أزمة الغاز و الأخلاق وأزمة النصرة

تمر فصول الشتاء الأخيرة على السوريين قاسية من مختلف الجوانب, فالسنوات الفائتة مضت لتخلف مآسي في كل منزل سوري, فشهيد أو جريح أو لاجئ أو معتقل, و أوضاع اقتصادية متدنية وظروف معيشة تزداد حدتها يوماً بعد يوم.

لقد شكلت المدفئة التي طالما التف حولها أفراد الأسرة رمزاً جميلاً للذكريات يطلبه من بقي في سورية دون أن يدركه, فلا أفراد الأسرة بقوا في منزلهم ولا المدفئة تهيج نارها كما كانت في سابق السنوات. شوق يلتهب في قلوب الأمهات لذكريات من زمان -ربما لن يعود في وقت قريب- تهب ناره دون أن تنفع بتدفئة المنزل الذي يزداد برودة مع انخفاض أعداد أفراده, وانخفاض حصة المازوت التي توزعها السلطات المحلية على كل أسرة بما لا يتجاوز مئة لتر ربما تكفي للشهر الأول من الشتاء مع تدبير سيدات سورية اللواتي دبرن جيلاً عظيماً ينتشر اليوم في أنحاء المعمورة.

يزداد الكبت في قلوب الجميع, فشوق ومآسي وغلاء أسعار, وتسلط على رقاب الناس من قبل مسؤولي الحواجز الأمنية, يتبعه فقدان لمعظم ما تمتلكه سورية من مواد بوفرة نسبية, فالوقود التي استعاد النظام السيطرة على معظم حقوله في الأونة الأخيرة لا يتم منحه للسيارات إلا بموجب بطاقة وبكميات محدودة, ولا يمكن للأسرة أن تحصل على مازوت التدفئة إلا بكمية تكفي للأسبوعين الأولين فقط من فصل الشتاء, والخبز تراجعت جودته وزادت طوابير الناس للحصول عليه رغم انخفاض الطلب المتمثل بانخفاض أعدد سكان سورية بشكل كبير, والخضروات والفواكه تضاعفت أسعارها نتيجة سيطرة شبكات من الشبيحة على عملية النقل داخل المناطق السورية مما يرفع تكلفتها, كذلك المواد الغذائية المعبأة وعدد من المواد الأخرة.

في شهر آيار 2018 افتتح عماد خميس رئيس حكومة النظام الحالي مشروعاً للغاز شمال دمشق, تضمن إنجاز 4 آبار غاز بقيمة تصل إلى 4 مليارات ليرة سورية ومحطة قارة ومحطة البريج للغاز بقيمة تصل إلى مليار ليرة سورية وإنشاء خطوط نقل الغاز بتكلفة مليارين ونصف المليار ليرة سورية إضافة إلى أعمال العقد البالغة أكثر من مليار ليرة سورية وتم ربط الخطوط مع الشبكة السورية للغاز, وأكد خميس حينها "أن هذه المشاريع تعبر عن قوة الحكومة والجيش وتؤكد على الانتصارات", ومن يقرأ الأرقام أعلاه يستطيع بسهولة أن يدرك أن المليارات السورية الأربعة التي يتحدث عنها خميس بالكاد تصل إلى 8ملايين دولار أميركي بعد تدهور العملة السورية, وهو ما يساوي سعر موكب سيارات محمد رامي مخلوف مثلاً أو ابن أي مسؤول في نظام الأسد, وليست ضألة الاستثمار هو ما يثبت الأمر, ولكن أزمة الغاز التي تمر بها العاصمة دمشق -التي تبعد عن المشروع بضعة كيلو مترات -وبقية المحافظات بطبيعة الحال تؤكد على أن مثل هذه المشاريع ليست إلا صوراً يحاول المسؤولين رسمها للناس داخل وخارج سورية من أجل الهروب إلى الأمام والحديث عن "النصر" الذي تؤكده الانجازات التي يقوم بها النظام اليوم, حيث يستطيع المتتبع لأخبار هذه المشاريع أن يقرأ عن مشاريع من قبل "حفل إعادة افتتاح دوار الملعب" و"حفل تأسيس فريق كارتيه أشبال الأسد" وماإلى ذلك من أعمال وهمية تخفي ورائها خراب البلاد على أيدي من يدعون "إعادة إعمارها".

يحاول نظام الأسد جاهداً إقناع العالم أنه تجاوز أزمته, وبأنه بسط سيطرته على الأرض, وبأنه يبني مشاريع في مختلف المجالات وبشكل يومي لا تلبث أن تكذبها الوقائع والأحداث التي تجري على ذات الأرض, فكل المدن السورية التي دمرتها آلته لا تزال ركاماً منسياً رغم ادعائاته المتكررة بأنه بدء "إعادة الإعمار", ومعظم المشاريع الاقتصادية التي يدعي انجازها لا وجود لأثارها على أرض الواقع, فالأزمات الاقتصادية تتزايد يوماً وراء يوم, وعندما تفشل خطط ترويج هذه المشاريع وتظهر الأثار العكسية لها على أرض الواقع يبدأ الوجه الحقيقي للأسد بالظهور, فالمعترضين عن أزمة الغاز إنبرى للتصدي لهم ابن عم الأسد -بجلالة قدره- عبر فيديو بثه مباشرة على صفحته ليرميهم بأقبح الأوصاف, ويهدد كل من يعترض بالمواجهة و العنف, ويحلل ويفسر سبب الأزمة بأنها مؤامرة كونية على نظام الأسد وحكومته قامت بها أمريكا, وعلى الفور تبدأ الشتائم المساندة من قبل بقية أبناء النظام والمنافحين عنه للجميع دون أي مراعاة لهم أو تقديرٍ لرأيهم مهما كان بسيطاً أو حتى لو حاولوا الاستفسار عن أمر ما, لننتقل من أزمة الغاز والليرة والمازوت وغيرها من مصائب البلد الفرعية إلى أزمة الأخلاق التي يتعامل بها الأسد ونظامه مع الجميع.

الأمهات المتحرقات شوقاً للترٍ من المازوت أو قليلٍ من الغاز, ليس للتدفئة ولا للطبخ ربما بل لاستعادة ذكريات الأبناء و"لمة العيلة" عند المدفئة أو على سفرة الغداء, يواجهن بأبشع الألفاظ وبأقذر العبارات عندما يجربن أن يتسائلن عن سبب غياب أو شح بعض المواد التي أعلنت "الحكومة" قبل أيام توافرها بكميات كبيرة وافتتاح "مشاريع" لتزويد السكان بها.

هذا المشهد الذي يتكرر في سورية منذ سنوات يبدو ساكناً وثابتاً ونمطياً كونه حلقة لا بداية لها ولا نهاية, كذبة فأزمة فمواجهة بوجه قبيح وضمير ميت مجرد من الأخلاق لإسكات الناس, تتولد معه أزمة أخرى وهالمجرى.... ثم سرعان ما يأتي من يكسره بوقاحة تكتسي بشيء من الطرافة أحياناً مستفيداً من المسألة كلها لبناء مجدٍ جديد, أو ثروة أو "تحقيق مصلحة أو درء مفسدة", فعلى سبيل المثال ما إن بدأت أزمة الغاز في مناطق النظام حتى انبرت شركة وتد التابعة لجبهة النصرة بسد العجز الحاصل في مناطق النظام عبر بيعه جرراً معبئة في معاملها في الشمال السوري, بأسعار تفوق بضعفين أو ثلاثة أضعاف سعرها الحقيقي, وبكميات يومية متواترة. وعندما يسأل "المؤمنون " بفكر النصرة عن سبب بيع النصرة هذه الكميات الكبيرة للنظام, تأتي الفتوى بأنها لمساعدة المساكين من أهل السنة في مناطق النظام!, رغم أن مئات الآلاف في المخيمات الواقعة في مناطق سيطرتهم يأملون بالحصول على وقود أو حتى حطب لتلبية حاجاتهم, هذه الفتوى تأتي مترافقة مع فتوى أخرى ربما تتعلق بها أو تمهد لما هو أبعد من ذلك بكثير, حيث تصدر فتوى "بجواز شراء سلع الكفار أو بيعهم" قبل أيام لتصدر حكومة الإنقاذ أمراً إدارياً بالسماح باستيراد المواد إيرانية الصنع مهما كانت وإدخالها إلى المنطقة الخاضعة لسيطرتهم.

آلام وأشواق وأرواح معزبة وأحلام صغيرة مؤجلة, يقابلها انعدام في الأخلاق والضمير ثم توظيف حقير لكل هذه الألام والأحلام واستغلال لانعدام الأخلاق من أجل مكاسب قد تبدو كبيرة.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين