم يؤمنون بوجوده وبأنهم إليه صائرون، فيقدّمون الكثير في هذه الدنيا رجاء الحصول على الأكثر في الآخرة، ويزرعون حياتهم بالصالحات على أمل الحصاد في دار الخلود.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين