لا يدري ولا يدري

من الناس من لا يدري ويدري أنه لا يدري، وهذا جاهل ويَعلم أنه جاهل، ويسمى جهله بالجهل البسيط.

أما قسيمه فهو الذي لا يدري ولا يدري أنه لا يدري، فيكون جاهلا بجهله، ويسمى جهله بالجهل المركب.

قد يستبعِد المرءُ أول وهلةٍ أن يكون هناك فئةٌ من الناس بهذا الوصف يُستحق الالتفات إليها، لكنَّ المثير في الأمر أنَّ الدراسات النفسية الحديثة أثبتت أنَّ هذه الحالة تمثل السوادَ الأعظم من البشر، وأنَّ الإنسان كلما كان أعظم جهلاً كان أعظم جهلاً بجهله، وقد صُنِّفت هذه الظاهرة علميًا في أنماط التفكير المنحرف

واصطُلح عليها بظاهرة "وهم التفوق"، ويُراد بها حالة المبالغة في تقدير الذات إلى درجةِ أن يعتقد فيها مواهب ومهاراتٍ ليست حقيقية، كأن يرى في نفسه ذكاءً حادًا، أو مهارة في فنٍّ ما ربما يمتلك مبادءه فحسب، مثل كتابة الشعر أو جمال الصوت أو التفقه وسعة الاطلاع، ولو تمت مصارحتُه بالحقيقة وأنه دون المستوى العاديِّ يضيق صدره ويغضب ويعدُّ هذا التقدير غيرَ منصفٍ وربما يتَّهم ناصحيه بأنهم مغرضون وذوو دوافع شخصية.

علماؤنا الأوائل لم يفُتهم ملاحظةُ هذا المرض ولا التنبيه إليه، من ذلك ما نُقل عن سهلٍ التستري - رحمه الله - أنه قال: "ما عُصيَ اللهُ تعالى بمعصيةٍ أعظمَ من الجهل، قيل: فهل تعرف شيئاً أشدَّ من الجهل؟ قال: نعم، الجهلُ بالجهل؛ لأنَّ الجهل بالجهل يَسُدُّ باب التعلُّم بالكُليَّة، فمن ظنَّ بنفسه العلم كيف يتعلَّم؟".

أما الإمام الشعبي فله مقولة مشهورة مسطورة: "العلمُ ثلاثةُ أشبار، فمن نالَ منه شبرًا شَمَخَ بأنفه وظَنَّ أنَّه نالَه، ومن نال الشبرَ الثانيَ صَغُرَت إليه نفسُه وعلم أنَّه لم ينَلْه، وأما الشبرُ الثالثُ فَهَيْهَاتَ لا ينالُه أحد أبدًا".

وما ذكره الشعبي هنا يمكن تعميمه في كل المهارات والمواهب والصفات الإنسانية، وإن كان في العلم أظهر.

ورحم الله عمر بن عبد العزيز فقد قال لولده يوما ناصحًا: رحم اللهُ امرءًا عرف قدر نفسه.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين