بين امتحانات الدنيا وامتحانات الآخرة

الشيخ: مجد مكي

 

كلما أقبلت مواسم الامتحانات، ورأيت الطلاب والطالبات منكبين على دروسهم منهمكين في مذاكرتهم، مشغولين بيوم آت قريب ،يوم الامتحان، يوم يكرم المرء أو يهان، مترقبين هذا اليوم باهتمام وحرص، وقلق وخوف، ذكرني ذلك بامتحان أكبر ، يغفل عنه الناس، ويضعونه دبر آذانهم، ذلك الامتحان الأكبر هو امتحان يوم القيامة.

الناس ينشغلون بامتحانات الدنيا، ينشغل الطالب وأهله، ينشغل الأبناء والبنات والآباء والأمهات، تنشغل الأسرة كلها بهذه الامتحانات، وتسر إذا كانت النتيجة حسنة، وتساء إذا كانت النتيجة سيئة، فبيت فرح مسرور، وبيت آخر آسٍ حزين.
إلا أن امتحانات الآخرة أشد خطراً، وأبقى أثراً، امتحانات الدنيا مهما تكن نتائجها تهون، لأن الامتحان يمكن أن يعوض، يمكن أن يكون له دور ثان، يمكن أن يعيد السنة ويستدرك ما فات.
أما امتحان الآخرة لا تدارك فيه.

امتحان الآخرة يمتحن فيه المكلفون جميعهم، عربهم وعجمهم، ذكرهم وإناثهم، غنيهم وفقراؤهم، حكامهم ومحكوموهم، فهم جميعاً يمتحنون في هذا اليوم.

فماذا قدموا لهذا اليوم، هل زرعوا فهم يحصدون، أم فرطوا وأضاعوا ؟! اليوم عمل ولا حساب، وغداً حساب ولا عمل، اليوم الزرع وغداً الحصاد.

إذا أنت لم تزرع وأبصرت حاصداً      ندمت على التفريط في زمن البذر

هذا زمن البذر، الدنيا مزرعة الآخرة، فمن أراد أن يحصد غداً فليزرع اليوم، فليقدم لنفسه قبل أن يأتي يوم الامتحان.
امتحان الآخرة لا غش فيه، إذا كان الناس يغشون في امتحانات الدنيا، ويعاون بعضهم على الإثم والعدوان، فليس في امتحان الآخرة غش، وليس فيه مساعدة، لا يساعد أحد أحداً، لا يساعد الابن أباه، ولا الأب ابنه، ولا الزوج زوجه، ولا الصديق صديقه، كلٌّ مشغول بنفسه، كما قال تعالى:[فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ] {عبس:33}. كل إنسان يقول: نفسي نفسي:[يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللهِ الغَرُورُ ] {لقمان:33}.يوم الأنانية المفرطة، والفردية المطلقة، حتى الأبوة والأمومة، والعواطف الحانية لا وجود لها.

كلٌّ يطلب النجاة لنفسه، لا يدري قد ينقص ميزانه حسنة واحدة، فكيف يمنحها لغيره ؟ الميزان بالحسنات والسيئات، التعامل ليس بالدرهم والدنيار، ولا بالدولار والريال، ولكن العملة الوحيدة في ذلك اليوم: الحسنات والسيئات،: يحشر الناس حفاة عراة غرلاً ـ غير مختونين ـ فقالت عائشة رضي الله عنها: الرجال والنساء جميعاً ينظر بعضهم إلى بعض؟! فقال صلى الله عليه وسلم: الأمر أشد من ذلك، كلٌّ مشغول بنفسه:[لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ] {عبس:37}.
كلٌّ مشغول بمصيره؟ أيسعد سعادة الأبد، أم يشقى شقاوة الأبد؟ أيكون من أهل الجنة أم يكون من أهل النار؟
الناس أصناف ثلاثة في استعدادهم ليوم الحساب الأكبر والامتحان الأعظم:

1 ـ صنف لا يؤمن بالآخرة، يظن أنه خلق لهذه الدنيا وحدها، لا يؤمن بحساب ولا جزاء ولا جنة ولا نار، أولئك هم الماديون والشيوعيون والدهريون وغيرهم من الملاحدة قديماً وحديثاً، أولئك الذين ظنوا قصة الحياة أرحاماً تدفع وأرضاً تبلع، ولا شيء وراء ذلك: [وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ] {الجاثية:24}.

لماذا إذاً هذا الخلق ؟ ولماذا كانت هذه الحياة؟ إذا كانت ستنتهي ولا حياة بعد ذلك، ولا حساب ولا جزاء، وقد نهب الغاصب  ، وسرق السارق، وظلم الظالم، وطغى الطاغي، وقتل القاتل، إذا كان هؤلاء ستطوى صفحاتهم ولا يجازى أحد بعمله؟ فأين العدل إذن؟ أين الحكمة؟ إن بعض هؤلاء قد فرّ من عدالة الأرض فهل يفرّ من عدالة السماء؟ إذا لم يكن هناك آخرة فلا عدل.

كيف يسوى الظلمة الطغاة بآخرين نصروا الحق، وقاوموا الظلم، وأمروا بالمعروف، ونهوا عن المنكر، وأعلن الطغاة حرباً عليهم، وساموهم سوء العذاب، فشرد من شرَّد، وقتل من قتل، وعُذب من عذب؟

أينتهي الأمر بنجاة أهل الباطل والظلم، وإبادة أهل الحق والخير؟ وقد قضي الأمر وختم الكتاب وأسدل الستار؟!
هذا هو الباطل الذي يتنزّه الله تعالى عنه، هذا هوالعبث الذي لا يليق بحكمته وجلاله، ولهذا يقول الله تعالى:[أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ] {المؤمنون:115}.ويقول عزَّ وجل:[وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ] {ص:27}.

[أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ] {الجاثية:21}.

لابدَّ من جزاء عادل لابدَّ أن توفى كل نفس ما كسبت إن خيراً فخير، وإن شراً فشر:[فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ] {الزَّلزلة:7}. [وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ] {الزَّلزلة:8}
هناك عدالة إلهية شاملة، وميزان عادل لا جور فيه، هناك قصاص لابدَّ منه، حتى إنه ليقتص من الشاة الجلحاء التي لا قرون لها من الشاة القرناء التي اعتدت عليها ونطحتها.
فالصنف الأول من الناس لا يؤمنون بالآخرة يستبعدون أن يعيد الله خلقاً بدأه:[وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ....] {الرُّوم:27}. [وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي العِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ  قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ] {يس:79}. هؤلاء هم الماديون الذين قال الله فيهم:[إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آَيَاتِنَا غَافِلُونَ أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ] {يونس:8}.

وهناك صنف آخر يؤمن بالآخرة، يؤمن أن بعد الموت بعثاً، وبعد البعث حساباً، وأن هناك جنة وناراً، ولكنهم غافلون عن هذا المصير، غرقوا إلى آذانهم في دنياهم، عاشوا ليومهم ونسوا غدهم، أحبوا الدنيا ونسوا الآخرة، أحبوا المال ونسوا الحساب، أحبوا الخلق ونسوا الخالق، أحبوا القصور ونسوا القبور، هؤلاء مؤمنون بالآخرة، ولكنه إيمان ضعيف، لا يبعث على عمل، ولا يحفز إلى خير، ولا يروع عن شر.
أكثرنا ـ للأسف ـ من هذا الصنف الثاني، نؤمن بالآخرة، ونصدق بيوم القيامة، والجنة والنار، ولكن من منا يذكر ذلك في مصبحه وممساه، وغدوته وروحته، وجلوته وخلوته، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لابن عمر رضي الله عنهما: " كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل» ، وكان ابن عمر يقول:" إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح.. وخذ من صحتك لمرضك، ومن حياتك لموتك» رواه البخاري.

ما يدريك أنك إذا أصبحت ستعيش إلى المساء؟ وما يدريك إذا أمسيت ستعيش إلى الصباح؟ الأمر ليس بيدك، والأجل مجهول:[إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ] {لقمان:34}.

ونحن نعرف في هذا العصر موت الفجأة.. الذبحة الصدرية، السكتة القلبية، الموت بالحوادث، حوادث السيارات أو الطائرات... قد لا تخطئ أنت ولكن يأتي من يدهمك ويقضي عليك، قد تكون ماشياً على قدميك فيأتي من يصعد إلى حافة الطريق ويصدمك فتلقى أجلك.

بعد الموت هناك القبر، وبعد القبر هناك الحشر، ثم الموقف، ثم الحساب، ثم الميزان، ثم الصحف، ثم الصراط، ثم الجنة  أو النار.

كان عثمان رضي الله عنه إذا وقف على قبر يبكي حتى يَبُلَّ لحيته، فقيل له : تذكر الجنة والنار فلا تبكي وتذكر القبر فتبكي؟ فقال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: « القبر أول منزل من منازل الآخرة، فإن نجا منه فما بعده أيسر منه، و إن لم ينج منه فما بعده أشد» ، وسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: « ما رأيت منظراً قط إلا والقبر أفظع منه».

قال هانئ مولى عثمان رضي الله عنه: وسمعت عثمان يُنشد على قبر:

فإن تنجُ منها تنج من ذي عظيمة        وإلا فإني لا أخالك ناجيا

ما رأيت منظراً إلا والقبر أفظع منه، ما أصدقها كلمة! وما أبلغها عبرة! ولكن لإلفنا هذا المنظر أصبح لا يؤثر فينا.
تصوروا إنساناً يعيش حياة ناعمة... في بيت مكيف... أثاث ورياش، في قصر ضخم، وحوله خدم وحشم، ينتقل بعد ذلك إلى هذه الحفرة؟!! يوضع فيها وحده، لا أنيس ولا جليس، لا خدم ولا حشم، لا حراس، ليس معه إلا عمله.

هب أن عنده ملايين هل يصحب منها شيئاً ؟ هل توضع معه صناديق الذهب، هل يرشي منكر ونكير ؟ لا...
إذا مات العبد قالت الملائكة: ماذا قدم ؟ وقال الناس: ماذا خلف؟ كم ترك من رصيد في البنوك؟ كم ترك من عمارات وبنايات؟ كم ترك من عقار وأموال؟ الملائكة تسأل: ماذا قدم ؟ لأن الذي ينفعه ليس ما خلفه وإنما ما قدمه؟ ما خلفه يتضرر به، إذا جمعه من غير حله، أو بخل به عن حقه، وتركه لمن لا يؤدون حق الله فيه.

بعد القبر.. يأتي المحشر.. يأتي الحساب...أخذ الكتب .. المرور على الصراط  تأتي المراحل كلها، ولذلك كان الموت أهون مما بعده؟

والصنف الثالث: هم الذين يؤمنون بالآخرة ويعيشون لها، ويسعون سعيها: [وَمَنْ أَرَادَ الآَخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا] {الإسراء:19}.

هؤلاء هم المؤمنون الصادقون الذين يعلمون أن الدنيا دار ممر لا دار مقر، وأنها مزرعة للآخرة، وأنهم لم يخلقوا للدنيا، وإنما خلقت الدنيا لهم، خلقوا للآخرة، فيتخذون الدنيا مطية إلى الآخرة.

يذكرون الآخرة دائماً، كان عمر يقول:«لولا يوم القيامة لكان الأمر غير ما ترون» كل إنسان يعبُّ من الشهوات، ويرتكب من الموبقات، وكانت الحياة غابة يفترس فيها القوي الضعيف، لكن القيامة هي التي جعلت عمر يعف عن المال العام، ويلبس الثوب المرقع، وكنوز كسرى وقيصر تأتي إليه.

سئل بعض السلف: كيف أصبحت؟ فقال: قريباً أجلي، بعيداً أملي، سيئاً عملي، وسئل الشافعي: كيف أصبحت؟ فقال: من الدنيا راحلاً، وللإخوان مفارقاً  ، ولسوء عملي ملاقياً، ولكأس المنية شارباً ،  وعلى الله وارداً.

ولا أدري روحي تصير إلى الجنة فأهنيها أم إلى النار فأعزيها

ولما قسا قلبي وضاقت مذاهبي           جعلت رجائي نحو عفوك سلما
تعاظمت ذنبي فلما قرنته                      بعفوك كان عفوك أعظما

لو أن الناس استحضروا الآخرة.. القبر... الموت... الميزان... الصراط... الجنة... النار... لانحلت مشكلاتهم... لما رأينا الصراع على المتاع الأدنى.

لقد بدأ موسم الامتحان فاهتم له الجميع، فالتلاميذ الآن يعيشون على خوف وقلق، وهم يبذلون جهودهم لينالوا فوزاً يرتجونه، يغدون في الصباح على رجاء وأمل، ويعودون في الظهيرة على مراجعة وتقدير لما قدموا، ويقضون ليلهم في استذكار واستعداد. والآباء يمسكون قلوبهم بأيديهم خوفاً على مصير أبنائهم، والمدرسون في إرهاق وضيق، يقضون صباحهم في المراقبة ومساءهم في التصحيح.

أيها المسلمون : الامتحان مأخوذ من المحنة، بمعنى: الابتلاء والتمحيص والتهذيب.
تقول: محنت الذهب  : إذا عرضته على النار لتصفيته من الأوشاب التي علقت به.
ويقولون: عند الامتحان يكرم المرء أو يهان، وذلك لأن الامتحان يكشف حقائق الناس، فإما أن ينجح فيستحق التقدير والتكريم، وإما أن يفشل فيبوء بالخيبة والخسران.
وقد جاء ذكر الامتحان بمادته الصريحة في موضعين في القرآن الكريم: أولهما: في قوله تعالى:[إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ] {الحجرات:3}. أي: إن الذين يتأدبون بأدب الإسلام ويحفظون الوقار مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا يرفعون أصواتهم عنده، بل يتكلمون بصوت رقيق يدل على الأدب والذوق والطاعة، أولئك هم الذين أصلح الله قلوبهم وهيأها للتقوى.

والموضع الثاني في قوله تعالى:[يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ المُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ] {الممتحنة:10}. وذلك أن نساء متزوجات من مشركين كنَّ يُسلمن في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم ويُهاجرن من مكة إلى المدينة، فأمر الله المؤمنين أن يمتحنوا هؤلاء النساء حتى يتبين لهم أنهنّ أسلمن حقاً وصدقاً، وذلك بأن تحلف المرأة بالله  : أنها لم تهاجر كراهة لزوجها ولا حباً لرجل من المسلمين، ولا التماساً لمتاع الدنيا، بل حباً لله ورسوله، فإذا تبين صدق المرأة أبقاها المسلمون بينهم، وردوا على زوجها المشرك ما أنفقه عليها من مال.

 أيها المسلمون : إننا في امتحان طويل خلال هذه الحياة:[الَّذِي خَلَقَ المَوْتَ وَالحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ العَزِيزُ الغَفُورُ] {الملك:2}.وما خلقنا  الله إلا ليمتحننا ويبتلينا . امتحننا بالإيمان به  ،والاسلام له ،  وتحقيق العبودية له سبحانه ، وبعد امتحان إرادتنا الحرة وهي الأمانة الكبرى التي شرفنا الله بها ، امتحننا الله سبحانه بانواع أخرى من المحن  .

يمتحن الله عباده بالصحة ليرى كيف يستخدمونها، وبالمال لينظر كيف ينفقونه، وبالجاه ليعلم كيف يستعملونه، والسؤال على ذلك كله عند الله العلي الكبير، وفي الحديث: «لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن عمره فيم أفناه  ، وعن شبابه فيم أبلاه، وعن علمه ماذا عمل به، وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه».
ومن الناس من لا يعنيه أمر هذا الامتحان، ويرتع في الدنيا كما يرتع الحيوان  ، ويشبع منها كما تشبع البهائم، ولا يعنيه بعد ذلك أعمرت أخراه أم خربت: [فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آَتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآَخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ] {البقرة:200} .
ومن الناس أخيار عقلاء يرتقبون الآخرة ويتطلعون إلى الباقية: [وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آَتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآَخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ] {البقرة:201}. أيها المسلمون : امتحانات الدراسة مهما بولغ في ضبطها والتشديد فيها لا يمكن أن تكون مثالية كاملة، لأن عيوبها كثيرة عسيرة، ومهما كان الامتحان في هذه الحياة صعباً واسعاً، فإنه لن يبلغ مبلغ الامتحان الأكبر الذي يجريه الإله الأعظم حين يمحص ما في النفوس ويحصل ما في الصدور، ويؤتي كل إنسان كتابه الذي لا يفرط في قليل أو كثير:[وَوُضِعَ الكِتَابُ فَتَرَى المُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا] {الكهف:49}.
[وَنَضَعُ المَوَازِينَ القِسْطَ لِيَوْمِ القِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ] {الأنبياء:47}.
ولقد يرسب المرء في امتحان هذه الحياة مرة ويفوز مرة أخرى، وقد يفشل في محاولة فيعوضها بالنجاح في محاولة ثالثة، ولكن الذي يفشل  في الامتحان بإيمانه وإسلامه وعبوديته لربه في رحلة الحياة القصيرة  فهو الخسران الذي لا يعوض،  ويستوجب غضب الله  وعقابه ، ويسجل على نفسه الخسران الدائم، والعذاب المستمر:[ وَلَعَذَابُ الآَخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى] {طه:127}.
ويحاول كثيرون في امتحانات هذه الحياة أن يختلسوا معلومات غيرهم وأن ينقلوا عن سواهم، وفيهم من يفلت من عين الرقيب وينجو من وطأة العقاب، ولكن  امتحان الله لا يستطاع فيه غش أو اختلاس، ولا يمكن فيه استعانة المرء بغيره:[وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى] {النَّجم:39 ـ 40}.
ولو حاول إنسان أن يستنجد بغيره يومئذ فلن يجد السميع أو ا لمستجيب.
فالهول أكبر من ذلك بكثير[يَوْمَ يَفِرُّ المَرْءُ مِنْ أَخِيهِ(34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ(35) وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ(36) لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ(37)]. {عبس}.. [وَلَا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا] {المعارج:10}.
يا أبتاع محمد صلى الله عليه وسلم: عند الامتحان يكرم المرء أو يهان، ونحن في امتحان موصول، متعدد الجوانب متشعب الفروع، فلنحسن الاستعداد لهذا الامتحان، ولنقبل عليه بإيمان وعمل صالح[وَالعَصْرِ(1) إِنَّ الإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ(2) إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ(3) ]. {العصر}..
يتمنى الفاشلون في امتحان الدنيا  العودة إلى الدنيا حين ينزل بهم الموت: [حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ المَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ] {المؤمنون:99 ـ100}.
ويتمنون الرجعة حين يدخلون جهنم: [وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ] فيقال في الجواب: [أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ] {فاطر:37}. 
ويتمنى العصاة المفرِّطون ، طول المدة في الدنيا وتأخير الموت، ليستدركوا ما فاتهم في حياتهم الدنيا: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الخَاسِرُونَ وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ المَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ] {المنافقون:9 ـ 10} .
يبدأ امتحان الآخرة بالسؤال في البرزخ:و سؤال القبر حق يتناول المسلم والكافر والمنافق، فيسأل عن اعتقاده بالله ورسوله على وجه الاختبار والامتحان،  وهناك يدهش المسؤول أو يذهل أو يحار لهول الموقف، إلا أهل الإيمان الراسخ فإنه سبحانه يثبتهم ويلهمهم الجواب الصحيح:[يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آَمَنُوا بِالقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآَخِرَةِ وَيُضِلُّ اللهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللهُ مَا يَشَاءُ] {إبراهيم:27}.
والقول الثابت هو: لا إله إلا الله محمد رسول الله، فهو أثبت الثابتات وأقوى اليقينيات وأقوم القطعيات، وتثبيت المؤمنين بالقول الثابت في الحياة الدنيا مما يعتريهم من الوساوس والشبهات من قبل الإنس والجن، وحفظهم من الزيغ والميل إلى الضلال. وأما تثبيتهم في الآخرة فذاك حين يسألون في قبورهم.
ومن مواقف الامتحان في الآخرة : موقف  الحشر: [وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا] {الكهف:47}. روى الشيخان عن عائشة رضي الله عنها مرفوعاً: " يحشر الناس يوم القيامة حفاة عراة غرلاً ـ غير مختونين ـ " . قالت عائشة: الرجال والنساء جميعاً ينظر بعضهم إلى بعض؟ فقال صلى الله عليه وسلم: يا عائشة الأمر أشد من أن ينظر بعضهم إلى بعض.
 وفي ذلك الموقف من مواقف الامتحان في الآخرة تدنو الشمس من رؤوس الخلائق . روى مسلم عن المقداد بن الأسود مرفوعاً: تُدنى الشمس يوم القيامة من الخلق حتى تكون منهم كمقدار ميل فيكون الناس على قدر أعمالهم في العرق، فمنهم من يكون إلى كعبيه، ومنهم من يكون إلى ركبتيه، ومنهم من يكون إلى حقويه، ومنهم من يلجمه العرق إلجاماً، وأشار رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده إلى فيه».
ومن مواقف الامتحان في الآخرة : السؤال : [فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ] {الحجر:92} . [فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ المُرْسَلِينَ] {الأعراف:6}.
يُسأل العباد عن: لا إله إلا الله، وعن مواقفها مع رسول الله صلوات الله عليهم أجمعين، وكما يسألون عن قضايا الإيمان، يسألون عما كلفوا به من الأعمال وأعظمها الفرائض ، وأهمها الصلاة: "إن أول ما يسأل عنه العبد يوم القيامة: الصلاة...».
ويسأل الإنسان عن أهله وعما استرعاه الله تعالى: " كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته، الإمام راع... والرجل راع... والمرأة راعية في بيت زوجها... والخادم راع...».
ويسأل الإنسان عن سمعه وبصره وفؤاده: [إِنَّ السَّمْعَ وَالبَصَرَ وَالفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا] {الإسراء:36}.
وهناك السؤال عن العمر والعلم والمال والجسم والشباب: روى البيهقي من حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه:« ما تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع: عن عمره فيم أفناه، وعن شبابه فيم أبلاه، وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه، وعن علمه ماذا عمل به».
وهناك السؤال عن النعيم: عن صحة البدن ولذة الشراب والمطعم:[ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ] {التَّكاثر:8}.
 ومن مواقف الامتحان في الآخرة :أخذ الكتاب: [يَا أَيُّهَا الإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ] {الانشقاق:6} . أي: جاهد في عملك إلى أن تلقى ربك بعد الموت، فملاقية: فيجازيك على كدحك في الدنيا: إن كان خيراً فخير، وإن كان شراً فشر، [فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ(7) فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا(8) وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا(9) وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ(10) فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا(11) وَيَصْلَى سَعِيرًا(12) إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا(13) إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ(14) بَلَى إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيرًا(15) ]. {الانشقاق}..
وقال تعالى [فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ(19) إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ(20) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ(21) فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ(22) قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ(23) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأَيَّامِ الخَالِيَةِ(24) وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ(25) وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ(26) يَا ‎لَيْتَهَا كَانَتِ القَاضِيَةَ(27) مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ(28) هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ(29) خُذُوهُ فَغُلُّوهُ(30) ثُمَّ الجَحِيمَ صَلُّوهُ(31) ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ(32) إِنّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللهِ العَظِيمِ(33) وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ المِسْكِينِ(34) فَلَيْسَ لَهُ اليَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ(35) وَلَا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ(36) لَا يَأْكُلُهُ إِلَّا الخَاطِئُونَ(37) ]. {الحاقَّة}..
إن حياة الأفراد والأمم في الحياة الدنيا  كلَّها سلسلة من الامتحانات، ولا ينقضي واحدٌ منها حتى يبدأ الآخر.
يمتحن المرء  في ماله فتصيبه جائحة تذهب بما ملك، فيختبر عزمه وحزمه، أيستأنف جهاده من جديد ليعوِّض ما ذهب؟ أم تشلُّ الجائحة حركته فيقعد قانطاً... ويمتحن المرءُ في خلقه، فيتعرض لمواقف كثيرةٍ، ومغريات كثيرة، تختبر فيها استقامته في سلوكه وأمانته. أينتصر على نفسه، أم تنتصر تليه نفسه ويطغى عليه هواه.
ويمتحن المرء في دينه، أمام الفتن الآسرة، والشهوات الفاجرة، أيرغب عن ذلك اعتصاماً بدينه، ويذكر قوله سبحانه:[وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الهَوَى] {النَّازعات:40}. أم يسقط عند التجربة الأولى ويتمرغ في الأوحال.
وتمتحن الأمم أيضاً حين ينزل بها بلاء أو تفتك بها مجاعة، فتختبر في صبرها وصمودها، وتعاونها وإيثارها.
وأقسى الامتحانات التي تتعرض لها الأمم، إنما تكون حين يعدو على حرماتها عدوٌ باغ، ويحتل ديارها دخيل طاغ، فعند ذلك يكون الاختبار الكبير.وبمقدار نجاح المؤمن في امتحانات الدنيا يكون فلاحه وفوزه ونجاحه في امتحان الآخرة .
 أيها المسلمون : لقد اعتمد الرسول المعلم الامتحانات سبيلاً إلى التعليم والتوجيه والتمييز.
وإعطاء كل ذي حق حقه، ووضع الشخص المناسب في المكان المناسب.
فها هو صلوات الله وسلامه عليه يختبر معاذ بن جبل حين بعث به إلى اليمن:
كيف تصنع إن عرض لك قضاء ؟ قال: أقضي بما في كتاب الله، قال: فإن لم يكن؟ قال: فبسنة رسول الله. قال: فإن لم يكن في سنة رسول الله ؟ قال: أجتهد رأيي ولا آلو.
فابتهج رسول الله صلى الله عليه وسلم لنتيجة الامتحان ،  وضرب صدر معاذ قائلاً: " الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله لم يُرضي رسول الله ».
وهو اختبار لأكثر من ناحية، حري أن يحتذى في اختبارات الموظفين فيختبر كل امرئ فيما ندب نفسه له.
والرسول صلى الله عليه وسلم يختبر ذكاء أصحابه أيضاً، فعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم فأتي بجمّار (شحم النخل) ‘ فقال : إن من الشجر شجرة مثلها كمثل المسلم، حدثوني ما هي؟ فأردت أن أقول هي النخلة، فإذا أنا أصغرُ القوم فسكتُّ، قال النبي صلى الله عليه وسلم: هي النخلة ـ أخرجه البخاري ـ.
وهو صلى الله عليه وسلم يختبر قدرات بعضهم الجسدية على ما ندبوا أنفسهم له من عمل  ، فيوم أحد جاء صبيان المسلمين يسألونه صلى الله عليه وسلم أن يأذن لهم بالقتال ،  فردَّهم لصغر أعمارهم، وكان فيهم: سمرةُ بن جندب، ورافع بن خديج، وأسامة بن زيد، وعبد الله بن عمر، وزيد بن ثابت، وغيرهم، وكانوا يومئذ يقاربون الخامسة عشرة، فردَّهم لصغر أسنانهم، فقيل له: يا رسول الله إن رافعاً رام، فأجازه، فجعل سمرة يبكي، ويقول: أنا أقوى، أنا أصرعه.. فاختبره الرسول صلى الله عليه وسلم فصرعه، فأجازه أيضاً وردَّ الباقين.
إن أبناءنا الطلاب سيتقدمون إلى الامتحانات، وأبادر فأقول لهم: ليست الامتحانان بمحنة كما يتصور بعضهم  ، وإنما هي مجال رائع لإبراز التفوق، وميدان رحب لإظهار النبوغ، وحصادٌ يانع الجنى طيب الثمرات لعام كامل من الحرث والبذر والمثابرة، إنها أشبه ما تكون بالأيام الخصبة الغنية التي يقضيها المزارع إبان القطاف...
أما الطلاب الذين يريدون أن يحصدوا من غير أن يزرعوا، فأولئك هم الذين يعتريهم الجزع، ويصيبهم الهلع.
 الخطبة الثانية : كيف تعدُّ العدة للامتحانات؟
1 ـ المذاكرة: إن بعض الطلاب يحسبون أن إجازة المذاكرة فرصة للتعلم ونحن نقول: إن هذه الفترة ما هي إلا للمراجعة، لمراجعة ما دونته من ملاحظات، وما كتبته من ملخصات.
والمربون ينصحون بأن يعتمد الطالب في مذاكرته خطة ذات أربع مراحل:
التصفح، السؤال، القراءة، الاستظهار.
التصفح: ليكوِّن فكرة عامة عن المباحث، يقرأ مقدمة الكتاب وعناوينه الكلية والجزئية، ويمر به مروراً سريعاً يجعل هيكله العام ماثلاً أمام عينيه.
ثم انتقل بعد ذلك إلى الخطوة الثانية: الأسئلة... لأن طرح الأسئلة على النفس إنما هو التعلم.. وحاول أن تستنبط الأسئلة وأن تلتمس لها جواباً.
 ثم انتقل بعد ذلك إلى الخطة الثالثة: إلى خطوة القراءة، ولابد أن تقرأ لتفهم وتناقش وتركز...
فإذا فرغت من خطوة القراءة ، فانتقل إلى الخطوة الرابعة: خطوة الاستظهار.. ولا نعني بالاستظهار أن تحفظ ما قرأته عن ظهر قلب.. وإنما نعني: أن تكون قادراً على تمثل أفكاره الرئيسية، وأفكاره الهامة، والتعبير عنها بأسلوبك الخاص.
في قاعة الامتحان: ادخل قاعة الامتحان قبل موعده بعشر دقائق، ولا تكثر الجدل مع الآخرين حول بعض المشكلات العلمية، ولا تعتمد إلى مراجعة كتابك، وتصفح ملخصاتك لأنك لن تجني من ذلك إلا الإثارة والتشويش.
اقرأ ورقة الأسئلة بتدبر، وبادر بالإجابة عن الأسئلة المعروفة لديك، ولا ترجئها إلى ما بعد...
وعليك أن تدرك مصطلحات الأسئلة المطروحة عليك من أمثال:
وازن، وعرف، ووضح، وناقش، وعدد...
ولا يفتك أبدأ أن تُسلسل الأفكار، وتُنظّم الإجابة، واجعل خطك واضحاً لأن المصحح لا يستطيع منحك درجة على كلام لم تمكنه أنت من قراءته ،  وابتعد عن الإيجاز المخل والاطناب الممل.
ولكتن لغتك سليمة، فإن لأخطاء اللغة والنحو والصرف والإملاء أثراً كبيراً في الصورة التي تعطيها عن نفسك.
لا تتردد وتبدِّل الإجابات...
وإذا فرغت من إجابتك فراجع ورقة إجابتك بأناةٍ، وإذا سلمت ورقة امتحانك إلى المراقب فلا تفكر فيما كتبته، فإن تفكيرك سيدفعك إلى سوء التقدير مما يكون له تأثير كبير على استعدادك للمادة التالية.
وبعد: فهذا الامتحان الصغير الذي تكدح له كلَّ هذا الكدح، وتحسب له كل هذا الحساب وأسوأ نتائجه أن يرسب المرء سنة في صف فما بالك بالامتحان الأكبر.[يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ] {الشعراء:88}.
 [يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالفَرَاشِ المَبْثُوثِ] {القارعة:4}.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين والحمد لله رب العالمين.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين